أهم ثمار النهوض المرجعي المؤسسات الجامعية الأكاديمية ودور الباحثين الحوزويين فيها
أهم ثمار النهوض المرجعي المؤسسات الجامعية الأكاديمية ودور الباحثين الحوزويين فيها
أ. م. د. محمد عليوي ناصر الشمري
عميد كلية الآداب
جامعة المستنصرية – بغداد
شارك البحث في المؤتمر الفكري الثالث الذي عقدته مؤسسة تراث الشهيد الحكيم (قدس سره) في النجف الأشرف عام 2008م تحت عنوان: (فكر الشهيد الحكيم ودمه الزاكي يضيئان الطريق أمام وحدة العراق ونهضته العلمية).
المقدمة
عانى العراق منذ قيام الدولة العراقية بعد الانتداب البريطاني من تغييب دور الفكر الديني للغالبية المطلقة من الشعب عن الساحة، وخصوصاً الساحة السياسية دولة وحكومة، مع أن هذه الغالبية المطلقة هي التي أشعلت نيران الوقوف بوجه الأجنبي حتى أذعن لمطالب الأمة في الثورة العراقية الكبرى.
وفي ضوء التمكن من رقبة الدولة والحكومة صار بالإمكان أن يغيب هذا الجمع عن مؤسسات الدولة الفاعلة ووزاراتها ومناهجها، فكان الفكر الديني على وفق أحادية المنهج مع الضرب على الرأي الآخر ودوره.
وكان الفكر القومي الممثل بمنهجية «ساطع الحصري» وأمثاله… صوراً تشكل مظاهر ليّ رقبة الآخرين بالشعار الكاذب البراق الذي يهدف فيه إلى إتهام الرأي الآخر بكل أنواع التهم.
وفي نهاية الخمسينات حين آلت المرجعية الدينية إلى سماحة آية الله العظمى السيد محسن الحكيم (قدس سره)، حصلت انتقالة في التفكير والبناء وخلق الأرضية لإعادة صياغة القواعد واخذ الأمر بكل جدية مع مراعاة الهدف الاسمي، وهو وحدة الأمة وخلق أصر التلاحم والتآزر حتى تسلط على رقبة الناس نظام سياسي أحادي فردي إجرامي مخابراتي جزّار لم يترك حتى الطفل الرضيع يلحقه بأبويه، فحكم العراق منذ 1963 ثم اختفى لزمن ولسبب ما عاد في 1968 ليعرض كل ما تعلمه من العروبيين والطائفيين والمصالح الدولية في مسح الرقاب وإذلال العباد. فسيطر اولاً على مرافق التعليم والمعرفة ليخضعها لبرنامجه السياسي وفكره المغلف باسم الإسلام ونبي الإسلام وكلاهما منه براء.
فكان لا بد للمرجعية الدينية آنذاك أن يدق عندها ناقوس الخطر، فقدمت رجالاتها من العلماء والمفكرين لينشطوا في الساحة الثقافية ويكون وجودهم عنصر أمان واطمئنان للمثقفين والطلبة أنهم بعين الله اولاً وبعين مرجعيتهم ثانياً. فانشات بتوجيهات المرجعية الرشيدة آنذاك جمعية منتدى النشر في النجف وجمعية الصندوق الخيري الإسلامي ببغداد وغيرهما انبثق عنهما إنشاء كليات أكاديمية ممزوجة بروح الحوزة مُرعاة مادياً ومعنوياً من المرجعية.
فتقدم للعمل في هذه المؤسسات رجالات من العلماء الكبار، فكان سماحة آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) وآية الله السيد مرتضى العسكري (قدس سره) وآية الله السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) وممن سيرد ذكرهم في أثناء البحث، فأوجدوا نقلة نوعية في إعادة ربط المجتمع المثقف، خصوصاً الشباب بالفكر الديني السليم والمرجعية الرشيدة وقدمت في مقابل ذلك الأضاحي، ومازال هذا الخط وسيبقى يقدم الاضحيات على منهج رواد المرجعية في الإمامة لكل البشر منهجية محمد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين (عليهم السلام).
