معالجة الفساد الاداري في المنظور الاسلامي في ضوء بعض آراء واطروحات شهيد المحراب
معالجة الفساد الاداري في المنظور الاسلامي في ضوء بعض آراء واطروحات شهيد المحراب
م. د. جون العتابي م. م. طه حسين علي
كلية الإدارة والاقتصاد – جامعة القادسية
عام 2008 م
شارك البحث في المؤتمر الفكري الثالث الذي عقدته مؤسسة تراث الشهيد الحكيم (قدس سره) في النجف الأشرف عام 2008م تحت عنوان: (فكر الشهيد الحكيم ودمه الزاكي يضيئان الطريق أمام وحدة العراق ونهضته العلمية).
بسم الله الرحمن الرحيم
(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ * فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ)
صدق الله العلي العظيم
(سورة الروم: 41 – 43)
توطئة
يعتبر الفساد الإداري اختلالاً في السلوك الشخصي للإنسان، ولابد له من تقويمه حتى يتمكن من أداء الوظيفة الشرعية المكلف بها ضمن مجتمعه، فهو من ضمن الآثام المنتشرة في أوساطنا الاجتماعية، والتي يتوجب شرعاً التخلص منها في المجتمعات الإسلامية، وان محاربة الفساد يعتبر عاملا أساسيا نحو التغيير والتطور النوعي في بناء المجتمعات من حيث تقويم السلوك الأخلاقي لشخصية الإنسان.
لقد انطلقت الدعوات إلى زيادة الوعي بالآثار السلبية المترتبة على كافة أنواع الفساد من اجل بناء وإصلاح المجتمعات وسيادة مبادئ العدالة وضبط سلوك الإنسان، وشكلت أطروحات شهيد المحراب بمجملها أطروحات فكرية لمحاربة صور الفساد الإداري في المجتمع الإسلامي، ويجب مراجعتها والتصدي لها لأنها تدعو للانحراف والخروج عن الخط الإسلامي.
إن المجتمعات الإسلامية، ومنها المجتمع العراقي التي أراد لها الشهيد السعيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) وضحى من اجلها أن تكون مجتمعات متكاملة متلاحمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لذا كان من المحتوم تصفح أراء شهيد المحراب من اجل أن نستلهم من فكره القوة في محاربة الفساد كونه من الأمراض التي تهدد بناء المجتمع، بل من أعظم الآثام كما يصفها في كتاباته.
المقدمة
إن الحديث عن الفساد لا يخص مجتمع ما أو دولة معينة؛ لأنه أصبح ظاهرة عالمية ذات جذور عميقة أخذت أبعادا واسعة تتداخل فيها عوامل مختلفة يصعب التمييز بينها، وتختلف شموليتها من مجتمع إلى آخر.
وقد حظيت هذه الظاهرة باهتمام واسع من قبل الباحثين ومن مختلف الاختصاصات في العلوم الإدارية، والاقتصادية، والقانون، وعلم الاجتماع، وعلم النفس للتعريف بالمخاطر والآليات والمسببات وكيفية المساهمة في المعالجات للحد من آثاره السلبية[1]إن الآثار السلبية المترتبة على الفساد ومنها الفساد الإداري والمالي بصورة خاصة تعتبر من أهم العوائق للتنمية في الدول الحديثة، لذا انصبت معظم الجهود للتأكيد على نشر الوعي بمخاطر وعواقب الفساد على مستقبل هذه الدول، وبالأخص المخاطر الاقتصادية والاجتماعية، وبفضل هذه الجهود المبذولة في العقد الماضي والحالي تم تحجيم هذه الظاهرة نوعا ما، حيث أصبحت مسؤولية عالمية وأخلاقية لكافة المنظمات الحكومية وغير الحكومية (منظمات المجتمع المدني). لقد انضمت ما يقارب من (90) دولة في الاتفاق على وثيقة العهد الدولي للأمم المتحدة وبتوقيع (1700) عضو على ضرورة دعم الجهود المبذولة لمكافحة ظاهرة الفساد الإداري.
وبناء على هذه الاتفاقية تم إنشاء منظمة (الشفافية الدولية) في عام 2004 والتي أصبحت مسؤولة عن وضع المعايير والأسس الدولية في التعامل، والشعور بالمسؤولية في الأداء الوظيفي، وهو ما أطلق علية مصطلح (النزاهة) أي: يجب أن يتحلى الفرد بالصراحة والصدق وحب العمل وعدم إضاعة جهد وعمل الآخرين، وعدم السرقة وهدر المال العام وعدم إساءة استعمال السلطة الوظيفية[2].
