الوسطية والاعتدال في فكر الشهيد السيّد محمد باقر الحكيم
الوسيطة والاعتدال في فكر الشهيد السيد محمد باقر الحكيم
م. د. جون العتابي
كلية الشيخ الطوسي الجامعة النجف الأشرف
عام 2008 م
شارك البحث في المؤتمر الفكري الثالث الذي عقدته مؤسسة تراث الشهيد الحكيم (قدس سره) في النجف الأشرف عام 2008م تحت عنوان: (فكر الشهيد الحكيم ودمه الزاكي يضيئان الطريق أمام وحدة العراق ونهضته العلمية).
المقدمة
عرف السيد الشهيد الحكيم إبناً للمرجعية الدينية، وطالباً في حوزة النجف الأشرف، ثم استاذاً وباحثاً فيها، ثم عرفته بعد ذلك الأروقة الجامعية استاذاً في علوم القرآن وسائر العلوم الإسلامية، ومن بعد ذلك عرفته ساحات الجهاد في العراق وإيران وبقية أرجاء العالم الإسلامي رسالياً ملتزماً يحمل هموم المسلمين أينما كانوا ويدافع عنهم.
وان البحث في جانب من جوانب شخصية الشهيد الحكيم يحتاج إلى رؤية موضوعية وحالة من التوازن بين العاطفة والواقعية، ذلك أن شخصية الشهيد الحكيم بما لها من التأثير والمحبوبية في النفوس، فإنها تؤثر في الباحث بقدر أو بآخر، فقد شغل الشهيد الحكيم حيزاً واسعاً من تأريخ الصراع والتحدي مع الحكومات الدكتاتورية وأجهزتها ومواجهة الإخفاقات الحاصلة في مسيرة المعارضة العراقية في الداخل والخارج، وكرس جهده واهتمامه وطاقاته من اجل قضية الشعب العراقي ولأجلها بذل كل شيء في وجوده الشريف بإرادة وعزيمة قلّ نظيرها.
وفي هذا البحث الذي أحاول أن أتعرض فيه إلى جانب مهم اتصف به فكر السيد الشهيد الحكيم وهو صفة الوسطية والاعتدال، وهي صفة سادت في فكره وسلوكه بشكل عام، ولسعة ما كتب وألّف من كتب وبحوث وما ألقى من محاضرات، فان عملية استقصاء هذه الصفة في جميع ذلك تعد أمرا عسيراً، لذا أحاول في هذا البحث تسليط الضوء والاقتصار على أربعة محاور احتواها تراثه الفكري وهي:
1 – منظوره في الحوزة العلمية ومناهجها.
2 – منظوره في التقريب بين المذاهب.
3 – منظوره في الشعائر الحسينية.
4 – سلوكه الشخصي وعمله السياسي.
ومن الله استمد العون والتوفيق.
الوسطية لغة:
الوسط – بفتح السين – اسم لما بين الشيء وهو منه، كقوله قبضت وسط الحبل، وجلست وسط الدار[1]، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[2].
الوسيطة اصطلاحاً:
لا يبتعد مفهوم الوسيطة في الاصطلاح عن مفهومه في اللغة، فوسط الشيء – بفتح السين – ماله طرفان متساويا القدر[3]، والحد الأوسط هو الحد الذي يقوم على أساس الإنصاف والعدل والتسوية بعيداً عن الغلو والتقصير والإفراط والتفريط، مراعياً ظاهرة التوازن ومبدأ القسمة الحقة والمنهج المستقيم، والوسطية تعتمد الاعتدال والتوازن قاعدةً لها في الحكم على سائر الأطراف على حدٍ سواء من غير جنوح إلى الغلو، ومن هنا كانت الوسطية صفة الأمة الإسلامية[4].
ومن قوله تعالى: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ)[5]، فان معنى قوله تعالى: (أوسطهم) أي: أمثلهم تفكيراً، وأكثرهم قدراً وأكثرهم قدوةً[6].