وان هذه المؤسسات الأكاديمية مهمة لدرجة أننا اليوم نعيش بين كثير من ثمارها ونتائجها، ولما كان سماحة آية الله السيد شهيد المحراب (قدس سره) واحدا من ابرز قادة هذه المؤسسات ورجالاتها، فلننظر إلى هذه المؤسسات كيف كانت؟ وما ادوار هؤلاء الرجال فيها؟ وكيف وقفت وصمدت حتى عام 1975 حيث صادرها القرار الجائر للدولة بحكم القوة إلى وزارة التعليم العالي مع أنها جهد خاص في مقابل كليات أهلية لها خصوصياتها قام النظام الجائر بفتحها ورعايتها؟ فالبحث اذاً هو بيان لأهمية ودور تلك المؤسسات، وعرض لجهود كثير من رجالات الشهادة والتضحية ممن قدموا أنفسهم لأجل سلامة مسار النهضة العلمية والمعرفية والعدالة في هذا البلد.
أولاً: السيد شهيد المحراب (قدس سره) ملامح عرفتها
الحديث عن الثوار المجاهدين من أمثال السيدين الشهيدين الصدرين أو السيد شهيد المحراب يحتاج إلى وقفة وتأمل دقيقين، لان محاور الكلام واسعة ومتسقة والباحث مهما أطال فهو مقيد بمنهجية مقيدة خشية الإطالة والملل.
وحين يكون حديثي عن السيد شهيد المحراب (قدس سره) فلأن له في نفسي خصوصية إذ تشرفت بالتلمذة على يدي اثنين من أولاد الإمام الحكيم (قدس سره) وهما السيد شهيد المحراب محمد باقر الحكيم والسيد الشهيد عبد الهادي الحكيم في السبعينات وتحديداً عام 1971، 1972، 1973 في المرحلة الأولى والثانية والثالثة من كلية أصول الدين. إذ كان السيد شهيد المحراب يدرسنا مادة علوم القرآن على وفق ملزمة احتفظ حتى الآن بنسخة منها في مجموعة كتب كنت قد أخفيتها أيام النظام البائد، كما درسنا السيد الشهيد عبد الهادي الحكيم مادة الحديث في السنة الثانية الكورس الأول، وأعطانا محاضراته في علم الحديث وكان لسماحة السيد شهيد المحراب (قدس سره) علاقة نفسية مع طلابه وعنده من حدة الذكاء ما كان يعرف به غالب طلابه الذين درسهم، ولي في هذه الدعوى شاهدٌ.
فقد أفرج عنه بعد اعتقاله الأخير في 1977 أو 1978 على ما اعتقد وكنت خارجاً من باب المراد بعد انتهاء مراسيم زيارتي لإمامينا الكاظمين (عليهما السلام) وبالقرب من موقع «الاورزدي باك» في شارع باب المراد رأيته قادما من بعيد متوجها إلى زيارة الإمامين (عليهما السلام) فدفعتني نفسي أن اسلم عليه؛ لأني لم أره مدة، فتقدمت باتجاهه فصرت على مسافة منه ووقعت عينه علي فتبسم بشكل خفيف وكان واضعاً يده على جانب عباءته والأخرى فوقها فأشار لي بيده لأبتعد ولا أتقدم نحوه، وكأنه كان مراقباً من الأجهزة الأمنية، ولم يشأ أن أسلم عليه؛ ليبعدني عن موقع المساءلة، ثم سار في طريقه منشغلاً عني بالذكر عبر المسبحة التي كانت بيده.
بعد هذه المقدمة اليسيرة في الرابط النفسي والتربوي الذي يجمع الأستاذ بطلابه أعود لأعرض جانباً من شخصيته الأكاديمية كما أتصورها وتحدد بالعناصر الآتية:
1 – امتلاك ناصية المادة العلمية.
2 – استدلاله الكثير بالنصوص ومحاورتها.
3 – إيصال المعلومة إلى ذهن الطالب بأيسر السبل وعدم التبرم من الإعادة.
