الحوار الحضاري في فكر السيد الشهيد محمد باقر الحكيم (قدس سره)
بحث شارك في المؤتمر الثاني لإحياء التراث الفكري والعملي للشهيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم
الباحث: الاستاذ د. فليح كريم الركابي
عميد كلية الآداب ـ جامعة بغداد
الحضارة موضوع واسع يصعب الخوض فيه؛ لاهميته واختلافه من شعب الى اخر بحسب الظروف أو البيئة التي ينشأ فيها الافراد، وهي شيء معنوي يولد معهم ويخلد بعدهم، وقد أسست حضارات كثيرة في العالم، وكان لكل واحدة طابعها المميز سواء أكان باللغة أم بالعادات والتقاليد السائدة، فكانت تحصيل حاصل ينتج عن طريق التقاء الفرد بالمجتمع، والحضارة «ظاهرة اجتماعية نفسية تحمل في اذهان الافراد ولاتجد لنفسها تعبيرا الا بهم»[1] وتكون خارجة عن ارادتهم حين ولادتهم، وتكتسب من البيئة التي ينشأون فيها، وحينما يكبرون يعونها تماما ويتأثرون بها ويؤثرون فيها، وتكبرمعهم وهم بناتها.
والحضارة ظاهرة مستمرة متطورة تواكب عجلة المجتمع، هدفها احداث نقلة نوعية في تفكير اعضائه وهي «استجابة لكل احتياجات المجتمع الذى يتبناها»[2]، فضلا عن انها افراز واقعي يتأثر بالموروث المتوفر لأمة ما، أو قد لاتتاثر فتكون اكتسابا عن طريق التعلم تفرضه الظروف المحيطة، وحينما ينتقل الفرد الناضج من حضارة الى اخرى يتحتم عليه مسايرة الحالة الجديدة كي لايعيش في عزلة تؤثر في سلوكه اذا كان ينوى الاقامة في المجتمع الجديد، أى الاقرار بالحاضر وعدم تناسي الماضي، وأن يترك لابنائه حرية الاختيار في العيش مع مجتمعهم الجديد، وهذه القضية لازمت بعض الافراد الذين هاجروا وعاشوا في مجتمعات جديدة، فلم يتمكنوا من تحديد طريقهم في الحضارات الاخرى، وكانت المرحلة انعطافة حادة في حياتهم انعكست سلبا عليهم، وصارت سببا في ضياع ابنائهم في خضم المجتمعات الجديدة[3].
ان الحوار الحضارى سمة الاعتدال والتجاذب الايجابي بين الحضارات الانسانية، والحوار بحد ذاته يظهر كوامن الشخصية وايجابياتها او ايجابيات تلك الحضارة، وذلك مااتسمت به شخصية السيد الشهيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) في طروحاته الفكرية، التي رفدت المجتمع الانساني بقبسات من الفكر المحمدى الاصيل في حوارها مع الحضارات الانسانية المسلمة وغير المسلمة، سواء أكان هذا على مستوى دولة العراق أم على المستوى العالمي فيقول «الكردي من حقه احترام ثقافته، والعربي من حقه احترام ثقافته، والشيعي من حقه ان تحترم ثقافته ومذهبه في المناطق الشيعية، وتدرس في مدارسهم ويعلم ابناءهم، كما من حق السني أيضا أن تحترم ثقافته في مناطقه وبلاده، والمسيحي في مدارسه ومجتمعاته، وهذه الخصائص والمكونات لابد من أخذها بنظر الاعتبار في الحكم المستقبلي»[4].
هذا حوار حضاري واسع جدا تناول فيه السيد الشهيد الشرائح الاجتماعية والفكرية والقومية في العراق، داعيا الى تفاهم من اجل بناء دولة بعيدة عن الصراعات الطائفية والعرقية والدينية. فالعراق وطن الجميع، وكل مواطن له حقوق فيه، وعليه واجبات، وان هذه النظرة الحضارية المنصفة تبعد البلد عن سيادة جانب وطغيانه على الجوانب الاخرى، وتقضي على الدكتاتورية المقيتة، فضلا عن ان ذلك يلغي التهميش الذى عانى العراقيون منه كثيرا.