لقد اتفق الكل على أن ظاهرة الفساد – وبالأخص الفساد الإداري – جريمة خطيرة ومرض عضال يجب الانتباه لها، ووضع الخطط الكفيلة لمعالجتها من أجل خلق مجتمع ينعم بالهدوء والسلام والأمان، إن هذه الخطط كفيلة بمحاربة الفساد بكافة أشكاله وإبراز الجهود الناجحة بهدف الإصلاح وقطع كافة السبل أمام وجوده، فالتحدي واضح من اجل تضافر كافة الجهود والمشاركة الفعالة وإلزام الجميع بغض النظر عن موقع الشخص وتخصصه ومسؤوليته؛ كون الفساد ممارسة لا أخلاقية وتدخل ضمن المنكرات[3].
لقد ابتليت المجتمعات، ومنها الإسلامية، وبالأخص المجتمع العراقي بالفساد من خلال استغلال المال العام للمسلمين للأغراض الشخصية، من سرقة الأموال سواء كانت في المؤسسات العامة أم بأموال مرتبطة بالأموال العامة للمسلمين، فبعض الناس لا يقدم على سرقة الأموال الشخصية للآخرين فقط، وإنما أيضا المال العام، ويتصرف به كما يشاء، وبالتالي يؤدي إلى إتلاف وإفساد المرافق العامة[4]، إن هذه التصرفات تشكل مظهراً من مظاهر المنكر، وتعطيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمعات الإسلامية ومنها المجتمع العراقي تسهم بشكل أساسي في تعطيل عمل الأجهزة الإدارية المرتبطة بتشكيلات الدولة بصورة عامة، وهذه المنكرات التي لا يمكن مواجهتها دون وجود مؤسسات تستطيع أن تلاحق، وتحاسب، وتنهي عنها، وتكشف الفساد، وتلاحق معالمه في الأجهزة الإدارية، وكذا الأحزاب والجمعيات والمنظمات والنقابات والاتحادات إلى غير ذلك من الكتل التي تتكون من اجل ملاحقة الفساد الذي يكون عادة في بعض الأجهزة الإدارية[5].
إن مكافحة الفساد هو درع للانحراف وذو اثر كبير في سلوك الإنسان من اجل تهذيب النفوس والاستقامة والانضباط، وبالتالي حماية الإنسان، وتحقيق السعادة البشرية من الانحراف نحو الفساد، لقد أشاع الدين الإسلامي التكافل والترابط بين أفراد المجتمع الإسلامي من اجل الوقاية من كل نوع من أنواع الفساد والنهي عنه والتحذير منه.
لقد أثبتت الإدارة الإسلامية قدرتها على بناء المجتمع الإسلامي بناءً قوياً من خلال غرس الصفات الحميدة لمن يتولى المسؤولية، مثل: التحلي بالأمانة، والقوة، والرفق، والإحسان، والنصح، والإبداع في خدمة مصالح المسلمين، والحث على اختيار الأكفأ والأفضل، واشترطت الابتعاد عن مصادر الحصول على المال الحرام والمكاسب المحرمة من الربا والغش في المعاملات والرشوة، كما حرمت الإسراف في استخدام المال، ووضعت جملة من التدابير الوقائية والقضائية تضمن مكافحة الفساد وحماية مال المسلمين.
إن ترسيخ القيم الأخلاقية والوظيفية والوازع الديني كفيل بمكافحة هذه الآفة التي يمكن أن تتسبب بهدم المجتمعات والأنظمة في دول كثيرة[6].
المبحث الأول
تحديد مفهوم الفساد الإداري
لقد تناولت الكثير من الدراسات مفهوم الفساد الإداري كونه – كما تقدم – ظاهرة إنسانية لا يخلو منها أي مجتمع على مر العصور وغير مرتبطة بالزمان والمكان، لذا فإن اغلب الباحثين يجمعون على أن ضعف الرقابة الداخلية ورقابة المجتمع، وعوامل أخرى، مثل: الجشع، وحب الشهوات المادية، وترجيح المصالح الشخصية، وضعف التدين هي من الأسباب التي تؤدي إلى ظهور الفساد بكافة أشكاله، ومنها الفساد المالي والإداري.