4 – التوجيه إلى المصادر والمراجع التي يعتمد عليها البحث بإيجاز.
إن أولى مؤهلات الأستاذ الجامعي وأساسياته امتلاكه الوفرة العلمية لا في موضوعات تخصصه وحدها، بل في العلوم القريبة من تخصصه والمعارف العامة وملابسات محيطة. ونشأة السيد شهيد المحراب (قدس سره) في بيئة علمية، وهي بيئة النجف، وفي اسر ة علمية معروفة، أضف إلى ذلك أن الظرف السياسي والاجتماعي لتلك المرحلة مكّنته من وسائل معرفية واسعة ومهمة أهلته من أداء مهمته التدريسية بإتقان ومهنية عالية، فقد كان (قدس سره):
1 – يدرس مادة علوم القرآن وكانت ملزمة المادة بين أيدينا فيعرض إلى المفردة بنص ما تحويه الملزمة وإضافات كنا ندونها هوامش على طرفي الورقة.
2 – إن الإضافات التي كان يفصّل بواسطتها بحث بعض النقاط ما كانت تشكل اختلافاً بين أصل العرض والشروح، بل تظهر وكأنها منطلقة من شخصية واحدة.
3 – مادة الملزمة لم تكن تتجاوز المائة صفحة مسحوبة على وجه واحد، ولكن ما كان يتضمنه متابعة شرحه إن لم يكن تجاوز الأصل فقد ساواه أسلوبا وكمية.
4 – ظهر لنا سماحته وهو يلقي البحث وكأنه يعيش مواده بكل روحانيتها مع أننا فيما بعد علمنا أن تلك الملزمة كان كاتبها سماحة السيد محمد باقر الصدر (قدس سره). وكان تكليفه سماحة السيد شهيد المحراب (قدس سره) لتدريس هذه المادة لطلبة الكلية ينم عن تطلعه فيما يمتلكه من مؤهلات ستمكنه من وضع المادة المنهجية في إطارها الأكاديمي اللائق.
5 – لقد وجدناه في عرضه المادة الدراسية يقرنها بمراجعها ومصادرها لدى علماء الأمة مع أن ذكرها في الهوامش كان شبه النادر، مما ينم على سعة حافظته للنصوص ومرجعيتها العلمية.
6 – إن من أهم مميزات التدريس الأكاديمي شد انتباه الطلبة إليه في ضوء أسلوب حديثه بما يحقق في نفوس الطلبة رغبة متابعة سماعه دون ملل أو رتابة. ولقد كان الدرس يمضي وسماحته يعرض الموضوع وينتهي الوقت المخصص للدرس دون التفات إلى ذلك بل كنا نتمنى أن يكون الوقت أكثر سعة لتشوقنا لهذه المادة وما تخلقه فينا من تحفز.
7 – كانت تعرض لنا تساؤلات في أثناء الدرس تتشعب موضوعاتها تبعاً للمفردة التي كان يعرضها (قدس سره)، فنطرحها عليه في أثناء الدرس أو في خارجه، فنجد عنده استيعاباً دقيقاً للمسألة وإحاطة بإجابتها في كل الوجوه.
8 – كنا نلمس أن عرضه المادة العلمية لا يعتمده لغرض النهج الدراسي، بل يهدف لتحقيق مجموعة من الأهداف الكبرى فنستشعرها في دواخلنا فيحرك فينا التطلعات العريضة والتي بدأنا ندرك أثرها في أثناء الضغط والكبت السلطوي على مفكري ومثقفي أتباع أهل البيت (عليهم السلام) بل يمكن القول: إنه كان يعرض في ضوء مواد الدرس أمثلة تخلق فينا منهجية امتصاص ألازمة وكيفية الخروج منها.
