حرية الفكر والحرية والسياسية في فكر شهيد المحراب اية الله السيّد محمد باقر الحكيم

motmar3

حرية الفكر والحرية والسياسية في فكر شهيد المحراب آية الله السيد محمد باقر الحكيم

الشيخ حيدر العرادي

مفكر اسلامي

عام 2008 م

شارك البحث في المؤتمر الفكري الثالث الذي عقدته مؤسسة تراث الشهيد الحكيم (قدس سره) في النجف الأشرف عام 2008م تحت عنوان: (فكر الشهيد الحكيم ودمه الزاكي يضيئان الطريق أمام وحدة العراق ونهضته العلمية).

المقدمة

سادت في أواخر تسعينيات القرن العشرين مفردات، مثل: «قراءة متقدمة للنص الديني» أو«حرية الفكر والسياسة» و«الإنسان حر في ممارساته» وغيرها من المصطلحات المتشابهة التي تلتقي في مضمون واحد هو محاولة التضليل وخلط الأوراق والتحريف وصولا إلى مكاسب مؤطرة بالدين ولكنها مخالفة له في المضمون، وقد شكلت هذه المفردات إصطفافاتٍ خلفها، ونزاعات جانبية، وقادت إلى إعتداءات على المقدسات كالحوزة العلمية ومراجع الدين العظام.

فتصدى آية الله السيد الشهيد محمد باقر الحكيم لهذه الظاهرة بمجموعة من المحاضرات التي ألقاها على مجموعة من طلبة العلوم الدينية والإعلاميين، وكانت مفردة حرية الفكر والحرية السياسية إحدى الموضوعات المهمة التي بحثها رضوان الله تعالى عليه بعمق علمي وإستدلال منطقي أماط به اللثام عن تلك المفاهيم التي طرحت، وبيّن أسس وقواعد وضوابط وحدود حرية الفكر كمقدمة للحرية السياسية، وسنسلط الضوء في هذا البحث المقتضب على هاتين المفردتين.

ويتكون هذا البحث من مبحثين:

الأول: حمل عنوان الحرية الفكرية لدى شهيد المحراب، ويتكون من عدة مواضيع، وهي: الحرية الفكرية نظرة عامة، حرية الفكر المخالف للإسلام، الإجتهاد والحرية الفكرية، الحرية والحق والعدل.

 الثاني: حمل عنوان الحرية السياسية لدى شهيد المحراب، وقد تكون من عدة مواضيع، وهي: الحرية السياسية نظرة عامة، شروط الحرية السياسية، الحرية السياسية في فكر أهل البيت، ولاية الأمر والحرية السياسية، مساحات التعددية السياسية وضماناتها، القمع والحرية السياسية، المرجعية والحرية.


المبحث الأول

الحرية الفكرية لدى شهيد المحراب

أولاً: الحرية الفكرية – نظرة عامة

إن الحرية والتحرر الفكري هما منطلق الحرية، فعندما يملك الإنسان حريته الفكرية وينطلق العقل حراً مفكراً تنطلق الإرادة والإختيار بحرية تامة، وعندئذٍ تكتمل الحرية الذاتية؛ حرية العقل والإرادة والإختيار لتأخذ طريقها إلى العالم الخارجي.

ولا تتحقق الحرية الفكرية في العالم الخارجي إلا إذا تحرر العقل من القيود والمصادرات الداخلية كضغوط المال والسلطة والحقد والأنانية، والمصادرات الخارجية التي تتمثل بالإرهاب الفكري الذي تفرضه السلطة.

لقد سعى القرآن إلى تحرير الإنسان من هذه السلطات والطواغيت ليمارس الإنسان دوره كعاقل مفكر، وكم ركزت الرسالة الإسلامية على أهمية الفكر والعقل في حياة الإنسان[1]، ويوضح القرآن حرية الاختيار والمسؤولية عن هذه الحرية من خلال بعض الآيات القرآنية: (لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ)[2]، (وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ)[3]، (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)[4].