ومن هذه الدراسات حول تحديد مفهوم واضح للفساد دراسة مصطفى ألفقي «إن الفساد الإداري هو وجود خلل في الأداء نتيجة الخطأ والنسيان وإتباع الشهوات والزلل والانحراف عن الطريق المستقيم لتحقيق مكاسب خاصة»[7]، هذا التعريف يشير إلى الأخطاء المتعلقة بالإهمال واللامبالاة في الأداء الوظيفي والتي تنعكس سلبا على عمل الإنسان، وتقلل من حجم الخدمات التي يقدمها، وتعتبر شكلا من أشكال الفساد الإداري والتي يعاقب عليها القانون.
وقد أشارت دراسة الدكتور جون سليفان بان تعريف الفساد «إساءة استعمال واستغلال الصلاحيات الممنوحة إلى شخص ما بهدف تحقيق مكاسب شخصية»[8] تشير هذه الدراسة إلى استغلال الموقع أو المنصب الوظيفي للمصلحة الشخصية والمنفعة الذاتية من خلال استخدام الممارسات المغلوطة المتمثلة بالرشوة والمحسوبية. كذلك دراسة مضر وحيد عبد الحسين حول تعريف مفهوم الفساد الإداري «استغلال موظفي دوائر الدولة لمواقع عملهم وصلاحياتهم للحصول على كسب غير مشروع أو منافع ومآرب شخصية يتعذر تحقيقها بطرق مشروعة»[9].
أما المنظمة الدولية (صندوق النقد الدولي) فيحدد تعريف الفساد الإداري في تقريره الصادر عام 1996 بأنه «سوء استخدام السلطة العامة من اجل الحصول على مكسب خاص يتحقق حينما يتقبل الموظف الرسمي رشوة أو يطلبها أو يستخدمها أو يبتزها».
أما موسوعة العلوم الاجتماعية فهي تعرف الفساد الإداري «استخدام النفوذ أو المنصب لتحقيق إرباحا أو منافع خاصة بما في ذلك أنواع الرشاوى للمسئولين المحليين أو السياسيين أو القضاة»[10].
إن انتشار الفساد في أي مجتمع يكون بواسطة الواسطة لانتشاره والمتمثلة بالأشخاص المفسدين وعلى مختلف مسمياتهم، وقد أشار شهيد المحراب السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) إلى مفهوم الفساد الإداري من خلال تشخيص دور المفسدين ودورهم في إفساد المرافق العامة «إن إتلاف وإفساد المرافق العامة، حينما يدخل الإنسان منزل صديقه أو أخيه لا يتساهل في إتلاف مرافق ذلك المنزل، ولكن إذا كان المكان عاماً، أو مرافق عامة نراه يتساهل في تعامله مع هذه المرافق بل يفسدها بشكل أو بآخر»[11] من كل ما تقدم من التعريفات السالفة الذكر يمكن أن نتوصل إلى أن الفساد في اغلب الأحيان مسألة اجتماعية لا أخلاقية، وسلوك مرفوض لا تبريرات لمشروعيته، يسهم في التخلف والحد من النمو الاقتصادي، ويساعد على خلق أنظمة إدارية غير كفوءة وغير منافسة، ويهدد بقاء المؤسسات، ويتطلب مكافحته من قبل الحكومات في جميع المجتمعات الغنية والفقيرة من خلال إخضاع سلوك الفساد إلى مبدأ الرقابة والعقاب.
المبحث الثاني
موقف الإسلام من الفساد الإداري
تعددت الأطروحات الإسلامية وفي حقب ماضية حول أسباب الضعف التي تعرضت له الأمة الإسلامية والمتمثلة بالفساد الإداري والمحسوبيات في الولايات والولاة المعينين، فقد كانت الكثير من هذه المظاهر منتشرة وبالذات في الجهاز الحاكم المسيطر على مقاليد الأمور.
إن الدين الإسلامي يدعو إلى تغليب مصالح الأمة الإسلامية ودرء المفاسد، حيث أكدت الشريعة الإسلامية على إصلاح الورع من خلال الإيمان والتقوى الذي يحمي من الوقوع في الفساد.