9 – ومما أتذكره من محاضراته وهو يعرض موضوعه الهدف من نزول القرآن بعد بيانه أسباب النزول، إنها تعلم الصبر والتأني لبلوغ الأهداف وأن الأهداف الكبرى لا تتحقق بالرغبات والأمنيات والقفز على الواقع، بل بالصبر والثبات والوعي واستيعاب الظرف ومعالجته. وإن كانت المعاناة النفسية في الانتظار ستكون كبيرة وربما تتولد عنها في دائرة المجتمع آثار تبدو للوهلة الأولى مقلقة ومتعبة وكان يضرب صبر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك في تحمله صبر نزول آيات القرآن في ثلاث وعشرين سنة.
10 – كنا نستشعر وجود وحدة هدف بين عرضه (قدس سره) لمادة علوم القرآن، وعرض الشهيد السيد داود العطار (رحمه الله) لمادة التفسير، فكان تناغماً بوحدة الهدف موجود لا لان المادتين العلميتين قريبتين من بعضهما فحسب، بل في منهجية العرض فكان الخط الواصل وثيقاً ومراداً على وجه القصد. فلقد كان يتولى تدريسنا في مراحل الشيخ المرحوم موسى السوداني وسماحة الشيخ المرحوم علي الصغير وفي المنطق درسنا مدة السيد الدكتور مصطفى جمال الدين. وكلهم كان يأخذ منا اهتماما، ولكن حين ندخل محاضرات سماحة السيد شهيد المحراب ومحاضرات السيد المجاهد داود العطار نشعر فارقاً كبيراً بالأهداف المراد بأسلوب العرض ومنهجيته.
ثانياً: المنهجية المرجعية لدى السيد شهيد المحراب
تعد المرحلة الجامعية في حياة الشباب من اخطر المراحل وأشدها حساسية في بناء الشخصية ووضعها في الموضع المناسب. وقد كان هاجس المرجعية البحث عن وسائل ايجابية لاقتحام هذه المرحلة ووضعها في خدمة القيم الأخلاقية والقيم الشرعية، وهي تحاول أن تخلق في الشاب عنصراً واعياً وبمنهجية تعبوية لما يستقبل من متطلبات الحياة، فتكون الرافد الممنهج بالمنهجية الشرعية في داخل المجتمع المضطرب لإصلاح ما يمكن إصلاحه.
لذلك حسب ما أتصور كانت كلية أصول الدين التي أقامتها جمعية الصندوق الخيري الإسلامي في بغداد، وكلية الفقه التي إقامتها جمعية منتدى النشر في النجف الأشرف، وتصدى علماء كبار ممن لهم ثقلهم عند المرجعية لقيادة هذه المسيرة معبراً عن المنهجية المرجعية في التنظيم والتوجيه الأكاديمي.
فقد كان في كلية الفقه سماحة الشيخ المجاهد محمد رضا المظفر (رحمه الله) وكان في بغداد سماحة المجاهد السيد مرتضى العسكري والمجاهد السيد الشهيد مهدي الحكيم (رحمه الله) والسيد المجاهد آية الله شهيد المحراب (قدس سره) والسيد الدكتور مصطفى جمال الدين والمشايخ الأجلاء المجاهدين الشهيد عارف البصري والشيخ موسى جعفر السوداني والشيخ علي الصغير، وكل هؤلاء كانوا وكلاء في مرجعية الإمام السيد محسن الحكيم، وتطورت هذه المنهجية حتى يومنا الحاضر في ضوء التطورات التقنية والتكنولوجية والمعلوماتية فنحن «نحتاج إلى قيادة مرجعية متفرغة ومراجع متخصصين في إدارة هذه المعركة ومواجهة هذا الغزو.. وتقديم الحلول والأجوبة لكل المشاكل والأسئلة».
وحاجة الناس لمرجعية قوية لأنها ستتكفل بتحديد معالم الطريق في ضوء الأوضاع المحيطة بالأمة وبدون المرجعية القوية الموحدة قد نجد اختلافا كبيرا بين أبناء الأمة حول أسلوب العمل الموحد للهدف. كما أن المرجعية القوية الموحدة بمقدورها تشخيص المواقف تجاه القضايا المتعددة والمختلفة. ولقد وجدنا المرجعية الموحدة القوية التي أصرت على الانتخابات فأوجدتها على رغم كل ما كان يحاك[1].