والوسط من كل شيء أعدله وأفضله، وعلى هذا فقد جعل الله تعالى جعلاً تشريعياً منوطاً باختيار الإنسان وإرادته في هذه الأمة التي تجتمع على دين واحد ومصالح وأماني مشتركة واحدة وسطاً بين سائر الأمم، ولم تُقيّد الوسطية بأمر معين، فتكون حينئذٍ عامة وشاملة لشتى المجالات الثقافية والدينية والسياسية والاجتماعية، وهي السمة الغالبة في جميع التعاليم الإسلامية[7]، ووردت الإشارة لمفهوم الوسطية في العديد من الآيات القرآنية نحو قوله في مسالة الإنفاق والحفاظ على الحالة الوسطية: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)[8]، وقوله تعالى: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا)[9].
المحور الأول: منظوره للحوزة العلمية
يرى الشهيد الحكيم أن الحوزة العلمية تعتبر من حيث الأهمية والقدسية والنتائج المترتبة عليها المؤسسة الأولى بعد الإمامة والولاية[10]، ولذا فانه يسند استقلالها واستقلال المرجعية الدينية وأجهزتها عن الحكومات والأنظمة من ناحية، وعن التأثيرات الخارجية سواء كانت قوى محلية أو كانت تنظيمات حزبية أو غير ذلك من المؤثرات والضغوط من ناحيةٍ أخرى، وذلك من اجل الاحتفاظ بالقدرة على اتخاذ القرار الصحيح والإبقاء على قدسية المرجعية ونقائها بعيداً عن الظنون والريب والشكوك[11].
أما فيما يتعلق بإصلاح الحوزة ومناهجها فقد كانت للسيد الحكيم رؤية واضحة ودقيقة في تشخيص الأمور والحاجات الملحة بما يتناسب مع وجود الحوزة العلمية المتمثل بأهداف عدة:
الهدف الأول: التوصل للحكم الشرعي من خلال تخريج المجتهدين.
ولا يمكن معرفة الإسلام الحقيقي إلا من خلال هؤلاء المجتهدين، غاية ما في الأمر أن عملية الاجتهاد في المرحلة السابقة – أي: في زمن النبي والأئمة – كانت عملية بسيطة ومحدودة، وكان فهم القرآن في ذلك الزمان أمرا ميسوراً من خلال الرجوع إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثم وصل التعقيد إلى درجة في زماننا لأسباب عديدة من جملتها:
أ – الفاصل الزمني: الأمر الذي يدفع إلى معرفة القرائن الحالية والمقالية المرتبطة بالنص الشرعي.
ب – الركام الذي حصل على النصوص الشرعية من خلال التفسيرات والاحتمالات الكثيرة التي تذكر حول هذه النصوص، حيث كان المراد من هذه التفسيرات جعل هذه النصوص ذات طبيعة واسعة ومفصلة، لكنها في الوقت نفسه تشوش الرؤية والفهم لها، مضافاً إلى مسالة الوضع والاشتباه في نقل النصوص، وتعمد الكذب والتدليس أحيانا، ووجود الخطأ أو الاشتباه في النقل أحياناً أخرى إما في بتر النص أو بإضافة كلمات له أو بنقله بصورة غير دقيقة، الأمر الذي جعل عملية الاجتهاد معقدة في وقتنا الحاضر، وعندما نلاحظ المناهج الحوزوية القائمة فعلاً نجدها تهتم بشكل رئيس وأساسي بهذا الهدف (تخريج المجتهدين) وهو أهم الأهداف في وجود الحوزة العلمية، ويمكن القول إن هذه المناهج هي أرقى المناهج في تحقيق هذا الهدف والوصول إلى درجة القدرة على الاستنباط من النصوص الشرعية القديمة.
الهدف الثاني: إبلاغ الرسالة
الهدف الثالث: دفع الشبهات[12].