لقد ورد في القرآن الكريم (50) آية في مناسبات مختلفة، وهي تندد بالفساد، وتدعو إلى تحرير النفس من عواقبه الوخيمة، كما وردت (24) آية في تحريم الأذى والأذية للآخرين، وبهذا القرآن الكريم طرح معنى ومصطلح الفساد أوسع بكثير مما هو متعارف عليه في أذهان الناس[12] إذ جاء في القران الكريم حول الإشارة إلى الفساد الآية الكريمة التالية: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[13]، جاء في كتاب الكافي (الكليني) عن الإمام أبي الحسن الرضا (عليه السلام) حول تشديد العقوبة في هذه الآية الكريمة أجاب: «إذا حارب الإنسان الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً فقَتَلَ قُتلَ به، وان اخذ المال قُتلَ وَصُلبَ، وان اخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وان شهر السيف فحارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً ولم يقتل ولم يأخذ المال نفي من الأرض»، قيل: وكيف ينفى من الأرض؟ ينفى من المصر الذي فعل فيه ما فعل إلى مصر غيره ويكتب إلى أهل المصر أنه منفي فلا تجالسوه ولا تبايعوه ولا تناكحوه ولا تؤاكلوه ولا تشاربوه، فيفعل ذلك فيه فان خرج من ذلك المصر إلى غيره كتب إليهم بمثل ذلك حتى تتم السنة، فان توجه إلى ارض الشرك ليدخلها؟ قال الإمام (عليه السلام): «إن توجه إلى ارض الشرك ليدخلها قوتل أهلها»[14].
كذلك تشير الآية الكريمة: (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)[15] إلى المفسدين ودورهم في تفكيك المجتمع، وذلك لعدم الالتزام بالأخلاق الإسلامية، كذلك تشير الآية التالية إلى الدور التخريبي للمفسدين في نشر الفساد في المجتمع الإسلامي: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)[16]، إن الفساد الإداري هو من المنكرات في مجتمعاتنا ويمارس بصورة واسعة، إذ لا يمكن للإنسان الواحد الوقوف أمام الفساد ما لم تشكل مجموعات تتبنى مواجهتها ومقاومتها، وإلغاءها من جملتها[17].
إن مفهوم الفساد الإداري في الشرع الإسلامي يأتي على أربعة إشكال، وهي كما يلي:
أ – المعصية: كما جاء في الآية الكريمة (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[18]. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة».
ب – الاختلاف: جاء عن الإمام علي (عليه السلام): «إني والله لا أظن إن هؤلاء القوم سينالون منكم باجتماعهم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم بمعصيتكم إمامكم في الحق، وطاعتهم إمامهم في الباطل، بأداء الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم»[19].
ج – الاستواء: قال تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)[20]، وعنها قال الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يقدس الله قوما لا يؤخذ من ضعيفهم لشديدهم» وقال الإمام علي (عليه السلام): «لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا، فإذا استووا اهلكوا».
د – منع الحق: جاء عن الإمام علي (عليه السلام): «أما بعد فإنما اهلك من كان قبلكم أنهم منعوا الناس الحق فاشتروه، وأخذوهم بالباطل فاقتدوه».
مما تقدم يتضح لنا بان مفهوم الفساد في الدين الإسلامي مذموم ويحمل في معانيه كافة الصفات الذميمة واللااخلاقية التي تؤدي إلى تفكيك وتخريب المجتمعات الإسلامية حيث الإضرار بمصالح الأمة والصالح العام، ولذا فان الدين الإسلامي حرم الفساد بكافة أشكاله، ومنه الفساد الإداري شانه شأن كافة الأديان السماوية الأخرى.
إن الدين الإسلامي بما اشتملت عليه العقيدة الإسلامية السمحاء من الدعوة إلى الإيمان تعد من أعظم الوسائل لتربية وتهذيب النفوس ومنعها من الانحراف، وبالتالي تحقيق الاستقامة والانضباط في سلوك الأفراد وردعهم، كما اقر الإسلام نظام التكافل بين المسلمين والذي يعود بالخير على الفرد والجماعة وتحصينهم من أي نوع من أنواع الفساد فجاءت بالأمر بالكسب الحلال والابتعاد عن المكاسب المحرمة من الربا والغش في المعاملات والرشوة، كما حرم الإسراف في استخدام المال ووضعت التدابير الوقائية والقضائية التي تضمن مكافحة كل أنواع الفساد وحماية الأمة.
