السيد الشهيد الحكيم (قدس سره) والعلوم القرآنية
بحث شارك في المؤتمر الأول لإحياء التراث الفكري والعملي للشهيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم
الباحث: الشيخ الدكتور صاحب محمد حسين راضي نصار
عميد كلية القانون / جامعة الكوفة
السيد الشهيد الحكيم (قدس سره) والعلوم القرآنية
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
توطئة
قبل الولوج بالحديث عن الموضوع أود أن استعرض جانبا من السيرة الذاتية لشخص السيد الحكيم؛ لنكون على إلمام بهذه الشخصية الفكرية العلمية الثقافية السياسية، فضلا عن الروح الجهادية التي كان يتميز بها، إذ كان يمثل قمة الجانب الفكري الجهادي للمعارضة العراقية، فلم يكن مجرد رجل معارض للنظام الصدامي المجرم الضال البائد، والعصابة التي كانت تسانده، وتنفّذ كل مؤامراته الدنيئة، فلم يكن ذلك يشكل عائقا أمام مواصلته لنشاطه العلمي والثقافي في الدراسات الدينية التي تمثل البعد الحوزوي الذي ظل شاخصا في بلد الغربة والمنفى متميزا بالرأي الثاقب والرؤية والمنهج الأكاديمي الذي طغى على منهجه وأسلوبه وكتابته ورؤيته وأطروحاته، فقد صهر آراءه في بوتقة واحدة جامعة بين الأصالة الحوزوية والحداثة والمنهج العلمي الأكاديمي، والتي كانت متأصلة أيام كان أستاذا في كلية أصول الدين في بغداد، التي كانت تمثل القمة في الرؤية الموضوعية التي تواكب روح العصر الجديد بما يحمل من سياقات التطور الفكري لمتطلبات المرحلة المعاصرة أصالة وتجديدا ومسايرة متمثلة بشخوص رجالها العظام، كالمفكر الإسلامي السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) والسيد مرتضى العسكري (أطال الله عمره) والشيخ عارف البصري وإضرابهم من الرجالات التي كانت تمثل طليعة الجهاد والنضال والمقاومة والمعارضة بالفكر والقلم والجهاد العلمي.
أستذكر الآن ذلك اللقاء الذي ضم أساتذة جامعة الكوفة عندما التقوا شخصه الكريم، حيث دار الحديث العلمي المركز والمعمق في واقع التعليم العالي بكل جوانبه الفكرية والعلمية والثقافية والإدارية؛ لما يحمل من معالجات لتأسيس واقع جديد لنشر الفكر الإسلامي برؤية جديدة من خلال بيان فكر آل البيت (عليهم السلام)؛ لأنهم يمثلون واقعاً وحاضراً ومستقبل الأمة، فهم عدل القرآن ولسانه الناطق بالعلوم والمعارف، ولكن اغتالته اليد المجرمة؛ ظنا منها عرقلة المسيرة الفكرية والعلمية والثقافية، ولكن شاء الله لهذه المسيرة أن تستمر وأن الشهادة والنضال طريق آل البيت وشيعتهم، فقد ولد السيد الشهيد في بيت القلم والعلم والأدب والجهاد، وترعرع في كنف الزعيم المجاهد السيد محسن الحكيم (قدس سره) الذي مثّل وقتئذ الزعامتين السياسية والدينية، وعايش ما دار حول مرجعية والده (قدس سره) من صراعات واتجاهات سياسية ودينية على الساحة العراقية والعربية والإسلامية، فقد أثرت في نفسه وكيانه ورؤيته لمستقبل الأمة، مكملا مشواره، الفكري والسياسي والعلمي والجهادي والديني بمساندة المفكر الإسلامي الكبير الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) فكان الأخ والرفيق والعضد والفاعل على طريق النضال، فكان بحق السيد باقر الحكيم العضد المفدى للسيد الصدر، فضلا عن مآسي البلد الجريح والشعب المطارد في المنافي، كل ذلك وغيره هيأ في شخصية الفقيد الراحل ذلك الإبداع والعطاء والنضال على جميع الصعد، فكان مناضلا وكاتبا ومجاهدا وأستاذا وراعيا، فقد كتب في علوم القرآن والتفسير، حيث وجد في الساحة العلمية على الصعد الحوزوي والأكاديمي فراغاً واضحا في المعالجات القرآنية لمواضيع نحن بأمس الحاجة إليها على الصعيدي الحوزوي والأكاديمي فجاءت كتاباته (قدس سره) في علوم القرآن وافية ومفيدة.
