القراءة الناقدة لروايات العامة بشأن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)
القراءة الناقدة لروايات العامة بشأن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)
أ. م. د. عهود عبد الواحد العكيلي
كلية التربية – ابن رشد
جامعة بغداد
عام 2008 م
شارك البحث في المؤتمر الفكري الثالث الذي عقدته مؤسسة تراث الشهيد الحكيم (قدس سره) في النجف الأشرف عام 2008م تحت عنوان: (فكر الشهيد الحكيم ودمه الزاكي يضيئان الطريق أمام وحدة العراق ونهضته العلمية).
المقدمة
عرف السيد محمد باقر الحكيم بشخصيته الممحصة عند قراءته للتأريخ، ولاسيما عند ذكر أهل البيت (عليهم السلام)، إذ كان حريصاً على القراءة الثانية للأخبار الواردة بشأنهم، فلم يأخذ بظاهرها إنما كان يغوص إلى أعماق باطنها متأملاً مدلولاتها السياسية والاجتماعية، وظهر ذلك جليا عند تناوله للأخبار الواردة بشأن سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام) القدوة المثلى والأسوة الحسنة لبنات حوَّاء إلى يوم الدين، وقام بدراستها، ووقف وقفة متأمل ناقد ممحَّص عند روايات العامة وضمَّنها كتابه «الزهراء (عليها السلام) أهداف، مواقف، نتائج» لذا رغبت أن أسلط الضوء على هذا الجانب من خلال بحثي الموسوم بـ«القراءة الناقدة لروايات العامة بشأن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)» مستعينة بمجموعة من المصادر التي ذكرت أخبار السيدة الزهراء (عليها السلام) والمراجع التي خصصت لهذه الحوراء الإنسية (عليها السلام)، وأفدت من تراث السيد محمد باقر الحكيم الذي أتحف المكتبة العربية بعطائه الثر وبأفكاره الغرر، عسى أن أُوفَّق لخدمة سيدتي الزهراء (عليها السلام)، وان أكشف النقاب عن جانب من جوانب شخصية السيد الحكيم العلمية وقدرته على نقد متون الروايات التي تخالف ما عرفت به السيدة الزهراء (عليها السلام) من خصال وفضائل بوَّأتها هذه المكانة العظيمة في الدنيا والآخرة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
مكانة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في القرآن الكريم والسُّنة المطهَّرة
لقد اصطفى الله تعالى السيدة الزهراء (عليها السلام) وطهَّرها وفضَّلها على نساء العالمين، قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)[1]، وقد صرَّح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأسماء أهل البيت (عليهم السلام) وأولهم فاطمة الزهراء (عليها السلام)، روى الترمذي في سُننه عن عمر بن أبي سلمة ربيب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن هذه الآية نزلت في بيت أم سلمة رضي الله عنها فدعا فاطمة وحسناً وحسيناً وعلياً فجعلهم بكساء ثم قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيرا»[2].
وهي (الكوثر)[3] المذكور في قوله تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)[4]. على بعض الأقوال في معنى الكلمة وتفسيرها في الآية المباركة، وقد ذكر المؤلفون سوراً أخرى نزلت في فضائلها[5].
ولم تقلّ مكانتها (عليها السلام) في السنة المباركة عن مكانتها في القرآن الكريم، فقد رويت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحاديث في بيان مكانتها العظيمة وفضائلها الجَّمة، منها: «فاطمة سيدة نساء أهل الجنة»[6]، وقوله: «يا فاطمة، أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة»[7] وقوله: «فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها»[8] وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لها (عليها السلام): «إنَّ الله يرضى لرضاكِ ويغضب لغضبكِ»[9].
إن فضائل السيدة فاطمة الزهراء أكثر من أن تحصيها مثل هذه الصفحات، وقد أفاض في ذكرها من ألَّف في ذكر أهل البيت (عليهم السلام) وفضائلهم عامة[10] أو من خصَّها بكتاب لتكون قدوة لنساء أهل الأرض[11].