إلا أن الشهيد الحكيم يجد في إطار الهدفين الآخرين عدم كفاية المناهج الحوزوية في تحقيقها، خصوصاً إذا أخذت الظروف الجديدة التي تواجهها الحوزة العلمية بنظر الاعتبار، ووقوع بلاد المسلمين تحت تأثير الغزو العسكري والثقافي والسياسي والاقتصادي الغربي، وقد أصبح العالم الإسلامي مهدداً في كل أبعاده، فأصبحت مسؤوليات الحوزة العلمية كبيرة جداً.
وهنا يريد الشهيد الحكيم أن يقول انه لابد من مواكبة الفكر الحديث المعاصر بما يناسبه أيضا تطوراً وقدرة لكي تتمكن الحوزة العلمية من تحقيق أهدافها وتحمل مسؤولياتها، ويرى أن ذلك يتم بأمرين:
الأول: جعل الحوزة العلمية قادرة على الوفاء بحاجاتها الأساسية، وهي (الاجتهاد وتخريج المجتهدين)، ولكن في الوقت نفسه جعلها قادرة على حمل رسالة الإسلام إلى العالم.
الثاني: دفع الشبهات والإشكالات التي تثار حول الإسلام في عالمنا اليوم[13].
ويرى أن تطوير الحوزة العلمية يتم من خلال جوانب عدة أهمها:
1- جانب التخصص، فهي تحتاج الآن إلى إيجاد مجموعات تخصصية في مختلف العلوم الإسلامية، نظراً للتعقيدات التي حصلت في تطور العلوم، فكما حصل هذا التعقيد في موضوع الاجتهاد كذلك حصل في المجالات الأخرى.
2- تشخيص الخطوط الرئيسة لهذه المجموعات، وهي:
أ – خط الاجتهاد.
ب – خط إبلاغ الرسالة.
ج – خط التأليف أو الكتابة أو التحقيق.
د – خط التراث[14].
وفي هذا المجال أيضا دعا إلى تطوير مناهج الحوزة العلمية وإحياء علوم الفلسفة والكلام والتفسير والأخلاق والتاريخ والرجال واللغات الأجنبية والفقه المقارن.
ثم انه دعا ايضاً إلى المحافظة على العلاقة الروحية والمعنوية والعلمية بين الحوزة العلمية ومؤسساتها الدينية والثقافية ونشاطاتها الاجتماعية من ناحية، والأوساط العلمية والمثقفة في الجامعات والمراكز العلمية والخريجين والطلبة والأساتذة والكتاب والباحثين والأدباء من ناحية أخرى[15]. وكان يثني على انفتاح بعض العلماء على الجامعة والأوساط المثقفة كالشيخ مرتضى المطهري، والشيخ محمد رضا المظفر، والسيد محمد تقي الحكيم (رضي الله عنهم) لدورهم المتميز في تحديث المباحث الأصولية والفقهية والانفتاح على أوساط الجامعات في تأسيسها والتدريس فيها.
المحور الثاني: منظوره في التقريب بين المذاهب
لا نقصد من التقريب الوحدة الحقيقية بين المذاهب، فلا نتصور إمكانية أن يتخلى مذهب عن معتقداته الخاصة وينضوي تحت لواء مذهب آخر، فان ذلك من المحالات وان أمكن التوحيد الفكري في بعض المسائل، ولكن الهدف من التقريب هو تنبيه المذاهب بالمشتركات الكثيرة في العقائد والفقه والأخلاق، وهي مشتركات يمكن أن تشكل حلقة اتصال وثيقة بين المسلمين.
ولكن تبقى الوحدة الإسلامية أطروحة تعبر عن هدف أيديولوجي مقدس، وعلى الرغم من أنها أطروحة شاملة ذات أبعاد متعددة، إلا أن الملابسات التاريخية والاجتماعية الخاصة أضفت عليها نوعاً من التحديد فصارت عبارة يفهم منها البعد المذهبي والعلاقات المذهبية [16].
ويعني هذا المصطلح تقريب شقة الخلاف بين المسلمين، والحد من تأثير العوامل المفرقة التي كان من أهمها وأقواها جهل بعض المذاهب بأسس وركائز البعض الآخر مما ترك المجال مفتوحاً أمام تسرب الدعوات المغرضة في تشويه مفاهيم بعضهم والتقول عليهم بما لا يؤمنون به[17].