وقد أصرت المرجعية الموحدة القوية على ضرورة كتابة الدستور بأيادي أبناء العراق، فتحقق ذلك على رغم المعارضات والعقبات التي طرحت. ووجدنا أن الأمة في كل مرة تصطف بلا خلاف وراء مرجعيتها القوية والموحدة في الملايين المندفعة للانتخابات والتي أذعن واعترف بقوتها وجماهيريتها ونزاهتها حتى الأعداء. وبالاستفتاء على الدستور الذي جرى تحت كل وسائل الإرهاب، ولكن الأمة وثقت بمرجعيتها فخرجت مقدمة الأرواح والأبدان فداء لمنهجية المرجعية.
ومن هنا كان إعلان السيد شهيد المحراب منذ وضع رجله في أول خطوة فوق تراب أرضه وبين أهله ومحبيه وشعبه أعلنها مدوية الالتزام بخط المرجعية، وكان يعني ما يقول ويفعل ما يعنيه، وقد صرّح مراراً في تكرار خطاباته ولقاءاته قبل استشهاده (قدس سره) بعبارة «إني أتشرف أن أكون خادماً صغيراً للمرجعية» وفي موقف «إني خادم صغير يعمل في خدمة المرجعية الرشيدة المتمثلة بالمراجع العظام وعلى رأسهم سماحة آية الله العظمى السيد علي السيستاني (دام ظله)».
لقد كان السيد شهيد المحراب في مرتبة الاجتهاد والإفتاء وكتاباته قد تشير إلى وجود رسالة عملية كما هي عادة المجتهدين حين يطرحون أنفسهم للتقليد، ولكنه لم يقدمها أو يعلنها مفضلاً أن يكون جندياً في منهجية المرجعية الرشيدة وتطبيقها ووضع الأمة في هذه المنهجية، فهي عنده أولى واهم من طرح نفسه للتقليد. فالأمة كما تحتاج من تقلده وتأتمر بأمره، وهم موجودون ومتصدون للأمر. كذلك تحتاج إلى القائد المفكر الذي ينهض بالأمة للسير في طريق منهجية المرجعية. وهذا ما فعله حتى اختاره الباري إلى جواره.
مسألة فيها نظر
يطرح سماحة شهيد المحراب في ص 151 في مؤلفه – موسوعة الحوزة والمرجعية – ج2 – وهو يعرض إلى تطور الأوضاع الإقليمية، ما نصه:
«وبعد سقوط النظام الإسلامي وقيام الأنظمة الوضعية بصورها المختلفة التي شهدها عالمنا الإسلامي بعد الحرب العالمية الأولى…. حاولوا حصر الإسلام في شؤون الأحوال الشخصية والممارسات الرسمية كالأعياد والشعائر العامة للمسلمين».
ومع قناعتي أن السيد الشهيد (قدس سره) انطلق في تسمية النظام العثماني بالنظام الإسلامي إنما قصد بها الظاهر الملاحظ أو الصورة الرسمية لا الحقيقة الواقعية.