نعم، كانت هناك كتابات في علوم القرآن على المستوى الحوزوي، ككتاب السيد الخوئي (قدس سره) في البيان، وهي في عدد محدود من المباحث في علوم القرآن، والسيد محمد حسين الطباطبائي في (علوم القرآن)، وكتاب الزنجاحي في تأريخ القرآن، وكتابات السيد محمد حسين فضل الله في علوم القرآن والسيدين هادي ومحمد تقي المدرسي.
أما في الجانب الأكاديمي فكان هناك استاذنا الدكتور محمد حسين الصغير في علوم القرآن وتاريخه ومبادئ التفسير وغيرها، وكتاب الدكتور داوود العطار الموجز في علوم القرآن وغيرها.
ولكن تميّز السيد الحكيم في دراساته القرآنية، والتي كانت بمثابة محاضرات لطلبة كلية أصول الدين التي كانت بين ثناياها رؤية السيد محمد باقر الصدر لبعض المسائل المرتبطة بعلوم القرآن، والذي تميّز بأسلوب منهجي أكاديمي منظم ومرتب بخطة علمية جامعة، وقد وردت فيها الهوامش للمصادر والمراجع المعتمدة في البحث وتمنهجه، فقد طبع هذا الكتاب أربع مرات، ومن الجدير بالذكر والإشارة إلى انه ترجم إلى اللغة الفارسية، فضلا عن كتاب (القصص القرآني) الذي أصبح منهجا يدرس في الجامعة الدولية للعلوم الإسلامية في إيران، وقد تم ترجمته إلى اللغة الفارسية من قبل إحدى دور النشر في طهران، وسيبقى شهيد المحراب شهيدا للقلم والمعرفة والفكر والثقافة ليضئ لنا جميعا طريق المعرفة بنور القرآن الذي كتب وبحث ودرس.
السيد محمد باقر الحكيم والعلوم القرآنية
شهدت ساحة الفكر الإسلامي في الآونة الأخيرة اهتماما (ملحوظا) في الدراسات القرآنية؛ من اجل ضبط وتحديد الركائز الأساسية للفكر القرآني، وتشكيل العناصر المعرفية للوقوف بوجه المشاكل الفكرية التي يعاني منها المجتمع الإسلامي.
والمتتبع للدراسات القرآنية يجد ضالته في كتاب (علوم القرآن) لشهيد المحراب آية الله السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) من خلال سياحته في آفاق القرآن الكريم، وما رسمه من خطوط منهجية استوعبت جميع الأركان التي تكشف عن قدراته العلمية من خلال تحديد موقفه واتجاهه الواضح المعزز بالأدلة والبراهين.