لقد كان الشهيد الحكيم من ابرز الشخصيات التي تبنت هذا المشروع الكبير وطرح آلياته وبين الأسس التي تقوم عليها عملية التقريب بين المسلمين وهي:
أولا: لابد من الاهتمام بالبحث عن الحقائق لكل مذهب من المذاهب الإسلامية، فكل مذهب له متبنيات خاصة، سواء في الجانب العقائدي أو الفقهي أو في حقل تفسير التاريخ وفهم التاريخ، ولكن حقائق كل مذهب قد اختلطت مع الأسف باتهامات ونسب باطلة.
ويرى أن التقريب بين المذاهب يفرض أمرين:
احدهما: الأخذ بمتبنيات وآراء كل مذهب من لسان أصحابه وآرائهم ومن الآراء الصحيحة والمعروفة لدى ذلك المذهب، وهذا أساس هام من أسس التقريب لفرز الصحيح عن المفتعل والمفترى أو المشتبه أو الشاذ في كل مذهب.
الأمر الآخر: هو التمييز بين الرأي السائد والرأي الشاذ داخل كل مذهب، فآراء رجال المذاهب بعضها يمثل الرأي العام السائد، وبعضها شاذ يختلف عن متبنيات علماء المذاهب السائدة، والباحث الذي يسند رأيا إلى مذهب معين لابد أن يأخذ بنظر الاعتبار الرأي السائد فيه ولا يتثبت بالآراء الشاذة.
نعم، يمكن أن ينقل هذه الآراء الشاذة وينسبها إلى أفرادها لا إلى المذهب بشكل عام.
ثانياً: قضية احترام الرأي الآخر، وهي مسألة أخلاقية وسلوكية ولابد أن تسود الحالة العلمية في المواقف والحوار بين العلماء، نعم الإختلاف طبيعي والدفاع عن الرأي والاستدلال على صحته حق لكل عالم، وردّ الرأي الآخر باستدلال علمي – أيضاً – حق لكل باحث عن الحقيقة.
ولكن يكون الرد تارةً بروح الاتهام والتحامل والهجوم، وتارةً أخرى يكون بروح احترام الطرف الآخر وأفكاره.
وعليه، يجب أن يكون تبادل الأفكار والآراء والمناقشات بين علماء المذاهب كما هو الحال بين علماء العلوم التجريبية والفكرية والثقافية الأخرى، أو بين المختلفين في المذهب الواحد، حيث يكون ردّ العالم على العالم الآخر يحمل روح الاحترام للرأي الآخر باعتبار أنه يرد على جهة علمية بذلت جهوداً حتى توصلت إلى هذا الرأي، وبنفس هذا الأسلوب من الاحترام المتبادل يجب أن يسير الحوار بين علماء المذاهب إذا شاءوا التقريب بينهم.
ثالثاً: لابد – في هذا المجال – من الاتفاق على مرجع التحكيم بين هذه الآراء والمذاهب، والمسلمون متفقون نظرياً على هذا المرجع، ولكنهم لا يلتزمون بهذا الجانب النظري (بعضهم على الأقل) وهذا المرجع هو الكتاب الكريم والسنة النبوية الصحيحة، فهم متفقون جميعاً على القرآن ويعتبرونه وحياً نازلاً على الرسول الكريم بنصه دون زيادة أو نقيصة، ولا قيمة طبعاً لما ينسب إلى الشيعة من القول بتحريف القرآن فهي نسبة باطلة وغير صحيحة، وهكذا بالنسبة للسنة النبوية، كل المسلمين يعتقدون بحجية ما جاء عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
رابعاً: إن ما يمكن أن يشكل أساساً من أسس التقريب هو الاهتمام بإبراز النقاط المشتركة بين المذاهب الإسلامية، صحيح أن هناك اختلافاً بين المذاهب الإسلامية في مختلف المجالات، ولكن الاشتراك بينها هو أكثر وأهم مما بينها من اختلاف، وكما هو معلوم فان نقاط الاتفاق بين مذاهب المسلمين مهمة جداً، تعبر عن وحدة الأمة الإسلامية وعن هويتها وشخصيتها، فهم يعتقدون بالأمة الواحدة وبالرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والكتاب الواحد ويودون أهل البيت، كما أنهم يحجون جميعاً حجاً واحداً ويقفون على صعيد مشاعر واحدة، وهذه نعمة كبيرة من نعم الله على الأمة الإسلامية، وهكذا الصلوات الخمسة قد اتفق عليها المسلمون في شكلها ومواقيتها وصوم شهر رمضان والزكاة والخمس والجهاد وغيرها الكثير من المسائل الرئيسة المتفق عليها بين المسلمين وإن كانوا يختلفون في بعض تفاصيلها.