ثانياً: حرية الفكر المخالف للإسلام

 من المفردات الأخرى التي حددها شهيد المحراب (قدس سره) مفردتي الإختيار والإكراه؛ ليعالج بهما موقف الإسلام من الفكر الذي يتعارض معه أولاً، وفي كيفية الوصول إلى إتخاذ الإسلام عقيدةً ونظاماً، لان سلب الإختيار وقمع الإرادة ومصادرة دور العقل في بناء المرتكز والشخصية العقائدية يعبر عن أعظم الضربات التي يصادر فيها وجود الإنسان، وتختطف شخصيته الحقيقية، مما يؤدي إلى بروز شخصيات مهزوزة غير متوازنة كالريشة في مهب الريح أمام الأفكار والمبادئ التي تناقض الإسلام، وتكون هذه النماذج أدوات لتنفيذ مخططات المدارس الفكرية المنحرفة، وخير مثال على ذلك في العصر الحديث تبني مؤامرة فصل الدين عن السياسة.

 ولغرض بناء شخصية إسلامية أصيلة لم يستخدم الله القمع والإكراه أداةً لدخول الإسلام، بل لم يجوز التقليد في أصول الدين الخمسة، وإنما قال سبحانه: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)[5] وأعطى للعقل مساحة البحث والاستدلال وصولاً إلى بناء العقيدة الصالحة على أسس عقلية واضحة؛ لكي يتحمل الإنسان المسؤولية في إختياره في الدفاع عن عقيدته.

 ولكن ما هو موقف الإسلام في مجال الفكر المضاد للإسلام؟، وما هو مدى الحرية التي منحها لهذه الأفكار؟ وبعبارة أخرى: ما هي حدود هذه الحرية؟ فهل إنها حرية منضبطة ضمن إطار وحدود معينة أم هي حرية مطلقة لا تقف عند حدٍ أو معيار ولا تنتظم في إطار مشخص؟ وهنا يطرح السيد الشهيد (قدس سره) السؤال الآتي: «ما هو مدى الحرية الفكرية في مجال العقائد والأفكار التي تكون مخالفة لجوهر الإسلام وتقف في مقابل عقيدته»؟[6] ومن خلال هذا السؤال يلفت شهيدنا وأستاذنا النظر إلى حقيقة إن الإسلام حق وغيره باطل – (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[7]. كما يشير السيد الحكيم إلى ذلك بقوله: «فهناك حق وباطل ولا يوجد شيء يعتريه الريب والشك ويحتمل أن يكون حقاً أو باطلاً – (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)[8] – فإلاسلام حق لأنه جاء من عند الله عز وجل – (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)[9] – وغير الإسلام باطلٌ محض لا يختلف في بطلانه عاقلان – (فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)[10] ،[11]، ويؤكد (قدس سره): «بالرغم من أن الإسلام حق وعدل والأفكار المضادة لجوهره باطل محض فإن الإسلام لا يوصد الأبواب ويكمم الأفواه»، بل مع ذلك والكلام للسيد الحكيم: «نرى إن الإسلام ترك مجالاً لحرية الإنسان في أن يطرح الأفكار الأخرى في مقابل أفكار الإسلام عندما يكون ذلك من أجل أن يصل إلى الحق ويعرفه ويتبينه، وإذا بقي هذا الإنسان معانداً بالرغم من وضوح الحجة والبرهان والدليل، فإن الإسلام يرى أن هذا الإنسان يسير على الباطل وأن هذا الإنسان معاند كما عبر عنه القرآن – (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)[12] ،[13].

إن في هذا الطرح أكبر دلالة على إستيعاب الإسلام للزمان والمكان، وأعطى للتعايش بين بني الإنسان بعده الإنساني، وكذلك الاستماع للأفكار المضادة له على الرغم من إنكار الفكر المضاد للأدلة والبراهين والحجج الظاهرة على أحقية الإسلام، وحدد الرد على تلك الأفكار المضادة بالتي هي أحسن (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[14] دون الإنجرار إلى الصراعات الجانبية مادامت الأفكار المطروحة في العناد والإنكار على مستوى الحوار والمناقشة.

ويبين شهيد المحراب (قدس سره) موقف الإسلام من ذلك بقوله: «لكن مع ذلك كله فإن الإسلام لا يتخذ إجراءً قمعياً حيال هذا الباطل بل يدينه ويعيب عليه ويشهر به ويوضحه، لكن في الوقت نفسه لا يتخذ إجراء القمع ضد هذا الباطل بمعنى إنزال العقوبة بالإنسان لمجرد انه تحدث بهذا الكلام الباطل»[15].