إن القرآن الكريم وما يحتله من أهمية في الإسلام كأساس معتمد في تأسيس العقيدة من جهة، وقطعية صدوره من الله من جهة أخرى، يجعل الاهتمام به امراً ضرورياً بالكتابة في علومه وموضوعاته، وانطلاقاً من إيمان السيد الشهيد السعيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) بحاجة طالب العلم إلى هذا الدرس في جميع مراحله، وفي جميع اختصاصاته؛ لان القرآن دليل المجتهد، وحجة المسلم، وشاهد الخطيب، وهادي الطالب، وواعظ المبلغ، إلى غير ذلك، فقد اتجه إلى دراسة القرآن دراسة موضوعية تناول فيها مختلف الجوانب المرتبطة بمنهجية علوم القرآن؛ لأن دراسة آيات الأحكام وحدها غير كافية في الحوزة العلمية على إعطاء التصور العام عن الإسلام؛ لأن آيات الأحكام لا تحتل إلا جزءا (محدودا) من القرآن الكريم، وان معرفة وبيان هذه الآيات وغيرها لا يتم إلا بدراسة واستيعاب وفهم مفردات علوم القرآن، والتي من خلالها تتوضح كل المسائل وعلى جميع الأصعدة العلمية، إضافة إلى أنها لا تفي بما تحتاجه الشخصية الإسلامية من العيش في ظلال روح القرآن وذوقه، وعلاجه لقضايا المجتمع والأمة، من خلال عرضه للتاريخ وحديثه عن الأنبياء والمجتمعات والأمم السالفة، من هنا جاء إهتمام السيد الحكيم (قدس سره) في درس علوم القرآن، إذ كان يرى أن ترك تدريس القرآن والاعتماد على جهد الطالب ومطالعته الخارجة في هذا الصدد لن يعطي للدرس اعتباراً علمياً، ولا يمنحه الاهتمام المطلوب؛ لان الدرس إذ لم يوضع موضع المناقشة فلا يمكن ان يتصور،بل يجعله هامشياً ثانوياً متروكاً للزائد من الوقت وللراغبين فيه.
إن الكشف عن أبحاث القرآن الكريم، وتهيئة مقدمات فهمه داخل في مضمون قوله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[1].
لان فهم ناسخه من منسوخه أو محكمه من متشابهه إلى غير ذلك من الأبحاث المعبر عنها (بعلوم القرآن) تيسر فهم القرآن والاستفادة منه، والسير على نهجه، وهذا ما اضطلع بتوضيحه والتوسع فيه في القسم الأول من كتابه (علوم القرآن) حيث تناول (قدس سره) المواضيع التي تتناول نزول القرآن والتدرج في التنزيل؛ ذلك لأن لمعرفة أسباب النزول أثراً كبيراً في فهم الآية والتعرف على أسرار التعبير فيها؛ لان النص القرآني المرتبط بسبب معين للنزول تجيء صياغته وطريقة التعبير فيه وفقاً لما يقتضيه ذلك السبب، فإذا لم يُعرف، ولم يحدد، فان أسرار الصياغة والتعبير تبقى غامضة.
إن الاحتكاك بالواقع ساهم مساهمة جادة وفاعلة في تشخيص النسق الثقافي للإنسان المسلم، وتحديد نقاط الضعف والقوة في البنية الفكرية. خصوصا إذا لاحظنا وجود ثغرة في هذا المجال الذي دخلت من خلاله الأفكار والثقافات التي تنتسب إلى أيدلوجيات شقّت طريقها في النفوذ بقوة إلى عقل الإنسان المسلم، وأحدث خللا معرفيا في بقيته الفكرية، كالإسرائيليات وغيرها، وكان هذا عاملا مساعدا على التراجع والنكوص في مواجهة الواقع، وللوهلة الأولى قد يرى بعض المراقبين أن هناك مستوى من الاهتمام بحفظ القرآن وقرائته بصورة صحيحة، بيد أن المشكلة لا تكمن في مدى أتساع رقعة الحفظ للقرآن، وتربية الأجيال على القراءات الصحيحة، بل هناك عجز ونقص واضح في عدم بلورة الفكر القرآني واستظهار مفاهيمه إلى الحياة بحكم شمولية القرآن وجامعيته لحركة الحياة والمجتمع، وهذا ما دعا سماحة آية الله شهيد المحراب إلى التوسع في دراساته القرآنية لتشمل كل هذه المساحة الواسعة من المواضيع المرتبطة بجل المحاور الأساسية التي تشكل الدعامة الأولى للحركة الفكرية والواقعية في بقاء الفرد والمجتمع.
فتجد هناك مزيدا من التروي والتأمل لاستظهار الآيات القرآنية وجمع شتاتها؛ لتحديد الرؤية الفكرية والعملية لبناء الأمة إيديولوجيا على ضوء المنهج الفكري القرآني وربطها به معرفيا؛ لتكون قادرة على النهوض والمواجهة الميدانية في معترك الصراع الفكري، وترجع إلى سابق عهدها، وما كانت تحمل من تراث فكري وحضاري عريق استطاعت من خلاله أن تحدث نقلة معرفية في شتى مجالات المعرفة والعلوم الطبيعية والإنسانية في تاريخ الفكر الإسلامي.