فكان حوار الشهيد عربيا كرديا، حوارا بين ثقافتين وقوميتين، تعايشتا منذ قرون عديدة، واسلاميا مسيحيا، أى حوارا ثقافيا بين حضارتين ودينين سماويين، وهذه دعوة الى عدم الغاء أي طرف لطرف أخر. فكان شعاره التعايش السلمي المنصف بين الاطياف والحضارات المختلفة في البلد الواحد وفي العالم، يقول السيد الشهيد «ان الحياة الانسانية تتصف بالحركة والتغيير، وليست جامدة راكدة، وهذا أمر وجداني في التاريخ الانساني، ونراه واضحا في الوسائل والاساليب، وفي الامكانات والقدرات والموارد التي يملكها الانسان في حياته، وفي الرغبات والميول والارادات، وفي المصالح والمفاسد»[5].
الخطاب الفكري للسيد الشهيد منفتح على الافاق الانسانية كافة، حوار مفكر يعي المرحلة الراهنة، وماذا ينبغي أن يضع لها من حلول ومعالجات تنسجم معها ولكن ضمن حدود الشريعة الاسلامية واحترامها للانسان، فالدعوة صريحة للعمل الصالح الذى ينبغي ان يعم الانسانية جمعاء؛ لان فيه صلاحها وفيه درء للمفسدة، فضلا عن ان الحوار كان دقيقا جدا بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم. ان هذه النظرة المتفتحة و احترام حضارة الاخرين وحريتهم وتفكيرهم تدل على عمق النظرة الفاحصة لمكونات المجتمع العراقي الذى عانا الاقصاء والتهميش. وقد ركز السيد الشهيد على جوانب مهمة في حواره، الجانب الاول: العقيدة، والثاني: التعليم، والثالث: الثقافة، وهي ركائز مهمة في بناء حضارة ما.
ان هذه النظرة لاتعجب بعض الناس، والسبب تخوفهم من مواجهة الحقيقة، وخوفهم على ابنائهم في المستقبل من حدوث انقلاب فكري وعقيدي في حياتهم، وذلك مالايخشاه المذهب الشيعي، الذي تعايش ابناؤه مع شتى المعاملات القاسية الثقافية والدكتاتورية، وخرج معافى وبقي شامخا؛ بسبب اصالة المنبع وقوة الجذور الضاربة في العمق. أن مسالة تدريس الاديان والمذاهب نحن لانخاف منها ابدا، بل ندعو الى ذلك، ولانضع الاصابع في الاذان، وانما الاخرون يخشون ذلك، وهذا مايثير بعض المتاعب على المستويات كافة، ولاسيما في مجتمعنا العراقي الذى يواجه موجة شرسة.
ان المواجهات الفكرية محتدمة منذ قرون، وعلى الرغم من البطش والاقصاء والالغاء الاان الفكر الصحيح هو الذى يكتب له البقاء الراسخ حتى يوم الدين.
وينظر السيد محمد باقر الحكيم الى التاريخ على أنه حركة انسانية مشتركة، تتفاعل فيما بينهما تفاعلا حضاريا وفكريا من اجل خدمة المجتمع، فكانت دعوته حوارية ايجابية «إذ لايمكن أن ينفصل الحاضر في وجوده عن حركة الماضي، كما لايمكن أن ينفصل هذا الحاضر عن المستقبل؛ لان حركة الانسان هي حركة تكاملية ووضع هذا الانسان منذ البداية»[6] هذه دعوة للحوار الحضارى فيما بين ابناء المعمورة، لانهم مخلوقون من اجل التفاعل والتكامل للوصول الى الكمال المطلق، وهذا ماستكون عليه الارض بعد ظهور الامام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
ويرى السيد الشهيد ان النظرية الاسلامية قائمة على أساس أن الحق واحد والعدل واحد، فلا تعددية في ذلك، وهو في حواره الحضاري ذلك يكشف لنا عن ان النظرية الغربية التي «ترتبط برغبات الناس وميولهم ومصالحهم الخاصة في هذه الدنيا، واما الحياة الاخرة فهي غير منظور فيها، والانسان هو الذى يختار مصلحته، بل يحق له ان يختار الاشياء على خلاف مايدرك من مصلحته ومصلحة الجماعة اذا كانت رغبته ذلك»[7]. هذا الحوار بين الحضارتين يضعنا أمام رؤية واعية لواقع مجتمعين مختلفين فكريا، والغرض من الحوار كشف نقاط الضعف والقوة، وماينبغي على المجتمع الغربي اتباعه من أجل الوصول الى الحقيقة ونبذ الحياة الدنيوية فهذه تبصرة للعاقلين، فضلا عن أن العامل الخارجي الغربي بثقافته وحضارته المختلفة يختلف تماما عن ثقافتنا وحضارتنا، ويحاول جاهدا منذ قرون فرض تلك الحضارة والثقافة على مجتمعنا، باستخدام الوسائل القسرية والحرية لغرض الضلال والتشتت والضعف والتمزق، وهذا اصبح من الامور المهمة والفاعلة في تهشيم هيكل المجتمع، الاان دور علماء الامة دعا افراد المجتمع الاسلامي الى الوقوف بوجه تلك التحديات وممارسة دورهم «في الصراع الحضارى على اساس الحوار ومخاطبة العقل والوجدان، والعمل على خلق المجابهة الحضارية في داخل جبهة الاستكبار، من خلال فرض الحرية الفكرية والسياسية، والتركيز على نقاط ضعف الحضارة المادية واخطارها المستقبلية»[8].