يتضح من هذه الرؤية أن طرح الأفكار المضادة على مستوى الحوار مهما بلغ بطلانه ما لم ينجر الحوار إلى إهانة الحق والإعتداء عليه والتشهير به لا يّسوغ إنزال العقوبة، أما إذا تجاوز هذه الحدود وأدى إلى إهانة الحق وإهانة الطرف الآخر خارج حدود المنطق والمناقشة الهادئة الحرة والحوار العلمي ودخل في إطار التشهير والإهانة والسخرية والإفتراء والكذب والتزوير فالموقف يتغير تماماً لان هذه الممارسة «لا تدخل ضمن إطار الحرية الفكرية لأنه ليس مجرد طرح فكري، وإنما طرح عدواني يتلبس بلباس الفكر وفيه تجاوز على الآخرين، ومحاولة لإهانة الطرف الآخر والتجاوز لحدود الإحترام المتبادل في طرح الأفكار»[16].

ويظهر من خلال رؤية شهيد المحراب (قدس سره) إن القيد ليس من صلب الحرية التي منحها الإسلام في الفكر والسياسة، بل القيد يحدد نوع الممارسة لهذه الحرية وبشكل تصبح أداةً للتضليل وإسقاط التهم وبوقاً للكذب والإفتراء، ثم يردف السيد الشهيد: «المجادلة والمناقشة هي قضية مطروحة وقائمة في مقابل الفكر الحق، وكان أسلوب القرآن الكريم أسلوب المجادلة والمناقشة بالتي هي أحسن (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)[17], ولكن لا يصح أن تتجاوز هذه الحرية حدودها من خلال الإهانة والسخرية والعدوان، وإذا حدث ذلك فإن القائلين بالعنف والإجبار في نشر مبادئ الإسلام الحنيف يأتي دليل عدم جواز التقليد في أصول الدين تعزيزاً لقولنا، بإعتبار أن التقليد قبول الغير بلا دليل، وهذا يتعارض مع البديهيات والضرورات العقلية التي تبحث في علم الكلام، وتتحول الحرية إلى معول هدم إذا أصبحت أداة للتضليل وإخراج الناس من الحق إلى الباطل ومن العدل إلى الظلم، وهذه أكبر خسارة معنوية تلحق بالإنسان في جانب الأخلاق والفكر، فيصبح إنساناً بلا قيم ولا مُثل عليا، وهذا قيدٌ آخر للحرية «إن هذه الحرية تكون محدودة عندما تكون سبباً للتضليل والإنحراف للناس عن الحقيقة، لذلك حرم الشارع المقدس حركة أهل البدع والضلالات لهذا الضرر البالغ الذي يلحق بالناس، لان الضلالة والإنحراف عن الحق وطريق الهدى أعظم ضرراً يُصيب الإنسان في حياته وحركته التكاملية، لان المعرفة بنفسها تكامل للإنسان وطريق لنمو الكمال»[18].

إن تغييب الحقائق وخلط الأوراق بطريقة التضليل المرتكز على الاستبداد الفكري والعنف الجسدي أكبر خسارة يتعرض لها الإنسان معنوياً، وبالتالي يأخذ إسلاماً مشوهاً ينعكس في الممارسة وما يترتب على ذلك من هرج ومرج ثقافي، لكن مع ذلك أعطى الإسلام حرية الفكر وقيدها بحدود تنطلق من كيفية الممارسة، وليست تلك القيود أصيلةً في مفهوم الحرية المقدس، فإذا تجاوزت الحدود من خلال الممارسة يُتخذ الموقف المناسب.