خامساً: إن الاختلاف في الأفكار والآراء يجب أن لا ينعكس على موقف المسلمين من القضايا الإسلامية العالمية، فالاختلاف الفكري بين علماء أمة كبيرة لها تأريخ طويل وعلماء كثيرون طبيعي جداً، كما أن الاختلاف الفكري سنة من سنن الله تعالى ينتج الحركة والتلاحم والنمو والثراء، لكن موقف المسلمين من القضايا الكبرى يجب أن يكون موحداً لأن الاختلاف هنا يعني ضعف الأمة وتمزيقها وهيمنة أعدائها عليها.
سادساً: أن تكون هناك أوليات في الحركة الاجتماعية والفكرية والثقافية والسياسية وسائر المجالات الأخرى، ولابد من أجل التقريب بين المسلمين من وضع القضايا المهمة في رأس قائمة الاهتمامات والمناقشات، وسيكون ذلك عاملاً على التقريب بل على الوحدة، لان القضايا كلما كبرت فان الاتفاق بشأنها يكبر – أيضاً – وكلما دخلنا في التفاصيل والجزئيات أكثر اتجهنا إلى الهامش والى الاختلاف[18].
وهكذا نجد الشهيد الحكيم قائداً داعياً لوحدة الجماعة حين يقول: «من الضروري جداً لنا أن نتحد في هذه المرحلة، ربما نختلف في الرأي والتحليل، ولكن المهم أن لا يؤدي هذا التنازع والتصارع مع بعضنا البعض ليضعف بعضنا بعضاً»[19].
ويضرب لذلك مثالاً فيقول: «أن المنهج الوهابي في الوحدة بين المسلمين لا يقبل لأحد أن يصلي خلاف ما يرونه في طريقة الصلاة التي يتبعها، وإنما يجب أن يتكتف الجميع ويقرؤون قراءة واحدة، أما أن نجتمع ونصلي وفينا من يسبل فهذا غير مقبول في دعوتهم للوحدة»[20].
المحور الثالث: منظوره في الشعائر الحسينية
أخذت الشعائر الحسينية في فكر الشهيد الحكيم كثيراً من الاهتمام ويرجع ذلك لقناعته فيما للشعائر من دور كبير وأثر واضح في استنهاض الأمة وتوحدها وما تتركه هذه الشعائر من نتائج كبيرة على مستوى الوعي الثقافي والوحدة الاجتماعية وتثبيت أسس العقيدة الحقة.
ويرى الشهيد الحكيم أن الشعائر الحسينية وكذلك إحياء ذكريات المعصومين في مضمونها ومحتواها – مضافاً إلى تعبيرها عن الولاء لأهل البيت (عليهم السلام) عامة وللإمام الحسين (عليه السلام) خاصة – اجتماعاً للتداول في الأمور العقائدية والشؤون الأخلاقية والاجتماعية والتأريخية والقضايا ذات العلاقة بالأمور الحيوية اليومية التي تهم المسلمين. فهي اجتماع يشبه في جانب منه صلاة الجمعة من حيث مضمونها الاجتماعي التي يجتمع فيها المسلمون للاستماع إلى الخطيب الذي يحدثهم ويعظهم ويذكرهم بالله ويتناول في حديثه مختلف الأبعاد، وفي جانب آخر تحمل هذه الشعائر مضمون التذاكر للعلم والمعرفة والأخلاق[21].