المبحث الثالث
أنواع الفساد وأسبابه والآثار المترتبة عليه
1- الفساد الإداري والاقتصادي
يتمثل الفساد الإداري والاقتصادي باستغلال المناصب والمواقع لذوي النفوذ والقدرة لإغراضهم الشخصية أو العشائرية أو الحزبية، ولقد نادى شهيد المحراب السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) إلى دور المؤسسات للحد من ذلك، ومن ثمرتها مفوضية النزاهة الحالية من خلال الدعوة إلى الأمر بالمعروف الجماعي[21]. ويكون دور هذه المؤسسات السيطرة على الأنشطة الحكومية، مثل: العقود، والصفقات الإدارية، والحوافز، والامتيازات الضريبية، والقرارات الإدارية.
2- الفساد الثقافي
وهو استغلال وسائل الإعلام المتاحة والمتنوعة لتكريس الانفلات الثقافي والأخلاقي والتشكيك العقائدي لتضليل الأمة الإسلامية، وكذلك إخراج الناس من عبادة الرب إلى عبادة الفرد، ويجب علينا كأمة إسلامية تسخير الإعلام الإسلامي في خدمة قضايا امتنا وانتشالها من الواقع المؤلم، وكذلك التأكيد على دور مفكرينا وعلمائنا بمختلف فروع العلم في الحفاظ وتطوير وتنمية الأمة الإسلامية، وقد قال شهيد المحراب السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره): يجب اتخاذ الموقف الحازم تجاه المجالس والاجتماعات التي من شأنها الطعن بالأمة الإسلامية والعقائد والمبادئ، وكذلك مجالس الضلالة والانحطاط التي تدعو إلى الانحراف والخروج عن الخط الإسلامي، يجب على الإنسان العمل على تغييرها، فإذا لم يتمكن فعليه مقاطعة تلك المجالس ولا يقترن بها[22].
إذن، الفساد الثقافي هو من اخطر أنواع الفساد وأشدها في تكريس الانحلال الديني والاجتماعي والأخلاقي.
3 – الفساد السياسي
تتمثل مظاهر الفساد السياسي في الحكم الشمولي الفاسد وفقدان الديمقراطية، وفقدان المشاركة، وفساد الحكام، وسيطرة نظام حكم الدولة على الاقتصاد وتفشي المحسوبية، ويتمثل الفساد السياسي خصوصا في المجتمعات التي يكون الحكم فيها شموليا ودكتاتوريا تنتشر فيه معاونة الظالم والجائر من قبل العناصر الفاسدة، وقد أكد شهيد المحراب السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) إن المعاونة للظالمين والجائرين من قبل المفسدين والتي يعتبرونها واجبا من الواجبات؛ لأنهم يكلفون من قبل الظالم والجائر بالقيام بالعمل الذي يمكّن الظالم ويعاونه في ظلمه، ويعتبر المنكر هذا من أعظم الجرائم والآثام الذي يحتاج إلى حركة اجتماعية تتسم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[23]. إن الفساد السياسي مخالف للقواعد والأحكام التي تنظم عمل المؤسسات السياسية في الدولة.
4 – الفساد المالي
تتمثل مظاهر الفساد المالي في الرشاوى والاختلاس والتهريب الوظيفي وتخصيص الأراضي والمحاباة والمحسوبية في التعيينات الوظيفية. إن انتشار الرشوة والمحسوبية وغيرها تنخر الوجود الاجتماعي في المجتمعات ويجب محاربتها ومقاومتها، إن قضية المال والأموال العامة والتصرف بها لغرض المنافع الشخصية تبقى القضية المهمة والبارزة، فقد أكد القران الكريم بأن المال فتنة وتعرض لدور الأموال في حركة المجتمع الإنساني سلبا في إفساده وإيجابا في إصلاحه وتطوره وتزكيته[24].
5 – الفساد الأخلاقي
والمتمثل في الانحرافات الأخلاقية والسلوكية للأشخاص والموظفين وتصرفاتهم أثناء أداء واجباتهم في أماكن عملهم.
إن هذا الفساد يكون من خلال استغلال السلطة والموقع لتحقيق المآرب الشخصية على حساب الآخرين، لذا يجب أن يتصف هؤلاء الأفراد بالعقل والتقوى، وكذلك أن يكونوا من أهل الدين والورع، ومن أهل المعرفة والخبرة في قضايا المجتمع وحسن التدبير والإدراك والشعور العالي بالمسؤولية في تعاملهم الوظيفي إداريا[25].