روايات العامة بشأن الزهراء (عليها السلام)
لقد كرَّس السيد محمد باقر الحكيم كتابه (الزهراء (عليها السلام) أهداف. مواقف. نتائج) لاستعراض شخصيتها، واتخاذها قدوة لنساء العالمين والأحاديث الواردة بشأنها، مبيناً أبعاد هذه الشخصية كالبعد الأسري، والعلمي، والسياسي، كما وضح الأبعاد الرسالية للمهام التي أدتها الزهراء (عليها السلام)، وختم كتابه بروايات العامة الواردة بشأنها (عليها السلام) وضرورة التنبه إلى المرامي السياسية لجعلها.
وهي سبع روايات ظاهرها بيان مناقب هذه السيدة العظيمة ومناقب زوجها الإمام علي (عليه السلام)، وباطنها التصريح «بوجود الخلاف والنزاع بين علي (عليه السلام)، والزهراء (عليها السلام) وأن الزهراء (عليها السلام) بصورة خاصة – وهو ما تكاد تجمع عليه هذه الروايات – امرأة كالنساء تتأثر بما تتأثر به النساء في القضايا العاطفية ذات الطابع الشخصي»[12].
وسأقوم باستعراضها ومناقشتها وبيان كيفية تناول السيد الحكيم لها:
الرواية الأولى: أوردها أبن شهر آشوب بقوله: عن أبن عبد ربه الأندلسي في العقد عن عبد الله بن الزبير في خبر عن معاوية بن أبي سفيان قال: «دخل الحسن بن علي على جدّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يتعثر بذيله، فأسَّر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سراً، فرأيته وقد تغير لونه، ثم قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أتى فاطمة، فأخذ بيدها فهزها إليه هزاً قوياً، ثم قال: «يا فاطمة إياك وغضب عليّ، فان الله يغضب لغضبه ويرضى لرضاه».
ثم جاء علي (عليه السلام) فأخذ النبي بيده ثم هزَّها إليه هزاً خفيفاً، قال: «يا أبا الحسن، إياك وغضب فاطمة، فان الملائكة تغضب لغضبها وترضى لرضاها».
فقلت: يا رسول الله مضيت مذعوراً، وقد رجعت مسروراً.
فقال: يا معاوية، كيف لا أُسر، وقد أصلحت بين اثنين، هما أكرم الخلق[13].
وفي رواية عبد الله بن الحارث وحبيب بن ثابت وعلي بن إبراهيم «ما يمنعني وقد أصلحت بين أثنين، أحب من على وجه الأرض إليّ»[14].
الرواية الثانية: أوردها الشيخ الصدوق عن القطان عن السكري بسنده إلى أبي هريرة قال: صلّى بنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الفجر، ثم قام بوجه كئيب، وقمنا معه حتى صار إلى منزل فاطمة (عليها السلام) فأبصر علياً نائماً بين يدي الباب على الدقعاء[15]، فجلس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فجعل يمسح التراب عن ظهره، ويقول: «قم فداك أبي وأمي يا أبا تراب، ثم اخذ بيده ودخلا منزل فاطمة، فمكثنا هنيئة، ثم سمعنا ضحكا عالياً، ثم خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بوجه مشرق، فقلنا: يا رسول الله دخلت بوجه كئيب، وخرجت بخلافه.
فقال: كيف لا أفرح وقد أصلحت بين أثنين أحب أهل الأرض إليّ وإلى أهل السماء»[16].
الرواية الثالثة: يرويها القطان أيضا، بسنده عن حبيب عن أبي ثابت[17] قال: «كان بين علي وفاطمة (عليها السلام) كلام، فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وألقي له مثال، فاضطجع عليه، فجاءت فاطمة (عليها السلام) فاضطجعت من جانب، وجاء علي فاضطجع من جانب، فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يده – أي يد علي – فوضعها على سرته، وأخذ بيد فاطمة ووضعها على سرته، فلم يزل حتى أصلح بينهما، ثم خرج.