ويرى السيد الحكيم أن الشعائر الحسينية عمل عبادي يتقرب به إلى الله تعالى وهي نوعان:
الأول: الشعائر الحسينية المنصوص عليها من قبل أهل البيت (عليهم السلام).
الثاني: الشعائر الحسينية التي لم يرد فيها نص، وإنما ابتكرها أتباع أهل البيت (عليهم السلام) كمصاديق لعنوان عام ورد فيه نص شرعي مطلوب، وسرّ تعظيم شعائر الله قوله تعالى: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)[22].
أما النوع الأول فيتصف بالثبات بالشكل والمضمون والأداء، وهو باقٍ لأنه يمثل حاجات حقيقية ثابتة في المجتمع الإنساني وفي مجتمع الجماعة الصالحة ومصاديقه الواضحة هي: البكاء ومظاهر الحزن، والزيارة، والمجالس الحسينية.
وأما النوع الثاني وهو المبتكر مثل: المواكب، ومشاهد تمثيل المأساة التي جرت على الحسين (عليه السلام)، أو المسيرات الشعبية، وغيرها فأنه لابد أن يخضع لضابطة شرعية مستنبطة من النصوص الدينية[23].
وهنا تبرز حالة الاعتدال في فكر السيد الشهيد الحكيم في معرض تناوله لهذه القضية الحساسة، فيرى أن لا إفراط ولا تفريط في هذا الأمر إنما يحمل ذلك إلى الضوابط الشرعية التي تحدد طبيعة هذه الممارسات الشعائرية بحيث لا يخرجها عن مضامينها الإنسانية والأخلاقية والدينية، وقد كان الشهيد الحكيم في غاية الوضوح والشفافية في تناوله هذا الموضوع ويلخص هذه الضابطة التي أشار إليها في أمور:
أولا: أن تكون الممارسة والأسلوب تعبيراً (عرفياً) عن تعظيم شعائر الإمام الحسين (عليه السلام) أو إظهار الحزن عليه، أو المودة فإن ذلك يكون تعظيماً لشعائر الله تعالى؛ لان الحسين (عليه السلام) هو (ثأر الله) وهو شعيرة من شعائره.
ثانياً: أن تكون الممارسة ذات قيمة معنوية ومحتوى إنساني أو فكري وروحي يصب في أهداف الثورة الحسينية.
ثالثاً: أن لا تكون الممارسة مما نهى عنها الشارع المقدس بعنوانها الخاص لانطباق عنوان محرم عليها كالضرر أو الهتك أو الاختلاط غير المباح بين الرجال والنساء، ويجب أن لا تتضمن الممارسة آثاراً سلبية مثل: هتك حرمة أهل البيت (عليهم السلام) أو إعطاء صورة مشوهة أو انطباع عام غير صحيح، أو تكون منفرة ومقززة كما هو الحال في بعض الممارسات التي توحي بمثل ذلك في جميع الأوساط الاجتماعية أو في بعضها على الأقل، حيث لا يعرف لها مثيل من ألوان العبادة أو السلوك الاجتماعي العام الذي أمره الشارع المقدس أو ندب إليه، فان هذه الممارسات التي ينظر فيها الوجدان الصافي والذوق الإنساني السليم التي لا نجد تفسيراً منطقياً لها ينسجم مع العقل والفطرة السليمة، لا يصح الإتيان بها، ولا نسبتها إلى الشعائر الحسينية إذ لا ينطبق عليها أي: عنوان من العناوين السابقة المشروعة كما لا يصح القيام بممارسات تؤدي إلى الوقوع في الحرام أو تقترب منه كالتعري أمام النساء أو الاختلاط بين النساء والرجال بطريقة منافية للحجاب الذي وضعه الشارع بينهما، أو استخدام الطرق التي يستخدمها أهل الفسوق في مجالسهم العامة للغناء وأمثال ذلك من المخالفات[24].