لقد جاءت محاولة السيد محمد باقر الحكيم في دراساته القرآنية لتقدم لنا مادة دراسية في الفكر القرآني، فقد كان رحمه الله يأمل في فتح باب الثقافة القرآنية على مصراعيه لتناول المباحث الفكرية والاجتماعية في الثقافة القرآنية؛ كي تنهض بالإنسان المسلم من كبوته، وتجعله يعيش مع موضوعية ومنهجية القرآن فكرا ووعيا وممارسة، فكتابه علوم القرآن ساهم في تحديد الأبعاد والرؤى الفكرية والحركية للقرآن الكريم، وأهمية هذه الدراسة لا تكمن في إعادة تفسيره أو تأويله وإنما تكمن في محاولة تخليص الفكر الإسلامي من شوائب كثيرة تمهيدا لإحداث النقلة النوعية باتجاه المعرفة والمنهج في مجتمع إسلامي.
فدراساته القرآنية في كتبه (علوم القرآن) و(التفسير) و(القصص القرآني) تدعو إلى تحديد المناهج العامة للقرآن، وجعله أساس ثقافة الإنسان المسلم المعاصر؛ ليعود إليه ويستنطقه، لينهل من مناهله ورؤاه الفكرية ليستعيد العقل المسلم مكانته، ويظهر دوره ومسؤليته في واقعه الراهن، بعد ظهور المحاولات الخبيثة في تحجيم العقل الإسلامي وإقصائه عن بناء المجتمع الإسلامي على ضوء القيم والمثل التي دعا إليها الإسلام العظيم، وهذا ما يدعو الإنسان المسلم إلى الوقوف على أبواب القرآن بفهم صحيح ووعي يقوم على تشكيل أدوات التواصل وكيفية التعامل مع الكتاب العزيز.
إن الأزمة التي ما نزال نعاني منها ليست بافتقاد المنهج، فالمنهج
(مصدر المعرفة) موجود، فله قواعده وأصوله المعروفة تاريخيا، لكن المشكلة تكمن في افتقاد وسائل الفهم الصحيح وأدوات التوصيل، وكيفية التعامل مع القرآن، أي: منهج فهم القرآن والسنة، فالله سبحانه وتعالى يقول: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً)[2] ويقول: (وَأَنَّ ﻫذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ)[3].
وقد تناول سماحة آية الله السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) في دراساته القرآنية عدة محاور فكرية تتسم بالنقد الموضوعي البنّاء من خلال التصور القرآني للمشاكل التي يعاني الفكر الإسلامي منها.
لقد أعطى سماحته (قدس سره) فكرة مفادها خصوبة القرآن الكريم في إعطاء نظرة عامة حول الواقع والحياة، وقدرته على استيعاب المشاكل الواقعية التي يعاني منها المجتمع الإسلامي، وهذا يفرض اختلاف وجهات النظر في تحديد الرؤية والتصور القرآني للمشكلة.
ومن المفاهيم التي تمت معالجتها هي العودة إلى القرآن الكريم لدراسة علومه، وبيانها في الصورة المعمقة والحفظ، وضرورة الوعي في القرآن، وكذلك دور المنهج والمدارس التفسيرية في فهم القرآن والتعامل معه، وشمولية الرؤية للقرآن، والتركيز على التفسير الموضوعي؛ لتكوين قاعدة أساسية وثوابت معرفية لكثير من المشاكل الواقعية التي تعاني من أزمتها، وأبعاد المناهج المطلوبة في فهم الخطاب القرآني، ومشكلة السنن والقوانين لمراجعتها لفهم مسبباتها، وكذلك الفقه بين دلالات القرآن، وإصطلاح الفقهاء، وخلود القرآن، وإدراك السنن الإلهية في الأنفس والآفاق، وكذلك الإعجاز العلمي للقرآن، وتأسيس منهج العودة إلى كتاب الله، ومشكلة الاستبداد السياسي ودورها في ابتعاد الأمة عن القرآن الكريم.