إلا أني لا أميل إلى تشويه صورة النظام الإسلامي الجميلة بالشكلية الرديئة للدولة العثمانية وان تقمصت باسم الإسلام، فما أوقعه النظام العثماني من ظلم وعناد وفساد في بلاد الإسلام وباسم الإسلام وما أحدثه من خراب وقتل في بلدان المسلمين، فضلا عما أحدثه من دمار في بلدان غير المسلمين عند افتتاحها، كان السبب الأساس في تشويه صورة الإسلام بوصفه راعي دولة، فضلاً عن كونه ديناً يحمل قيماً ومباديء عالية… فلم تكن الدولة العثمانية الاّ امتداداً لدولة وصفت نفسها بالإسلامية كذباً وزوراً على مدى العصور والأزمنة التي سبقته ابتداء من وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ بدأت صور الانقلاب وحتى نهاية الدولة العثمانية مروراً بالأمويين والعباسيين. فعلى وفق قراءتي للتأريخ السياسي للدولة الإسلامية المدعاة لم أجد دولة إسلامية حقيقة إلا في حقبتين قصيرتين شكلت فلتة أو بالأصح إرادة إلهية لظهور بعض ملامح العدل والإنصاف في الدولة الإسلامية وان لم تطبق كل المسارات الصحيحة للإسلام لصعوبة الظروف التي أحيطت بها تلكما الحقبتان، وهما مدة خلافة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ومدة خلافة الإمام الحسن (عليه السلام)، ومدة قصيرة ومحدودة جداً هي تولي عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) إدارة الدولة، ولأنه أراد وخطط للعودة إلى منهجية الإسلام الصحيحة، فقد تآمروا عليه وادعي عليه المرض الذي أماته، واني اشكك بهذه الروايات وادعي أن الرجل قد دس له السم من الأمويين المنتفعين حتى أعادوها إلى عبد الملك وأولاده الذين سرعان ما أعادوا خط الدولة إلى ما كان قبل عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه). وفي ضوء ذلك أجد أن مجاملة التأريخ ووصف الدولة العثمانية بالإسلامية مضّر بالمنهج الإسلامي للدولة أصلا لأنها في الأصل لم تطبق شيئاً من أخلاقيات وسمات وتسامح الإسلام.
كلية أصول الدين/ مؤسسة علمية أكاديمية في ضوء توجيهات المرجعية
كانت هذه المؤسسة الأكاديمية ضمن المشروع الثقافي للمرجعية الدينية[2] وتدرس فيها مفردات علمية تناسب المناهج الأكاديمية التي وافقت عليها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وتألفت هذه المنهجية مع مفردات منهجية للدراسات الحوزوية. وقد كان للسيد شهيد المحراب دور بارز بوصفه احد تدريسي هذه الكلية، وكونه احد أعضاء مجلس الكلية ودخوله z مع العلماء الحوزويين الآخرين يمثل نقلة علمية في التآلف بين العمق الحوزوي والدراسة الاكاديمية، كما أنها تربط بشكل فاعل بين شرائح اجتماعية كبيرة وهم الطلاب في الجامعات العراقية وبما يخلق فيهم الانشداد لخط المرجعية عبر المنهجية الثقافية والتعليمية التي تعمل بها كل من كليتي أصول الدين في بغداد والفقه في النجف الأشرف. كما أن عدد التدريسين في هذه الكلية كان مشتركاً بين أساتذة اكاديمين جامعيين، وأساتذة حوزويين. اذكر هنا عدداً منهم لحقهم علينا بعد هذه الحقبة الزمنية التي تجاوزت الثلاثين عاماً:
الاسم والدرجة العلمية |
الاختصاص |
الكلية التي يعمل بها |
1 – أ. د المرحوم عناد غزوان |
النقد والأدب |
كلية الآداب / جامعة بغداد |
2 – أ. د المرحوم عبد الله فياض |
التاريخ الإسلامي |
كلية الآداب / جامعة بغداد |
3 – أ. د المرحوم جواد علوش |