المحور الرابع: سلوكه الشخصي وعمله السياسي
إن الركائز الأساسية القائمة على أسس الإيمان بالله والارتباط به، هي عناصر بها تتقوم الشخصية الإسلامية وتتميز بواسطتها عن الشخصيات الأخرى، وتتفاعل مع بعضها لتكوّن المخطط الهادف والحارس اليقظ لتحديد الموقف السلوكي حينما تتفاعل الدوافع والمحفزات والغرائز وعندما تختلط بمثيراتها ومواضع توجهها في المحيط والبيئة الإنسانية.
وتتلخص هذه المقومات بالأمور الآتية:
1- الفكر الإيماني.
2- العاطفة الإيمانية.
3- الإرادة الملتزمة[25].
تتميز الشخصية الإسلامية بأنها شخصية عقلية، أي: يسيطر العقل فيها على كل تصرفات الفرد وبواعثه ودوافعه وعواطفه وغرائزه، ومن ذلك تنبعث حالة الايجابية والالتزام والاتزان في الشخصية، حيث يبني الإسلام شخصية الإنسان على أساس من الوحدة والتوافق والإلتزام بين منظوماته الفكرية والسلوكية والعاطفية دونما ثغرة أو تناقض أو انحراف. لا يغطي عليها الانفعال ولا يسيطر عليها التفكير المادي أو الانحراف الفكري، تتمتع بحس إنساني يقظ وضمير متفتح يميل دوماً إلى التعاطف والرحمة وينفر من القسوة والشدة والغلظة، فالشخصية الإيمانية رقيقة القلب منفتحة العاطفة.
وتشعر الشخصية الإسلامية دوماً بالمسؤولية الرسالية الكبرى وبدور تأريخي مهم تطمح إلى النهوض والقيام به وتأديته، وهذا الدور هو إصلاح البشرية وهدايتها وقيادتها، فهي دائماً داعية للخير ورائدة للإصلاح، فلا تقف عن حدودها وإطارها إنما نجدها في إطار القيادة للأمة والمسؤولية الأخلاقية والشرعية في حمل همومها وطموحها في الوقت نفسه، وقد انعكست هذه الصفات بتفاصيلها الدقيقة في شخصية السيد الشهيد الحكيم (رحمه الله) فنجده يقول: «يأتي دور القدوة التي تقرن القول بالعمل، وتجسد الادعاء وتصدق الحقيقة.. وبذلك يصبح القول المقرون بالعمل أكثر تأثيراً في النفس لما فيه من دلالة على قناعة وإيمان حقيقي من قبل الآخرين لان القناعة والإيمان يكون لها تأثير في النفس لما فيه من الدلالة على صدق التجربة وصحة الادعاء والاستعداد للمواساة وتحمل أعباء المشاكل»[26].
وفي مجال رؤيته لصفات الداعية يقول: «واهم هذه الموازين هو الدعوة إلى الحق والعقيدة الصالحة والتقوى والصبر والثبات على الطريق المستقيم… والسير في طريق الكمال الإنساني والابتعاد عن مزالق الهوى والعجب والظلم والاستكبار… بحيث يكون هذا الاجتياز قائماً على أساس الجانب المعنوي والتكاملي في الإنسان حيث نجد هذه الصفات مثبتة في القرآن الكريم»[27].
ويرى الشهيد الحكيم أن ما يزيد في تأثير وفاعلية الداعية والقدوة هو الاتصاف بميزتين رئيسيتين:
الأولى: رابطة الحب والود مع الناس، حيث ينتقل العمل الصالح الذي يمارسه القدوة إلى هؤلاء الناس ليس من خلال عقولهم فحسب وإنما يأخذ طريقه إلى قلوبهم ووجدانهم من خلال هذه العاطفة المؤثرة والمحركة لإرادة الإنسان.