لقد كان السيد الشهيد يطرح للمتلقي ضعف الحضارة المادية، ومتانة قواعد وأسس الحضارة المثالية التي بني عليها الإسلام، ان هذا الحوار جاء من داخل أدبيات الحضارة المادية، وهو اسلوب اقناعي يؤكد بقاء وديمومة الحضارة الإسلامية، التي جاءت منسجمة مع العصور كافة بدستورها القرآن الكريم، وتعرض السيد الشهيد الى الصراع الحضاري القائم منذ ان فشلت الحضارات الانسانية في احترام الانسان ككيان انساني ونجح الاسلام في احترامه، فقد كانت نظرة السيد الشهيد نظرة متوازنة قائمة على الحوار المعتدل بين الحضارات حين يقول «ولذا فمن الممكن العمل على ادارة الصراع الحضاري على أساس الحكمة والموعظة الحسنة والحوار بالمنطق ومخاطبة العقل والوجدان والفطرة الانسانية، بل واستخدام المصالح الانسانية المادية والروحية في ادارته، حسبما تفرضه مقتضيات هذا الصراع»[9].
ان محاور ادارة الصراع الحضاري التي أكدها السيد الشهيد هي الحكمة ومخاطبة العقل والوسائل الروحية، وهذا ماتفيض به روحه المتسامحة في حواره مع الحضارات الاخرى القائمة على استيعاب الجانب الاخر وعدم الغائه خدمة للمصالح الاسلامية التي فرضها الله سبحانه وتعالى، وهذا مايؤكد انسانية الاسلام وانسانية علمائه الافاضل في احترام الخلق الالهي واحترام حضاراتهم وافكارهم؛ وذلك ما ادى الى سعة انتشار الاسلام في العالم، وسعة انتشار المذهب الذى أصبح اعتداله وتسامحه مخيفا للكثيرين، الذين يرون فيه إستيعاباً كاملا لافكار الإسلام، التي هي افكار آل البيت الاطهار (عليهم السلام)؛ لذا راحوا يشنون عليه الغارات القاسية حتى وصلت اراقة الدماء الزكية انهارا، ولكن ذلك لن يثني للمجاهدين عزيمة، يقول السيد الشهيد «فيجب ان يتضمن خطابنا السياسي التأكيد على الصبر والاستقامة والثبات، وجميع الاثار واللوزام التي تترتب على العمل الجهادي والمواجهة التغييرية، وبروح الشجاعة والصبر والثبات لا بروح الهزيمة والخوف»[10].
لقد خلق السيد الشهيد بخطابه هذا حوارا حضاريا مع فئات ذات اعراق مختلفة، بيد أن توجهها واحد هو الخلاص من الجور والظلم، وذلك ماتحقق فعلا على أرض الواقع.
لغة الحوار من العناصر الرئيسة في بناء النص الذى كان يوجهه المرسل وهو السيد الشهيد الى عموم المتلقين؛ إذ كانت تفصيلة واضحة يبرز فيها الجانب التعبوي والتشريعي الفقهي القائم على احترام الطرف الاخر، بيد انها في جوانب أخرى تكون فلسفية فكرية في معالجتها الحضارية، سواء أكان من وجهة نظر مقارنة أم من وجهة نظر قدم وتأصيل؛ لان الحضارة الاسلامية ايجابية في نشأتها واحترامها للاخرين واستيعابها كل الحضارات الانسانية، وهذا سر وجود العناصر السلبية التي تحسب على الحضارة الإسلامية، وعلى وجه العموم كانت حضارتنا ايجابية «لان الحضارة سلوك ايجابي يتبعه الانسان في حياته، ويكمله من بعده الاخرون وتخلد بعدهم، وكل شعب يمتلك كما حضاريا تراكميا يكون له الاثر في مستواه الفكري والثقافي، وقد أثرت الحضارات الانسانية بعضها في بعض سلبياً أو ايجابيا»[11].