أسباب الفساد الإداري
أولا: الأسباب من وجهة نظر المعنيين بمكافحة الفساد الإداري:
تتمثل هذه الأسباب بما يأتي:
أ – ضعف الوازع الديني، وانتشار الفساد، ونشر الأذى، والظلم، والاستبداد، وتحول المجتمع إلى مجتمع فاسد، من هنا تصبح مسؤولية الفرد في إصلاح نفسه أمام الشر والخير وتقول الآية الكريمة: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)[26].
ب – عدم تطبيق نظام العدالة من خلال وجود القصور بالقوانين الصارمة لمكافحة الفساد، يجب أن تكون هنالك رغبة صادقة لدى المسؤولين باستئصال الفساد الإداري من خلال دواء كالنزاهة ودوائر المفتش والرقابة.
ج – ضعف الرقابة، حيث تعتبر الرقابة من أهم وسائل مقاومة الفساد الإداري وتفعيل الرقابة الإدارية لمعرفة مواطن الخلل وتصحيحها، وهذه الرقابة تأتي بصورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد قال تعالى: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)[27] إن الرقابة لها دور في الردع للناس ضعيفي النفوس.
د – ضعف التوعية بأضرار الفساد الإداري وضرورة الإبلاغ عن المفسدين لتجاوزهم حدود عملهم الوظيفي ومخالفة القوانين والأنظمة بل التجاوز على القيم والأخلاق الكريمة.
ثانيا: الأسباب من وجهة نظر المفسدين:
أ – تدني الأجور وزيادة أعباء الحياة المادية، حيث إن قلة الأجور والرواتب لا يؤمّن مستوى معاشي مقبول مما يدفع بضعيفي النفوس من الفاسدين إلى زيادة دخولهم المكتسبة من الفساد والعمل على تكريسه.
ب – حب الترف، حيث ضعف التدين وغلبة الهوى والسعي واللهث نحو تحقيق المصالح الشخصية في تجميع الثروات وحب الحياة المترفة من خلال القصور في العمل وتقبل الرشاوى.
ج – غياب القدوة، حيث اغلب المفسدين هم ممن يتحملون المسؤولية في مواقع قيادية في مؤسسات الدولة، وهم من العناصر المفسدة والمرتشية، يسرقون المال العام، ويضعفون قطاع الدولة، وبالتالي إيجاد أرضية عامة لتفشي الفساد من الأعلى إلى الأدنى.
د – الثقافة السائدة حول الفساد في حالة تزايد المنكرات في المجتمعات والتي تمارس دون رادع ديني أو اجتماعي أو أخلاقي، بحيث لا يمكن الوقوف أمام مثل هكذا سلوك خاطئ دون رادع ديني كما جاء في الآية الكريمة (إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[28].
مكافحة الفساد الإداري من وجهة الدين الإسلامي
وردت الكثير من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة حول الحث على الالتزام بالأمانة التي تعتبر الرادع الأساسي للفساد والاعتداء على حقوق الآخرين إن كانت تتعلق بالصالح العام أو تتعلق بحقوق الإنسان، حيث جاء في الآية الكريمة: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)[29]، كذلك الآية الكريمة: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)[30] كذلك حول أداء الأمانة والحفاظ عليها جاء في الحديث النبوي الشريف: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك».
إن الدين الإسلامي هو من أكثر الأديان السماوية معرفة بالنفس البشرية وكيفية معالجتها لذا نراه يؤكد على سمو النفس وارتفاعها عن المنكر وحفظ الأمانة من خلال تهذيبها، ومن خلال ذلك يمكن التوصل إلى بعض العلاج في مكافحة الفساد الإداري بالاعتماد على علاج النفس البشرية[31]:
1ـ إدارة الصراع أي: الصراع مع نفس الإنسان والسيطرة فيها على جوانب الخير والشر في هذا الصراع الداخلي كما جاء في الآية الكريمة (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا)[32]، وان هذا الصراع يزود الفرد بالقيم والمفاهيم الإسلامية في مجال عملة ونبذه لقوى الشر المتمثلة بالرشاوى والتزوير التي نهى عنها الله تعالى.