الثانية: الموقع الاجتماعي، مثل أن يكون الإنسان القدوة زعيماً في المجتمع أو مرجعاً دينياً، حيث يكون هذا الموقع الاجتماعي عاملاً طبيعياً في التأثير والإتباع.
ولذلك كان الشهيد الحكيم يصف العزلة عن المجتمع وعن التأثير فيه، ويشبهه بالفرار من الزحف في ميادين القتال، لان الوظيفة الشرعية والمسؤولية الأخلاقية تفرض الدخول في ميدان الصراع الاجتماعي مع قوى الضلال والكفر وأحزاب الشيطان[28].
بالإضافة إلى ذلك نجد ملامح شخصية الشهيد الحكيم واضحة وقريبة جداً من شخصيات هؤلاء الرجال العظام، فهو غير مستبد برأيه على ما يمتلكه من مؤهلات القيادة والنظر الثاقب والرؤية الواضحة، فهو دائماً في موقع الاستشارة، إذ تشكل المشورة في عمله احد الأركان الأساسية التي يعتبرها (قدس سره) جزءً لا ينفك عن العمل على الرغم من تجربته الغنية في الحياة والعمل السياسي والاجتماعي، وهي تجربة تمنحه القدرة على اتخاذ القرار الصائب[29].
[1] ابن منظور، لسان العرب، ج9، ص305، مادة (وسط).
[2] البقرة: 143.
[3] الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القران، ص819.
[4] الدكتور ثائر إبراهيم الشمري، الوسطية في العقيدة الإسلامية، بيروت، دار الكتب العلمية، 2005م ص20.
[5]القلم: 28.
[6] الطبري، التفسير، تحقيق محمود محمد شاكر، ج3، ص152.
[7] هاشم الميالي، الوسطية في الفكر الإسلامي، قم: مطبعة الصدر، 2007م ص9.
[8] الفرقان: 76.
[9] الإسراء: 29.
[10] محمد باقر الحكيم، الحوزة العلمية، نشوؤها، مراحل تطورها، أدوارها، قم مطبعة العترة، 1424ه -، ص41.
[11] محمد باقر الحكيم، الحوزة العلمية وحركة الإصلاح، دار التبليغ الإسلامي، د.ت، ص20.
[12] محمد باقر الحكيم، الحوزة العلمية وحركة الإصلاح، دار التبليغ الإسلامي، د.ت، ص44 – 45.
[13] محمد باقر الحكيم، الحوزة العلمية وحركة الإصلاح، دار التبليغ الإسلامي، د.ت، ص48.
[14] المصدر السابق، ص48.
[15] محمد باقر الحكيم، الحوزة العلمية وحركة الإصلاح، دار التبليغ الإسلامي، د.ت، ص31.
[16] محمد علي التسخيري، أضواء على الوحدة الإسلامية. طهران، 1998م، ص9
[17] محمد تقي الحكيم، أصول الفقه المقارن، ص14.
[18] محمد باقر الحكيم، حوارات منشورات دار الحكمة، قم، د.ت، ص112 – 115.
[19] محمد باقر الحكيم، دور الجامعيين في مستقبل العراق، مطبعة العترة، قم، 1424ه -، ص23.
[20] المصدر السابق، ص28.
[21] محمد باقر الحكيم، دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة، ط2، قم، مطبعة العترة، 1424ه -، ج2، ص182
[22] الحج: 32.
[23] محمد باقر الحكيم، حوارات، ص181.
[24] محمد باقر الحكيم، حوارات، ص182 – 183.
[25] لجنة التأليف في دار التوحيد، كتاب الشخصية الإسلامية، ط2، 1982.
[26] محمد باقر الحكيم، القدوة الصالحة ودورها في عملية البناء، دار التبليغ الإسلامي، ص13.
[27] المصدر السابق، ص21.
[28] محمد باقر الحكيم، القدوة الصالحة ودورها في عملية البناء، دار التبليغ الإسلامي، ص27.
[29] محمد هادي، إطلالة على سيرة السيد الحكيم، ص55.