ثالثاً: الاجتهاد والحرية الفكرية

ينتقل السيد الشهيد (قدس سره) في هذا المقطع لمعالجة مساحة وجهات النظر والإجتهادات الخاصة في «داخل الإطار الإسلامي في فهم وتصور هذا الفكر»[19] ويعالج السيد نقطة مهمة وجوهرية تتمثل في منبع وجهات النظر والإجتهادات التي شكلت طفرة سلبية في العلاقات الفكرية والثقافية العامة، ووزعت أبناء الفكر الواحد والهدف الواحد إلى جماعات تتنازع فكرياً وثقافياً وسياسياً، فأصبح الخط الأحمر في العلاقات الولاء لهذا الرأي أو وجهة النظر أو حتى بعض الإجتهادات التي لم تألفها الساحة الفكرية من قبل، في حين أن الإسلام حق ولا يوجد فيه رأيان (حق، وباطل) وفي هذا المجال يقول السيد الشهيد (قدس سره): «إن القضية لا تصبح قضية حق وباطل؛ لأن كل هذا الفكر والإجتهادات من الفكر الذي يدعي إرتباطه بإلاسلام، طبعاً الحق واحد وله ثبوت في نفس الأمر والواقع، ولابد أن نأخذ الحق من الطريق الصحيح»[20]. ومن ثم فإن وجهات النظر هنا أو الآراء ليست قضية قادمة من فراغ وإنما من أصل علمي له أدلته وقواعده الأصولية التي يُشترط أن تناقش الآراء ووجهات النظر كي تتلاقح فيما بينها للوصول إلى الاصوب منها، وأصوب الآراء هو الفصل والحل، وبخلاف ذلك فمدخل الفتنة والصراعات التي تصب في خانة الأعداء على الرغم من سعة مساحة الإجتهاد لملء منطقة الفراغ، أما وضعها تحت عنوان هذا حق وهذا باطل، فهذا الوضع مردود لأن الإسلام حقٌ إلا إذا تسربل الباطل بلباس الحق وأصبح شبيهاً بـ(كلمة حق يُراد بها باطل) فهو باطل يندرج في إطار النفاق والتضليل والتحريف، وقد أشار (قدس سره) إلى هذه الحقيقة بقوله: «عندما يتناقش رجلان عالمان مجتهدان في داخل إطار إسلامي وكل منهما يكون له رأي وكل منهما ينسب رأيه إلى الإسلام فلا يوجد عندنا هذا حق وذاك باطل إلاّ بمقدار إنتساب هذا الرأي إلى الحق أو الباطل في الواقع والتصاقه به»[21] ثم يُشير (قدس سره) إلى إيجابية تعدد الآراء إذا كانت طريقاً لنتائج علمية واقعية بقوله: «… فهنا رأيان في فهم الإسلام ومن ثم يمكن أن تتلاقح الآراء وتصل إلى نتائج علمية أكثر قرباً للواقع»[22].

أما إذا كانت هذه الآراء في إطار يفتقد العمق العلمي والأصولي، أي: خارج قاعدة الإجتهاد التي تتبع طريقة الإستنباط من الأدلة الفقهية الأربعة: القرآن، السنة، الإجماع، العقل، فإنها لا تقرب إلى الحقيقة بل أداة إبعاد عنها، ولهذا السبب يضع السيد الشهيد (قدس سره) هذه الحرية الفكرية في إطار الإجتهاد ثم يقول: «ولكن هذه الحرية منضبطة ومقننة ضمن القواعد والأصول العلمية التي تُتبع للوصول إلى الحقيقة أو تُقرِّب الإنسان منها، وهي قواعد يتم بحثها في علم الأصول والمنطق، وهي مستنبطة من القرآن بصورة قطعية ويدركها العقل السليم بصورة واضحة وبينة»[23].

هذه الحرية مع سعتها مقيدة بالإجتهاد وهو إختصاص الفقهاء الجامعون لشرائط الفُتيا[24] التي تمثل طريق الوصول إلى معرفة الحكم وإستنباطه، وليس الأمر كما يتصور الذين ليس لديهم إطلاع بقواعد العلم والمعرفة في أن الرأي ووجهة النظر تدخل ضمن الحرية الشخصية، وبالتالي لا قيد في الحرية الشخصية طبق النظرية الرأسمالية أو نظرية القطب الواحد، لكن فقه الإسلام وفقه أهل البيت (عليهم السلام) الذي يمثل هوية للذات المتكاملة لا يُبيح ذلك إلا ضمن إطار الإجتهاد، وكذلك ليست الآراء ووجهات النظر ترفاً ثقافياً أو تنويرياً كما يقول أهل الصرفة بذلك، فإذا خرجت ممارستها عن ضابطة الإجتهاد أصبحت أداة نزاع وصراع داخل الإطار الإسلامي لأهواء أو منافع متوقعة، وليست بناءً وتكاملاً، وكذلك تضليلاً وتحريفاً لا هدايةً وتوعيةً، فتصبح أداةً للعدوان، فيتغير الموقف منها تبعاً للمنحى الذي يُخرجها عن إطار الحق والعدل، ومواقف الأئمة الأطهار (عليهم السلام) وأتباعهم تجاه حركة الزندقة مثلاً أو مسألة خلق القرآن والسحر والشعوذة دليل على تغير الموقف.