وغيرها من المواضيع التي تسهم في معالجة المشكلة الاجتماعية والسياسية التي يعاني منها الفكر الإسلامي على مستوى الفرد والمجتمع.
إن المنهجية تُعدّ من أمهات المشاكل لفهم القرآن الكريم؛ لأننا نعيش روح الاختزال في كثير من المفاهيم الفكرية في القرآن الكريم، وفي القرآن كثير من الأبعاد والرؤى التي تعالج مشاكل يعيشها المجتمع الإسلامي هي بحاجة إلى إماطة اللثام عنها، ولم يغفل السيد الحكيم مشكلة المدارس الفكرية في التراث الإسلامي والمذاهب التي تطاولت على كثير من الآفاق القرآنية، وهذا ما يفرض وجود منهج للتعامل الصحيح مع القرآن؛ لان بعض المدارس التفسيرية قد تأثرت بعوامل وظروف معظمها متعلقة بالمدرسة أو المذهب الذي ينتمي إليه المفسر، وهذا ما يدعوه إلى بلورة النص القرآني وفق التصورات الفكرية التي آمن بها سلفا؛ ليحدد بذلك الحركة التفسيرية في مفاهيم القرآن الكريم.
وهذا ما يتطلب تحديد المنهج الشامل للقرآن والغوص في أعماقه والتدبر في آياته للوصول إلى المقاصد التي نصبوا إليها، وهو يشكل عاملا مهما في الثقافة القرآنية والفهم القرآني، وهذا هو الذي حتّم على السيد الحكيم العودة إلى تأسيس المنهج المطلوب، ومع الأسف إننا نلحظ هناك اهتمامات في الفقه بشكل يلفت النظر دون التوسع في المجالات والمحاور الأخرى في القرآن، سواء في التاريخ أم السياسة أم الاقتصاد أم علم الاجتماع؛ من اجل تأصيل المنهج الإسلامي في واقع الحياة.
إذا نظرنا في فقه المعاملات والعبادات، فانا لا أعرف أمة أطالت الوقت في الفروع الفقهية كأمتنا.. لاشك أن هذه المساحة التي أخذها البحث في الفروع الصغيرة.. كانت على حساب القضايا الكبيرة والأساسية؛ لان من خلال القرآن ينطلق المفكر والعقائدي والأخلاقي والعملي من خلال أسس ومرتكزات سليمة ورصينة؛ لان القرآن هو المصدر الأول والأساس في كل ذلك وغيره.
لقد أضحى كثير من المسلمين لا يرون في تطبيق الشريعة تطبيق الأحكام الفقهية وتطبيق الحدود، وتحريم المصارف الربوبية، بينما يصعب عليهم إبصار بقية جوانب الحياة الأخرى من خلال المناخ الثقافي الإسلامي الذي نعاني منه.
هذه النظرة التجزيئية هي التي دعت كثير من الفقهاء للانشغال في محور الفقه دون الاتساع والإبداع في الجوانب الأخرى لمفاهيم القرآن. فالمجتمع الإسلامي كما هو قائم على أسس فقهية وقانونية معينة من حيث الأبعاد والرؤى التشريعية، كذلك يحتاج إلى تقديم رؤية حول منهاج الحياة في الاقتصاد والتاريخ والاجتماع والسياسة والفكر؛ كي يكون الفكر الإسلامي مستوعبا لتمام مرافق الحياة.
لقد أحس السيد الحكيم (قدس سره) باحتياج الفكر الإسلامي للتخلص من هذه النظرة الضيقة، إلى تجاوز تجزئة القرآن، والبحث عن محاور أخرى قد استوعبها القرآن من خلال نصوصه وآياته، وهو ما دعاه إلى البحث عن الصيغة الكلية والشاملة في وعي القرآن من خلال استنطاق آياته والتعرف على نصوصه.