فقيل: يا رسول الله، دخلت وأنت على حال، وخرجت ونحن نرى البشرى في وجهك؟ قال: ما يمنعني وقد أصلحت بين اثنين، أحب من على وجه الأرض إليّ»[18].
الرواية الرابعة: أوردها الشيخ الصدوق أيضا قال: حدثنا سعد بن عبد الله قال: حدثنا الحسن بن عرفة «بسر من رأى» قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا محمد بن إسرائيل قال: حدثنا أبو صالح عن أبي ذر (رحمه الله) قال: «كنت أنا وجعفر بن أبي طالب مهاجرين إلى الحبشة، فأُهديت لجعفر جارية قيمتها أربعة آلاف درهم، فلما قدمنا المدينة أهداها لعلي (عليه السلام) تخدمه، فجعلها علي (عليه السلام) في منزل فاطمة (عليها السلام)، فدخلت فاطمة (عليها السلام) يوماً فنظرت إلى رأس علي (عليه السلام) في حجر الجارية، فقالت: يا أبا الحسن، فعلتها؟ فقال: لا والله يا بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ما فعلت شيئاً، فما الذي تريدين؟ قالت: تأذن لي في المصير إلى منزل أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقال لها: قد أذنت لكِ.
فتجلببت بجلبابها، وتبرقعت ببرقعها، وأرادت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهبط جبرائيل (عليه السلام) فقال: يا محمد، إن الله يقرئك السلام ويقول لك: إن هذه فاطمة أقبلت تشكو علياً، فلا تقبل منها في علي شيئاً، فدخلت فاطمة فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): جئت تشكين علياً؟ قالت: إي ورب الكعبة، فقال لها: ارجعي إليه فقولي له: رغم أنفي لرضاك، فرجعت الى علي (عليه السلام) فقالت له: يا أبا الحسن رغم انفي لرضاك تقولها ثلاثا، فقال لها علي (عليه السلام): شكوتيني إلى خليلي وحبيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واسوأتاه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اشهد الله يا فاطمة أن الجارية حرة لوجه الله، وأن الأربعمائة درهم التي فضلت من عطائي صدقة على فقراء أهل المدينة.
ثم تلبس وانتعل وأراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهبط جبريل فقال: يا محمد، إن الله يقرئك السلام ويقول لك: قل لعلي أعطيتك الجنة بعتقك الجارية في رضا فاطمة، والنار بالأربعمائة درهم التي تصدقت بها فأدخل الجنة من شئت برحمتي، وأخرج من النار من شئت بعفوي، فعندها قال علي (عليه السلام): أنا قسيم الله بين الجنة والنار»[19].
الرواية الخامسة: أوردها المجلسي في البحار ومفادها: إن الزهراء (عليها السلام) لما انصرفت من عند أبي بكر أقبلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) فقالت له: «يا ابن أبي طالب، اشتملت شملة الجنين، وقعدت حجرة الظنين، نقضت قادمة الأجدل فخانك ريش الأعزل، هذا ابن أبي قحافة قد ابتزني نحلة أبي، وبلغة ابنيَّ، والله لقد أجهد في ظلامتي، وألدّ في خصامي حتى منعتني القيلة نصرها، والمهاجرة وصلها، وغضت الجماعة دوني طرفها، فلا مانع ولا دافع، خرجت والله كاظمة، وعدت راغمة، ولا خيار لي، ليتني مت قبل ذلتي، وتوفيت دون منيتي، عذيري والله فيك حامياً، ومنك داعياً، ويلاي في كل شارق، مات العمد، ووهن العضد، شكواي إلى ربي، وعدواي إلى أبي، اللهم انت اشد قوة[20].