كانت لغة السيد الشهيد خطابية مباشرة، وهذا من متطلبات مقتضى الحال، فضلا عن كونها حوارية استوعبت مقومات الثقافة الاسلامية وحضارتها، وقد استثمر الزمن الذي يعد عاملا مهما في الحديث، فكانت الافعال ماضوية تحدثت عن الفكر والتراث الخالدين لتحريك مشاعر المتلقين، وإفهامهم بقيمة الحضارة العربية الاسلامية، ومضارعة لعرض الحال والمستقبل الذى ستكون عليه وذلك ما يتطلب شد الازر في مواجهة الظلم والطغيان، وفعلها امر يحث على الثورة.
وختاماً ان فكر السيد الشهيد جاء من خلال تراكمات ثقافية هائلة، أدت الى تعرضه الى شتى صنوف المضايقة والحيف، مما اضطره الى ترك العراق مجبراً، وكان اسلوبه في الحوار الحضاري واعياً شفافاً، ربط الحاضر بالماضي والمستقبل، مستثمراً الماضي لإضاءة الحاضر، واقحام عناصر الحضارات الاخرى. ان الاسلام دين حضاري قويم متسامح يحترم اراء وافكار الاخرين على اختلاف مستوياته الفكرية سواء في العراق ام في العالم، يقول السيد الشهيد «نحن ندعو الى نظام جمهوري وبرلماني يحترم الشريعة الاسلامية والحريات العامة والاقليات الدينية، ويلتزم بحقوق الانسان والمساواة والعدالة والحقوق السياسية والمدنية والثقافية والدينية لجميع ابناء الشعب العراقي ومنها الاقليات العرقية والدينية، ويقيم علاقات حسن الجوار مع الدول العربية والاسلامية المجاورة، وعلاقات الاحترام المتبادل والمنافع المتقابلة مع المجتمع الدولي، ويتجه الى الاعمار وإصلاح ما خربه صدام»[12]، انها نظرة واعية متفتحة على الحضارات الاخرى، تكُنّ لها الاحترام وتتبادل معها المنافع، خدمة للمصلحة العامة واصلاحا للخراب الذي لحق بالعراق جراء السياسية التعسفية التخريبية للنظام المقبور.
[1] الحضارة ومفهومها ومكوناتها د. شاكر مصطفى سليم، مجلة معهد البحوث والدراسات العربية ع13 1984 ص 9.
[2] نفسه ص 10.
[3] ينظر الصراع الحضاري في رواية من يوميات السيد علي سعيد أ. د. فليح كريم الركابي مجلة كلية التربية الاساسية الجامعة المستنصرية ع47 2006 ص 1.
[4] دموع القلم مقالات نشرت بمناسبة استشهاد شهيد المحراب، اعداد دائرة الاعلام مؤسسة تراث الحكيم النجف الاشرف ط1 2005 ص 5.
[5] الاصالة والمعاصرة شهيد المحراب اية الله العظمى محمد باقر الحكيم النجف الاشرف 2005 ص 20.
[6] المنهاج الثقافي السياسي والاجتماعي شهيد المحراب اية الله العظمى السيد محمد باقر الحكيم، مؤسسة تراث الحكيم النجف الاشرف 1/ 13.
[7] الامر بالمعروف والنهي عن المنكر شهيد المحراب اية الله العظمى السيد محمد باقر الحكيم، مؤسسة تراث الحكيم النجف الاشرف 2005 ص 29.
[8] ـ الخطاب الاعلامي وسر النجاح شهيد المحراب اية الله العظمى السيد محمد باقر الحكيم مؤسسة تراث الحكيم النجف الاشرف 2005 ص 44.
[9] نفسه ص40.
[10] نفسه ص 32.
[11] التألف الحضاري في رواية أبعد من ذاكرة المدنية أ. دفليح كريم الركابي مجلة كلية الاداب ع67 2004 ص 175.
[12] وبشر الصابرين شهيد المحراب اية الله العظمى محمد باقر الحكيم مؤسسة تراث الحكيم النجف الاشرف 2005 ص 5.