رابعاً: الحرية والحق والعدل

الحرية في المنظور الإسلامي تختلف عنها في المنظور الرأسمالي إختلافاً أساسياً، لأن الفكر الإسلامي والحكم الإسلامي قائمان على دعامتي الحق والعدل، وليس أهواء وميولاً ورغبات وشهوات الناس، كما هو في المجتمع الرأسمالي، فالحق والعدل أساس في الفكر والحكم والسياسة والثقافة والمواقف، ولكن هناك نقطة مهمة هي أن الحق والعدل لا يقبله جميع الناس، خصوصاً إذا تعرضت مصالحهم للضرر، كما أن في إلتزام الحق والعدل منهاجاً يترتب على ذلك الالتزام ثمن يدفعه الملتزم بهما، ولذلك تعتبر المواقف معبراً حقيقياً عن ذلك، فإذا تعرض هذان المبدآن للخطر والإقصاء يبرز في ساحة الدفاع عنها الذائبون فيهما إعتقاداً، وواقعة كربلاء خير شاهدٍ على ذلك.

وقد يتعارض الحق والعدل مع رغبات وميول الناس ويتقاطع معها، ولكن ذلك ليس مسوغاً في أن ينأى الناس عنهما، لأن الحق والعدل أمر واحد لا يمكن تجزئته ولا يمكن سوقه مع الرغبات والميول، فبعض الناس يسلك طريقاً معوجاً حسب ميوله ورغباته ولكنهم يحاولون تلبيسه بالحق وإعطائه صبغة العدل، كما نلاحظ اليوم أن فكرة الإمام المهدي (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء) تتعرض للتشويه تحت مدعيات ومسميات كاذبة وباطلة ولكنهم يرونها حقاً وعدلاً ويطرحونها كعقيدة!

إن الحق والعدل يمثلان صميم المصلحة العامة، وفي هذا المجال يقول السيد الحكيم: «.. ولابد أن نعرف إن الحق والعدل ليسا بعيدين عن مصالح الناس العامة، ولكن أي مصلحة وأي مفسدة يتبعها الحكم الشرعي؟ المصلحة والمفسدة الواقعية التي يراها الله تعالى وهو الحق المطلق، وقد يراها الإنسان كذلك أو يراها ولكن لا يميل إليها ولا يهواها»[25].

فالمصلحة العامة هي مصلحة الناس جميعاً ولا تنحصر بمصلحة هذا الفرد أو تلك الجماعة المعينة، لأن حصر المصلحة في فردٍ معين يقود إلى الإستبداد، ولذلك تصادر الحريات ويستخدم القمع، وبنفس المعنى إذا حُصرت المصلحة العامة في جماعة معينة فإنها ستنظر للجماعات الأخرى بعين مقلوبة وتحاول بالقمع الفكري والجسدي الترويج لنفسها.

وقد يتساءل البعض عن الأسباب وراء رفض الحق والعدل وعدم الإلتزام بهما من قبل بعض المسلمين، ويكمن الجواب في أن الحسد والحقد والأنانية وحب الظهور والاستعلاء وحب الجاه والمنصب – وهي من أمراض النفاق – وراء رفض الحق والعدل، لأن مساحة الشهوات والرغبات والتسلط فيهما ضيقة جداً بل معدومة، فلا يوجد للطغيان والإستبداد مندوحة فيهما، فيكون الطعن والتسقيط والإتهام والإشاعات أسلحة ناجزة في ساحة صراع المصالح الخاصة مع الحق والعدل.

ويشير السيد الحكيم إلى أن الخسارة في المصالح الخاصة عند تقديم المصالح العامة عبارة عن قرض يقرضه المتضرر لله سبحانه وتعالى فيقول بهذا الصدد: «.. وما يتعرض له الإنسان من خسارة في مصالحه الفردية بسبب تقديم المصالح العامة يعوضه الله عنها أجراً عظيماً في الدار الآخرة»[26] (إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ)[27]إن مصلحة الإنسان ليست في رغباته وميوله وإنما في حياته الأبدية، فإشباع الميول والرغبات الخاصة ضارة بالإنسان في الدارين الدنيا والآخرة، ولذلك وصف القرآن الكريم الذين يتمتعون بها بالأنعام (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ)[28]، ووصف الذين لا يقبلون الحق والعدل ويعارضونه بأنهم أشر الدواب (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ)[29]، فالحيوان لا يهتم سوى بعلفه ولا يعقل الحقائق، ولكن هؤلاء الذين عطلوا عقولهم وأصموا آذانهم عن الحق وألسنتهم عن الفضائل هم أسوء من البهائم، ولذلك فإن إلتزام الحق والعدل يجرد الإنسان من دنياه كهدف، وإنما تبقى وسيلة يتاجر بها مع الله عز وجل كما ورد ذلك عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «الدنيا متجر أولياء الله»، وعنه أيضاً: «الدنيا سوق ربح فيها قومٌ وخسر آخرون».