فأجابها أمير المؤمنين (عليه السلام): لا ويل لك، بل الويل لشانئك، نهنهي عن وجدك يا بنت الصفوة، وبقية النبوة، فالله ما ونيت في ديني، ولا أخطأت مقدوري، فان كنتِ تريدين البلغة فرزقك مضمون، وكفيلك مأمون، وما أعدّ لك خير مما قطع عنك، فاحتسبي. فقالت: حسبي الله ونعم الوكيل»[21].
الرواية السادسة: أوردها الشيخ المجلسي نقلاً عن ابن شهر آشوب مروية عن معقل بن يسار وأبي قبيل وابن إسحاق وحبيب بن أبي ثابت وعمران بن الحصين وابن غسان والباقر (عليه السلام) مع اختلاف في لفظ الروايات، واتفاق في المعنى أن النسوة قلن: «يا بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خطبك فلان وفلان فردهم أبوك، وزوجك عائلاً! فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقالت: يا رسول الله زوجتني عائلاً؟! فهزّ رسول الله بيده معصمها، وقال: لا يا فاطمة، ولكن زوجتك أقدمهم سلماً، وأكثرهم علما، وأعظمهم حلماً، أما علمت يا فاطمة انه أخي في الدنيا والآخرة؟. فضحكت وقالت: رضيت يا رسول الله»[22].
الرواية السابعة: وردت عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: شكت فاطمة (عليها السلام) الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا فقالت: «يا رسول الله ما يدع شيئا من رزقه إلا وزعه على المساكين فقال لها: «يا فاطمة أتسخطيني في أخي وابن عمي، إن سخطه سخطي، وان سخطي لسخط الله»، فقالت: أعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله»[23].
ولو تفحصنا هذه الروايات السبع لوجدنها تنافي ما عرف عن الإمام علي (عليه السلام) والسيدة فاطمة الزهراء من العصمة وإذهاب الرجس والتطهير الذي خصهما الرحمن بهما.
ولنأتِ إلى الروايات متسلسلة لنتناولها بالتحليل:
الرواية الأولى مروية عن معاوية بن أبي سفيان وهو معروف بعدائه للإمام علي (عليه السلام) وللزهراء (عليها السلام) وبمكره ودهائه، فكيف نقبل روايته هذه؟! ثم إنها وردت في العقد الفريد، وهو كتاب أدب وليس كتاب حديث، فمتى كنا نأخذ أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منه؟! ومؤلفه ابن عبد ربه الأندلسي معروف بهواه الأموي إذ كان جده الأعلى «سالم» مولى لهاشم بن عبد الرحمن بن معاوية، وله أرجوزة تأريخية ذكر فيها الخلفاء وجعل معاوية رابعهم ولم يذكر الإمام علي (عليه السلام) فيهم[24].
علما إنني راجعت هذا الكتاب بدقة فلم أجد الرواية وراجعت الفهارس القيمة الدقيقة التي عملها محمد فؤاد عبد الباقي لهذا الكتاب تحت اسم «فاطمة الزهراء (عليها السلام)» فلم أجد الخبر في جميع مواضيع ورود اسمها الشريف كما لم أجده عند مراجعتي لورود اسم الإمام الحسن (عليه السلام) وعبد الله بن الزبير أيضا.
حيث ذكر الاسمان في تلك الرواية. ولم يخرج السيد محمد باقر الحكيم الرواية من «العقد» إنما اكتفى بنقلها عن المناقب.
ولم يوردها ابن شهر آشوب غافلا عن التعليق إنما قال عقب ذكرها: «قال ابن بابوية: هذا غير معتمد لأنهما منزهان من أن يحتاجا أن يصلح بينهما رسول الله صلى الله عليكم واله»[25].
أما الرواية الثانية فلي عليها ملاحظات:
أولها: ذكرت الرواية أن الإمام علي كان نائما على التراب بين يدي الباب. وهذا يعني:
1 – انه (عليه السلام) على خصام مع السيدة فاطمة (عليها السلام).