مادة العروض |
كلية الآداب / جامعة بغداد |
4 – أ. د المرحوم مهدي المخزومي |
مادة النحو |
كلية الآداب / جامعة بغداد |
5 – أ. د المرحوم احمد عبد الستار الجواري |
مادة النحو |
شغل وزيراً للتربية |
6 – أ. د المرحوم عبد الباقي الشواي |
مادة النحو |
كلية الآداب / جامعة بغداد |
7 – أ. د المرحوم عبد الامير الورد |
مادة النحو |
كلية الآداب / جامعة بغداد |
8 – المرحوم ألأستاذ السيد داود العطار |
مادة التفسير |
كان باحثاً إسلاميا |
9 – الأستاذ الفاضل د. عبد الواحد مسلط |
اللغة الانكليزية |
كلية الآداب / جامعة بغداد |
10 – الأستاذ الدكتور طارق عبد عون الجنابي |
مادة النحو |
كلية التربية / جامعة بغداد |
أما الأساتذة من علماء الحوزة في النجف الأشرف وبغداد:
1 – سماحة السيد أية الله مرتضى العسكري |
عميد الكلية |
2 – سماحة آية الله الشيخ محمد مهدي الاصفي |
مادة الفلسفة |
3 – سماحة آية الله السيد محمد باقر الحكيم |
مادة علوم القران |
4 – سماحة المرحوم الشيخ موسى جعفر السوداني |
أصول الاستنباط |
5 – سماحة الشيخ المرحوم علي الصغير |
مادة الفقه(الممتنع النافع) |
6 – سماحة المرحوم السيد مصطفى جمال الدين |
مادة المنطق |
7 – سماحة المرحوم الشيخ محمد صادق الخالصي |
مادة المنطق |
8 – سماحة الشهيد الشيخ عارف البصري |
مادة النظم |
9 – سماحة الشهيد الدكتور السيد عبد الهادي الحكيم |
مادة الحديث |
10 – سماحة الشيخ محمد جعفر شمس الدين |
مادة العقيدة |
وكان هناك محاضرون يدعون عند وجود الحاجة وتبرز أهمية هذه المؤسسات فيما ما يأتي:
1ـ لقد أخذت هذه المؤسسة الجامعية ومثلها كلية الفقه في النجف الأشرف أهميتها عند المرجعية في ضوء الظروف السائدة، حيث لابد من عناصر تحمل التأهيل الجامعي وفتح أبواب الدراسات العليا أمامهم لشق طريق العمل الأكاديمي العلمي في خط المنهجية الحوزوية التي بدأت تدخل عند الأنظمة السياسية في دائرة المراقبة والمتابعة والتحجيم.
2 – إن رغبة الشباب في الدراسة الجامعية جامحة وكانت الدولة آنذاك تقبل اعداداً غير كبيرة في القبول المركزي، وكان دافع الشباب الذي اتجه إلى الوظيفة لتأمين لقمة العيش فكانت الدراسة المسائية في هذه الكليات منفذاً لتحقيق رغباتهم. وهي من باب آخر حلقة رابطة بين التوجيه المرجعي وهؤلاء الشباب.
3 – لقد راعت هذه المؤسسات الأكاديمية الظروف الاقتصادية للناس آنذاك، فكانت الأجور مقبولة مقارنة بغيرها، ومع ذلك كانت الجمعيات التي ترتبط بها هذه المؤسسات يخفض أو يعفي بعض الطلبة من الأجور السنوية لان الهدف الأساس منها ثقافي شرعي وليس مالياً.
4 – لقد أرسلت الكلية بعض المتخرجين الأوائل لإكمال دراستهم خارج العراق، والمسالة معروفة وتخرج بعضهم وحصل على الشهادات العليا.
5 – بلغت المستويات العلمية لخريجي هذه الكليات حداَ أصبحت يفضل المتخرجون منها في القبول في الجامعات العربية والأجنبية على غيرهم من الخريجين، ولعل من أبرزها جامعة عين شمس في مصر وعلى وجه الخصوص كلية علوم القرآن.
6 – ما زال لهذه الكليات أثرها البالغ في الحياة العلمية والاجتماعية والسياسية في البلد، فالكثير منهم في مرافق الدولة، ويقودون مؤسسات علمية وجمعيات ثقافية ومجتمع مدني، مما يدل على أن هذه الكليات أثرت المجتمع والبلد بالعقول العلمية والقيادية المؤهلة.