 وينتهي أستاذنا (قدس سره) بخلاصةٍ مفادها: «إن الحق يتبع المصلحة، ولكن أي مصلحة؟ إنها مصلحة مجموع الناس في مقابل المصلحة الخاصة لهذا الفرد أو ذاك في هذه الدنيا، وكذلك مصلحة الإنسان في مسيرته التكاملية في الدنيا والآخرة معاً، لأن الإنسان عندما يتنازل أحياناً عن بعض مصالحه الخاصة في الدنيا يتم تعويضه عن ذلك في الآخرة»[30].

فالحق والعدل ليس بينهما منطقة فراغ لكي يجتهد الإنسان حسب مصالحه الخاصة ليقول إننا على الحياد، لأن الحياد بين الحق والباطل محال، هذا من جهة أتباع الحق والعدل وهو ليس أمراً مزاجياً، وبعض الناس لا يتبع الحق لأن زيداً متصدٍ له أو لأن الجماعة الفلانية تطالب به وتتبناه من جهة أخرى، ويشير السيد الحكيم إلى ذلك بقوله: «.. فالنظرية الإسلامية في الأصل ليست قائمة على أساس التعددية، لان الحق والعدل واحد، ولا يوجد تعدد فيهما، ولابد فيها من السعي لمعرفة الحق والوصول إليه والإلتزام به دون غيره حتى لو لم يكن موافقاً لرغبات وميول هؤلاء الناس إلاّ في المجالات التي ترك الإسلام فيها الأمر إلى إختيار الإنسان – مساحة الإباحة – ورغباته وهو مجال واسع»[31].

المبحث الثاني

الحرية السياسية لدى شهيد المحراب (قدس سره)

أولاً: الحرية السياسية – نظرة عامة

عرف اللغويون السياسة بقولهم: «ساس الناس سياسةً: تولى رياستهم وقيادتهم… وساس الأمور: دبرها وقام بإصلاحها فهو سائس».

 ويختلف تعريف السياسة من نظرية إلى أخرى ومن فلسفة إلى أخرى، ومفهوم السياسة في الإسلام لا يبتعد عن معناه اللغوي، فالسياسة في الفكر الإسلامي تعني: «رعاية شؤون الأمة وتولي أمورها»، وتشكل السياسة والحياة السياسية ركناً أساسياً من أركان الإسلام، فقد أجمع المسلمون على وجوب الإمامة وهي حسب الفهم الإسلامي يعني إقامة الدولة[32].

ثانياً: شروط الحرية السياسية

إن العمل السياسي الإسلامي من حق جميع أفراد الأمة وطبقاتها، بل هو من واجباتها باعتباره إهتماماً بشؤون المسلمين «من لم يهتم بأمور المسلمين فهو ليس منهم» وكذلك بإعتباره أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وهو واجب الجميع[33]. وهنا لابد من وجود شروط أو ضوابط لذلك العمل.

 الحرية في الإسلام تختلف عنها في الفكر الرأسمالي، فالفكر الرأسمالي فيه تعددية حزبية، تارةً تكون السلطة بيد هذا الحزب وأخرى بيد ذاك، وهذه الأحزاب تعبر عن مصالح الناس الخاصة في الدنيا.

ويشير سيدنا الأستاذ (قدس سره) إلى مساحة من التعددية ويحصرها على سبيل المثال بـ:

1 – إختلاط الحق والعدل كإرتفاع عدة رايات كل منها يتخذ من الحق والعدل شعاراً على منهج كلمة حق يراد بها باطل.

2 – عدم وضوح تقدير المصلحة والمفسدة العامة الإلزامية في المصالح المتحركة والمتغيرة.