2 – انه ينام على التراب؛ لذلك سمي بأبي تراب بدليل مناداة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) له بابي تراب.
بينما العلة في هذه التسمية ما ذكره ابن عباس (رضي الله عنه) عند سؤاله عن ذلك: قال: «لأنه صاحب الأرض وحجة الله على أهلها بعده – أي بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) – وبه بقاؤها واليه سكونها»[26].
3 – ذكرت الرواية «بيت فاطمة (عليها السلام)» وليس بيت الإمام علي (عليه السلام). والإمام نائم على التراب بين يدي الباب، مما يدل على تنويه بما لا يليق بمقام الإمام علي (عليه السلام) والسيدة فاطمة (عليها السلام) ومقامها العالي المعروف لدى الأعداء قبل الأصدقاء على رغم انف من يريد تشويهه.
ثانيها: حاولت الرواية تمرير المعاني التي ذكرتها أعلاه من خلال المدح غير المتوقع من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «قم فداك أبي وأمي يا أبا تراب» وقد عبَّر السيد محمد باقر الحكيم عن مدح الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بانه «مدح عالٍ جدا للإمام علي (عليه السلام)»[27].
ثالثها: ذكرت الرواية «فمكثنا هنيئة ثم سمعنا ضحكاً عالياً» ولعمري متى كان أهل البيت يضحكون ضحكاً عاليًا يسمعه من يقف خارج البيت؟ وقد كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) جل ضحكه التبسم كما هو مشهور عنه، فكيف يكون ضحك من تربيا في حجره وتخرجا من مدرسته؟.
الرواية الثالثة: علق عليها الشيخ الصدوق بعد إيرادها بقوله:
«ليس هذا الخبر عندي بمعتمد، ولا هو لي بمعتقد في هذه العلة؛ لان عليا (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام) ما كان ليقع بينهما كلام يحتاج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الإصلاح بينهما لأنه (عليه السلام) سيد الوصيين، وهي سيدة نساء العالمين مقتديان بنبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حسن الخلق»[28].
وأنا أؤيده بذلك، إذ الغرض من الخبر تثبيت مسألة الخلاف بين الإمام (عليه السلام) والزهراء (عليها السلام).
الرواية الرابعة: عكست هذه الرواية صورة لعلاقة الإمام علي (عليه السلام) مع السيدة الزهراء (عليه السلام) غير التي رسمها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أحاديثه الشريفة، وهي مثال العلاقة الزوجية الوطيدة التي ينبغي أن يقتدى بها، وأظهرت الرواية السيدة فاطمة (عليها السلام) امرأة لا تختلف عن النساء الأخريات في سرعة انفعالها وعتابها للإمام (عليه السلام) والعجب من تعنيف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للزهراء (عليها السلام)، وقد اشتهر باحترامه الكبير وخطابه الأبوي الحنون لها.
وهذه الصورة غير المقبولة يسقطها قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعائشة (رضي الله عنها) «يا حميراء إن فاطمة ليست كنساء الآدميين لا تعلّ كما يعتلن»[29].
وقد حرم الله النساء على علي ما دامت فاطمة حيه؛ لأنها طاهرة لا تحيض.. وقد سميت بتولا لأنها بتلت عن النظير[30] فكيف يضع الإمام علي (عليه السلام) رأسه في حجر الجارية وقد حرمت النساء عليه في حياة الزهراء (عليها السلام)؟ وكيف تتصرف الزهراء كنظائرها من النساء وهي لا نظير لها فيهن؟. وكيف يبدو هذا التصرف من الإمام (عليه السلام) والزهراء (عليها السلام) وقد اذهب الله عنهما الرجس وطهرهما تطهيرا كما بينت في مكانة السيدة فاطمة، وهي سيدة نساء العالمين وسيدة نساء أهل الجنة وأهل الأرض ولا تختلف عنهن؟.