دور شهيد المحراب في القيادة المرجعية للأحداث بمنهج أكاديمي
لاشك أن الأحداث بعد سقوط الطاغوت أخذت منحى سياسياً خطيراً ومتشعباً وقد وجد أن الحراك السياسي غير المنضبط سيجر البلاد إلى انحدار بعد انحدار، فكان لزاماً أن يحكم هذا الحراك السياسي بضوابط أخلاقية وقيمية تنبع من الالتزام الذي أوصت به الأديان واحترمته عقول بني البشر. وان ابرز من يتصدى لذلك هو الخط المرجعي، وان صعوبة الأحداث أيام النظام الجائر دفعت الشهيد محمد باقر الصدر أن يفكر «بالمرجعية الموضوعية»[3] وطرح موضوع التصدي للجانب السياسي والاجتماعي في إطار المرجعية. وقد ظهر لنا تطبيقه هذه المنهجية في ضوء حركته بعد سقوط النظام وحتى استشهاده (قدس سره) فقد كان ابن المرجعية المشارك في حواراتها والمسارع إلى تطبيق منهجيتها. فهو قد وضع في حركته منهجية مدروسة في ضوء ما أخذه من أستاذه سماحة الشهيد الصدر الأول (قدس سره) وما أضاف إليه هو من ملاحظات تناسب حال البلاد لذلك حدد ابرز المرتكزات الثقافية للمرجعية السياسية بأنها:
1 – الإيمان العقائدي بنظرية المرجعية الدينية الصالحة.
2 – تأكيده على الارتباط التأريخي للحركة الإسلامية وجذورها الفكرية السياسية بحركة المرجعية.
3 – الإيمان بأن ولاية الأمر تمثل الولاية العامة.
4 – إن القضية الإسلامية في بلد إسلامي إنما ينظر إليها من المرجعية في ذلك البلد. ويترتب عليها أن التصدي في الساحة الإسلامية لهذا البلد تعد أساسا، أما التصدي خارج ساحة ذلك البلد فتكون استثناءً يحتاج إلى مبرر شرعي وواقعي.
5 – وجوب التصدي للطغيان والاستبداد.
6 – الالتزام بمبدأ الجهاد بكل صوره وحسب الموازين والضوابط الشرعية والأخلاقية.
7 – الإيمان بضرورة وجود مرجعية دينية وسياسية في كل ساحة إسلامية[4].
كما أنه أولى اهتماماً كبيراً للقضايا الثقافية الإسلامية بالشكل الأكاديمي مما جعله يدعو ويساهم في مجمعين علميين كبيرين توليا البحث العلمي الأكاديمي في القضايا الإسلامية وهما:
أولا: المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية.
ثانياً: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام).
وأقام مؤسسات أكاديمية تربوية تتولى تربية وتدريب الكوادر الإسلامية وهي:
1 – مؤسسة دار الحكمة.
2 – مجمع أو مدرسة الكوادر الإسلامية[5].
وبهذه الإطلالة المقتضبة يظهر لنا أن حياة السيد شهيد المحراب (قدس سره) كانت حركة مؤسساتية جامعية أكاديمية في ضوء عملية إبراز دور وثمار العمل المرجعي، وان الباحث الحوزوي لا ينبغي له أن يقف عند ميدان الدراسة والتقدم الحوزوي وحده، بل عليه أن يتزامن عنده البحث والدراسية عبر المنهجية الأكاديمية ايضاً.
وكذلك الباحث الأكاديمي المنهجي يقتضي أن لا يتوقف عند منهجيته هذه وحدها، بل عليه أن يلج إلى أسلوب البحث الحوزوي، فكل من المنهجين يخلقان الإنسان المسلم الملتزم بخط المرجعية والمؤدي دوره فيها. ليحقق دوره في حقبة الغيبة الشريفة فيكون من المنتظرين العاملين لا من المنتظرين المقصرين فيكون بعد طول صبره ملاماً. علماً أن الدولة العصرية تحتاج إلى عاملين بهذه الصورة حتى يستطيع أن يتخطى العقبات التي توضع في طريق حركة المرجعية بذهنية متفتحة مستوعبة اطر الحياة بكل صورها. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] موسوعة الحوزة والمرجعية: آية الله العظمى السيد محمد باقر الحكيم – ج2 – ص 148.
[2] قبسات من حياة وسيرة شهيد المحراب السيد منذر الحكيم – ص122.
[3] موسوعة الحوزة والمرجعية – السيد شهيد المحراب محمد باقر الحكيم: ج2، ص191
[4] موسوعة الحوزة والمرجعية – السيد شهيد المحراب محمد باقر الحكيم: ج2، ص221 – 227.
[5] قبسات من حياة وسيرة شهيد المحراب – السيد منذر الحكيم – ص298 – 2393.