النظرة الموضوعية لفهم القرآن
لقد تناول السيد الحكيم (قدس سره) في دراساته القرآنية التفسير الموضوعي للقرآن، ومما لاشك فيه أن التفسير الموضوعي يُعدّ من القضايا الملحة في حركة الثقافة القرآنية في الواقع الذي يعيشه المجتمع المسلم، والذي يتطلبه المنطق الصحيح والموضوعي لفهم القرآن، وبهذا يمكن التخلص من الاتهامات الموجهة إلى الفكر الإسلامي بعجزه عن التطبيق الصحيح في النظرة الشمولية لحركة الحياة، وأدرك إننا بحاجة إلى التصور الجامع للقرآن من خلال دراسة الآيات والنصوص القرآنية لبناء ووضع نظرة شمولية وعميقة في تأسيس القواعد والقوانين لتلبيته متطلبات الواقع الراهن والمستقبل.
إن النظرة الشاملة هي النظرة الصحيحة للدراسات القرآنية، ولا يمكن الرضا بنظرة جزئية، فالنظرة الجزئية عندما سادت الفكر الإسلامي نشأ عنها ما يشبه الجسم المشلول في بعض أطرافه.
ولابد من الإشارة إلى أن هذا الاتجاه في التفسير الموضوعي للقرآن بلور منهجيته المفكر الإسلامي الكبير السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) عندما قام بإلقاء محاضرات في التفسير الموضوعي على طلبته في النجف الاشرف عام 1399ﻫ فقد استطاع السيد الشهيد أن يبلور نظرية الاتجاه الموضوعي في التفسير، ويقدم نماذج علمية في هذا المضمار في محوري السنن التأريخية في القرآن، وعناصر المجتمع في القرآن الكريم، باعتبار أن التفسير التجزئي معيق لحركة النمو؛ لان المفسر يبدأ بتفسير القرآن آية آية، أو يقوم بعملية تقويم للنص القرآني، أما التفسير الموضوعي فانه لا يبدأ عمله من النص بل من واقع الحياة يركز نظره على موضوع من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية، ويستوعب ما أثارته تجارب الفكر الإنساني حول ذلك الموضوع من مشاكل، وما قدمه الفكر الإنساني من حلول. ثم يأخذ النص القرآني دوره وفاعليته لا ليتخذ من نفسه بالنسبة إلى النص دور المستمع والمسجل فحسب، بل ليطرح بين يدي النص موضوعا جاهزا مهيئا بعدد كبير من الأفكار والمواقف البشرية، ويبدأ مع النص القرآني حوارا (سؤال وجواب).
وهذا ما دعا السيد الحكيم (قدس سره) الرديف والعضد الفاعل للسيد الصدر فكريا وعلميا وعمليا أن يوضح ويبيّن ويوسع الاتجاه الموضوعي في التفسير القرآني، وهذا ما بدأ واضحا في كتاباته ومحاضراته.
إن تفسير القرآن الكريم بهذه الصورة يجعله أكثر احتكاكا بالواقع العملي لحياة الناس، وأكثر انسجاما واستيعابا للمشاكل الفكرية التي يعاني منها المجتمع المسلم في ظل الأوضاع الفكرية والأيدلوجية التي تحيط ببعض مواطن الضعف في ثنايا التفكير عن المسلمين، وهو ما عالجه السيد الحكيم بحكمة وروية من خلال النظرة القرآنية الفاحصة لمشاكل الأمة.
لقد خضع القرآن الكريم لمناهج تفسيرية متعددة منذ أن أصبح محط الأنظار بصفته الأساسية، والمصدر الأول للاستنباط والمنبع الأساسي للعلوم والمعارف، والسبيل القويم للهداية والعرفان، والدليل المعتمد في الاحتجاج والبرهان، ولقد تأصلت تلك المناهج بالإفادة من حركة التطور الفكري، ومما اقتضته طبيعة المواجهة للتحديات الداخلية المتعلقة بإشكاليات الحياة الاجتماعية والسياسية والعقلية للمجتمع المسلم وللتحديات الخارجية المتمثلة بالتيارات الفلسفية والدينية الوافدة.