ويسقط هذه الرواية ومثيلاتها ما نقل عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) «ولقد كنت انظر إليها فتنجلي عني الغموم والأحزان بنظرتي إليها»[31].
كما تنقض كل الروايات المذكورة عن خلافاتهما الرواية التي نقلت عن حديث الزهراء (عليها السلام) مع الإمام علي (عليه السلام) عند وفاتها (عليها السلام)، إذ تقول: «يا ابن عم ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني فقال: معاذ الله أنت اعلم بالله وابر واتقى وأكرم واشد خوفا منه، والله جددت علي مصيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد عظمت بوفاتك وفقدك، فانا لله وإنا إليه راجعون»[32] فكيف لم تخالف الزهراء (عليها السلام) الإمام علي (عليه السلام) منذ عاشرته مع هذه الروايات السبع التي تحاول إظهار المخالفة، ونزع العصمة عنهما (عليها السلام)؟
أما الرواية الخامسة فأرادت تثبيت صورة الخلاف بينهما من خلال عدم نصرة الإمام (عليه السلام) للزهراء (عليها السلام).
وأما الروايتان السادسة والسابعة فتدحضهما سيرة الزهراء (عليها السلام) العطرة وقوة شخصيتها من خلال الأحاديث المشهورة عن قناعتها وصبرها وابتعادها عن متاع الدنيا الزائلة، وكثرة تصدقها على المساكين حتى نزلت سورة الدهر فيها (عليها السلام) وفي الإمام (عليه السلام) وأولادهما (عليهما السلام) فكيف تؤثر الآخرين على نفسها ثم تشكو إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كثرة تصدق الإمام (عليه السلام) على الفقراء؟.
لقد بحث السيد محمد باقر الحكيم بحثا علميا عند تناوله هذه الروايات والأغراض السياسية من ورائها ورفضها كما رفضها بعض العلماء لوجود نصوص أوثق منها ولمخالفتها للنص القرآني الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه الذي يتحدث عن الزهراء ويصفها بأنها طاهرة مطهرة، وهي أظهر مصداق لآية التطهير كما ذكرت[33].
ثم يقول: «ولاشك أن هذه الطهارة تنزهها عن مثل هذه الخلافات التي تشير إليها هذه الروايات – على فرض دلالاتها – فهي أمور تتنافى في نظرنا مع الأشخاص الذين هم على مستوى من الكمالات الأخلاقية المعروفة لدى الصالحين فكيف إذا كان هذا الشخص على مستوى التطهير الكامل والعصمة الكاملة؟! إن مثل هذه التصرفات تكون مخلة بشخصية هذا الإنسان فكيف بالزهراء (عليها السلام) التي تكون على هذا المستوى العالي من الطهارة التي يتحدث عنها القران الكريم؟!»[34].
لقد نبه السيد محمد باقر الحكيم إلى الغرض السياسي من وراء هذه الروايات وعبر عنه بـ«حركة النفاق في المجتمعات الدينية والرسالية، ووصفها بأنها حركة خطرة جدا تهدد المجتمعات الرسالية وكان الهدف إبراز صورة الزهراء (عليها السلام) – بعد توجيه الأنظار إليها لأنها ابنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) – بأنها فاضلة مهذبة مكرمة محبوبة من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لكنها امرأة عادية تتفاعل وتنفعل مع مختلف القضايا. لذا برز معاوية بن أبي سفيان فذكر الإمام (عليه السلام) بهذا الثناء وذكر الزهراء كذلك لتحقيق هذا الغرض السياسي، فإذا كانت تغضب من زوجها (عليها السلام) فمن الطبيعي أن تغضب من غيره كابي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة»[35].
وقد نبه السيد الحكيم في آخر سطرين من كتابه على ضرورة تطبيق هذا النوع من التحليل والتمحيص على ظروفنا المعاصرة والتحويلات التي تحدث في تأريخنا الحاضر والمستقبل.