2 – إدارة الذات أي: قدرة الإنسان على خلق التوازن بين رغباته في حياته اليومية بأداء عمله، وأن يسعى في نبذ الشبهات، وطرق الحرام، والسعي نحو الحلال في عمله.
3 – إدارة التغيير وهو حالة الانتقال من وضع يعيشه الفرد إلى وضع جديد ينشده لكي يحقق الفرد التغيير بالانتقال، ومن خلال ذلك يتبين له مدى الفوائد والمزايا التي ستحقق له هذا التغير، مثلا سلوك الفرد في انتقاله من خلال الفساد إلى حالة الإصلاح ومدى ما يتحقق له من مزايا.
4 – إدارة الأزمات حيث يعتبر الفساد الإداري هو مصدر الأزمات بحد ذاته داخل أي مؤسسة، ولذلك ينبغي تكوين فريق عمل متعاون للقضاء على هذا الفساد وأسبابه، وكذلك العمل على كافة المشاكل المصاحبة للفساد الإداري.
5 – الإدارة بالمشاركة أي: إشراك الجميع في أي مؤسسة عمل في كافة القرارات والقدرات لرفع أداء العمل واعتماد العمل والقرارات الجماعية بين المسؤول ومن هم دونه في سلم العمل، ومن خلال ذلك يتولد لدى الفرد الولاء لعمله والإبداع فيه، وأشار القران الكريم في الآية التالية إلى ذلك المعنى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[33].
6 – إدارة الجودة أي: التحسين المستمر في مستوى الكفاءة في العمل والأداء الوظيفي والعلاقة بين الإفراد والعاملين المبنية على الثقة والمصارحة، وإذا اعتمدت أي مؤسسة عمل عامل الجودة في عملها ابتعدت عن أي نوع من أنواع الفساد، ومنها الفساد الإداري كما جاء في الحديث الشريف: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه».
الخاتمة
إن الفساد الإداري هو آفة عالمية لا تقل خطورة عن أي آفة مهلكة أخرى، وتمثل اكبر معوق للتنمية الاقتصادية والأداء الإداري في أي مجتمع من المجتمعات ومن ضمنها المجتمع الإسلامي، لذا يجب أن تتضافر الجهود وتتاح كافة الإمكانيات المادية والبشرية للحد من هذه الآفة المدمرة من خلال تحديد الخلل المسبب والمتمثل بإتباع الشهوات والزلل والانحراف عن الخط المستقيم.
[1] الفساد، مرض العصر، مضر وحيد عبد الحسين وآخرين، ص7.
[2] الفساد، مرض العصر، مضر وحيد عبد الحسين وآخرين، ص15.
[3] مكافحة الفساد منظورات وحلول، د. جون سليفان، ص40.
[4] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) ص40.
[5] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره): ص 46.
[6] الفساد مرض العصر، مضر وحيد عبد الحسين وآخرين ص28.
[7] الفساد الإداري والمالي، مصطفى ألفقي، الانترنت.
[8] مكافحة الفساد منظورات وحلول، د. جون سليفان ص8.
[9] الفساد مرض العصر، مضر وحيد عبد الحسين وآخرين ص7.
[10] المصدر السابق: ص8.
[11] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، شهيد المحراب السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) ص40.
[12] أحكام الشريعة ومبادؤها في أحكام الشريعة، عبد الله يحيى، الانترنت.
[13] المائدة: 33.
[14] الفساد مرض العصر، مضر عبد الحسين وآخرين، ص19.
[15] الأعراف: 65.
[16] آل عمران: 110.
[17] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، شهيد المحراب السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) ص46.
[18] الروم: 41.
[19] نهج البلاغة، الإمام علي (عليه السلام)، الخطبة: 25.
[20] الزخرف: 32.
[21] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، شهيد المحراب السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره)، ص48.
[22] الأربع عشرة مناهج ورؤى، شهيد المحراب السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) ص163.
[23] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، شهيد المحراب السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) ص46.
[24] موسوعة الحوزة والمرجعية ج2، شهيد المحراب السيد محمد باقر الحكيم، ص94.
[25] المصدر السابق، ص93.
[26] الأعراف: 96.
[27] الحج: 41
[28] النساء: 1.
[29] النساء: 58.
[30] الأحزاب: 72.
[31] الفساد الإداري وعلاجه من منظور إسلامي، هناء يماني.
[32] المعارج: 20 – 21.
[33] آل عمران: 159.