ويمكن أن نشير إلى أن أهم المناهج التفسيرية التي انبثقت في عملية المواجهة الشاملة تلك، ومثلّت الاستجابة لذلك التحدي الحضاري كانت المنهج (العقلي) ثم (النقلي) الذي كان له الأسبقية في الظهور بحكم عوامل معينة أدت إلى تأخر المنهج العقلي، ويقف في مقدمة تلك العوامل التفسير بالرأي، من هنا سلك سماحة السيد الحكيم (قدس سره) منهجا توفيقيا، وأعني به: منهج المزاوجة بين المعقول والمنقول، وهو إنما سلك هذا المنهاج كمحاولة للتخلص من الإشكالات التي أثيرت على كلا المنهجين السابقين.
إننا نكتشف السيد الحكيم (قدس سره) مفسرا في طليعة كبار المفسرين من خلال ما رسمه من خطوط منهجية في التفسير استوعبت جميع الأركان التي تكشف عن قدرات المفسر حيث يقول: (وهذا الفهم للتفسير يعتمد على عدة منطلقات… مثل تعرض القران وبيان لكل شئ)[4] وكذلك ثبوت تفسير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للقرآن الكريم بهذا الشكل الواسع، وتعليمه للإمام علي (عليه السلام) بشكل خاص تعرض له في زمن مرجعية أهل البيت (عليهم السلام) أو ارتباط بقاء القرآن الكريم حياً ونورا هاديا على مرّ العصور والأجيال، بهذا الفهم الواسع للتفسير فهو يرى أن اختلاف علماء الإسلام بشكل خاص حول تحديد المقصود من كلمة التأويل خصوصا المعنى المصطلح لها، فقد عالج هنا مدلول الكلمة قرآنيا، ثم جعل هذه المصاديق هي المطلوبة في تفسير المعنى، فليس المراد بالتأويل إذن المعنى الباطن العائم الذي لا يستند إلى شئ ولا هو الفهم الأخر المغاير لظاهر اللفظ، كما ذهب إليه فريق آخر، بل هو المصداق الخارجي الذي ينطبق عليه ذلك المعنى بشكل تام، فلا تنظر عنه بعض ألفاظ النص، ولا تأباه مدلولات الكلمة واستعمالاتها، ولا يأباه النص في تركيبة التام ولا في وضعه السياقي.
وفي تحديد المتشابه من القرآن يستعرض السيد شهيد المحراب (قدس سره) كل الآراء المنقولة منه، عرضا ونقدا ثم يثبت رأيه التام ملخصا بالنقاط التالية:
1 ـ إن المتشابه لم ينشأ من ناحية الاختلاط والتردد في معاني اللفظ ومفهومه اللغوي.
2 ـ كما أنه ليس المحكم ما يكون في دلالته اللغوية متعين المعنى والمفهوم فحسب، بل لابد فيه من التعميق في تجسيد صورته الواقعية، وتحديد مصداقه الخارجية.
فالمحكم من الآيات ما يدل على مفهوم معين لا نجد صعوبة أو ترددا في تجسيد صورته أو تشخيصه في مصداق معين.
وللتشابه ما يدل على مفهوم معين تختلط علينا صورته الواقعية ومصداقه الخارجي فأي معنى فيه تردد في تحديد صورته وتجسيد مصداقه فهو معنى متشابه، والآية التي تتضمنه آية متشابهة، واذا كنا لا نتردد في تحديد صورته وتجسيد مصداقه وإنما يركن القلب والعقل عنده إلى صورة واضحة ومصداق معين فهو معنى محكم والآية التي تضمنه آية محكمة[5].
ولا أريد الإطالة في الحديث عن منهج السيد في دراسته القرآنية فهو المنظر الذي صاغ نظرياته، وحدد معالمها، ثم انطلق منها إلى تطبيقاتها التي منحتها الحياة والبقاء، فرحم الله السيد الحكيم يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
[1] محمد: 24.
[2] المائدة: 48
[3] الأنعام: 153
[4] علوم القرآن: محمد باقر الحكيم دار المعارف للمطبوعات بيروت ط1995 ص 240.
[5] ينظر علوم القرآن: محمد باقر الحكيم ص 91 ـ 92/ ط4