أقول: حري بكل قاريء لبيب أن يمحص الأخبار ويقرأ ما وراء سطورها ولاسيما الأخبار التأريخية، وما أحوجنا إلى هذا النوع من القراءات لتخليص التأريخ مما زُجَّ فيه.
[1] الأحزاب: 33.
[2] سنن الترمذي: 5/328، والمستدرك على الصحيحين: 3/158.
[3] ينظر: أسباب النزول: 267 والميزان في تفسير القرآن: 20/370.
[4] الكوثر: 1 – 3.
[5] ينظر: آل عمران: 61، الشورى: 23، الأحزاب: 56، الدهر: 2 – 12، وغيرها.
[6] المستدرك على الصحيحين: 3/154.
[7] المصدر السابق: 3/156.
[8] المصدر السابق.
[9] المصدر السابق.
[10] ينظر على سبيل المثال لا الحصر: مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب، وبحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار للعلامة الشيخ المجلسي الجزء العاشر، إذ خصصه لها (عليها السلام) ولولديها الحسن والحسين (عليهما السلام) وأهل البيت سمائهم وحقوقهم.
[11] ينظر على سبيل المثال لا الحصر: أعلام الهداية، فاطمة الزهراء سيدة النساء، المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)، الزهراء سيدة النساء، نفحات من حياتها وسيرتها معطف خميس، وفضائل فاطمة الزهراء في الذكر الحكيم، الشيخ حيدر المؤيد، وبضعة المصطفى فاطمة، للسيد مرتضى الرضوي. وومضات من حياة سيدة النساء فاطمة الزهراء (عليها السلام) للشيخ عبد السجاد الكعبي، وفاطمة الزهراء أم ابيها، للدكتور السيد فاضل الحسني الميلاني. وفاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد، السيد محمد كاظم القزويني.
[12] الزهراء (عليها السلام) أهداف، مواقف، نتائج: 178.
[13] مناقب آل أبي طالب: 3/334.
[14] المصدر السابق، الصفحة السابقة.
[15] الدقعاء: عامة التراب، وقيل التراب الدقيق على وجه الأرض، لسان العرب مادة (دقع): 2/1400.
[16] علل الشرائع: 1/ 156، وأوردها الشيخ في بحار الأنوار: 10/79 – 80.
[17] أوردها الشيخ الصدوق في علل الشرائع: 1/156عن القطان عن السكري عن عبد الله بن موسى عن عبد العزيز عن حبيب عن أبي ثابت، والمجلسي في بحار الأنوار: 10/80 بالسند ذاته.
[18] الزهراء (عليها السلام) أهداف، مواقف، نتائج: 174 – 175.
[19] علل الشرائع: 1/163 – 164.
[20] بحار الأنوار: 10/81 وأوردها السيد محمد باقر الحكيم في كتابه الزهراء (عليها السلام): 176 – 177.
[21] المصدر السابق.: 10/81.
[22] المصدر السابق: 10/82.
[23] المصدر السابق: 10/83.
[24] ينظر فهرس ما رواه عن شيوخه: 326، معجم الأدباء: 2/67 والإعلام: 1/207، ابن عبد ربه وعقده: 24.
[25] مناقب آل أبي طالب: 3/334.
[26] علل الشرائع: 156.
[27] الزهراء (عليها السلام) أهداف، مواقف، نتائج: 174.
[28] علل الشرائع: 1/156.
[29] مناقب آل أبي طالب: 3/330.
[30] ينظر: المصدر السابق: 3/329.
[31] أعلام الهداية فاطمة الزهراء سيدة النساء: 98.
[32] أعلام الهداية فاطمة الزهراء سيدة النساء: 99.
[33] ينظر: الزهراء (عليها السلام) أهداف، مواقف، نتائج: 182.
[34] ينظر: الزهراء (عليها السلام) أهداف، مواقف، نتائج: 183.
[35] ينظر: المصدر السابق: 187.