3 – عدم وضوح وتمييز الأهم من المهم.

4 – تحديد الأولويات.

وفي هذه الحالات وأمثالها تختلف الآراء «فتكون هناك ضرورة لحرية التعبير عن هذه الآراء المختلفة من خلال البحث والحوار والتفتيش عن الحق والعدل فتتكامل المسيرة ويتحقق الهدف»[34].

ويشير شهيد المحراب (قدس سره) إلى خصالٍ أساسية في مجال ممارسة هذا الجانب من الحرية، وهي: الكفاءة، والخبرة، والإختصاص في «الوصول إلى تقدير هذه المصالح والمفاسد المتحركة أو تشخيص الأولويات والاهم من المهم فيها، ويكون الرجوع إليها في هذا الشأن حسب كفاءتهم وإختصاصهم من الأمور التي إلتزم بها العقلاء وألزم بها الشارع المقدس»[35].فتقدير المصالح والمفاسد والاهم من المهم يكون الرجوع فيها إلى العلماء الجامعين للشرائط وبالرجوع تتحقق الممارسة الحقيقية للحرية وضمن الحدود الشرعية، ومن فوائد الرجوع أيضاً الحفاظ على وحدة تماسك الأمة.

ويوصل السيد الحكيم بالقول: «… ولكن عندما يتبين للإنسان الحق والعدل والمصلحة الملزمة لا يوجد مجال للتمسك بالرأي الخاص، فلا يوجد مجال للقول بأن رأيي هذا وإن كانت المصلحة كذا، لأن القضية مرتبطة بالحق والعدل والمصلحة العليا»[36].

ثالثاً: الحرية السياسية في فكر أهل البيت (عليهم السلام)

الحرية السياسية هي أحد المفردات التي تدخل ضمن فكر أهل البيت (عليهم السلام) وتمثل أحد ركائز ثقافة أهل البيت (عليهم السلام) وتنعكس من خلال السلوك والموقف كمنهاج حياة متكامل، وإذا تم النظر إلى طرح السيد الشهيد (قدس سره) للحرية ضمن فكر أهل البيت (عليهم السلام) يجد أن هذا الإختيار يقع ضمن إطار سياسي يختلف عن الأطر الأخرى، فإطار فكر أهل البيت (عليهم السلام) يمتاز بركائز أساسية منها:

1 – وقوف المعصوم (عليه السلام) في هرم الإطار السياسي، وفي غيبته يقف الفقيه الجامع للشرائط كنائب عن المعصوم، وبالتالي فإن الشرعية والمصالح العامة مُحرزة ضمن هذا الإطار.

2 – الانفتاح الذي يمثل عمق هذا الفكر مما يجعل الأفكار الأخرى في حالة تنفيذ أو دفاع مستمر يساعد على إنتشار هذا الفكر دون تحجيمه، لكن الملاحظ أن هذا الفكر يتعرض للقمع فكرياً أو سياسياً أو جسدياً.

3 – يتبنى هذا الفكر شخصيات سياسية واعية متزنة تنطلق من إطار التكليف الشرعي في سلوكها ومواقفها.

4 – ينطلق فكر أهل البيت (عليهم السلام) من مفهوم إستخلاف الإنسان في الأرض (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)[37]فيمارس دوره في طاعة أوامر (المُستخلف) وفي هذه الطاعة صيانة للحرية السياسية من الإنحراف والإلتقاط للأفكار الدخيلة.

5 – فكر أهل البيت (عليهم السلام) أساس للوحدة في الفكر والموقف طبق الظروف الموضوعية مما يعطي الفكر السياسي مرونة الإستيعاب والثبات على الرغم مما تتعرض له من القمع والتغييب.

ويشير السيد الشهيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) إلى أن ضمان الحرية السياسية يتمثل بفكر أهل البيت (عليهم السلام) إذ يقول: «إن الفكر الأصيل المتمثل بفكر أهل البيت (عليهم السلام) يؤمن مضافاً إلى الحرية الفكرية بالحرية السياسية»[38].

فالحرية السياسية لها جذر عميق في فكر أهل البيت (عليهم السلام) وليست أمراً إجتهادياً طارئا لملء المستجدات به، لأن القضية السياسية أساسية، كما أشار السيد الحكيم (قدس سره): «… القضية السياسة هي قضية تشخيص الموقف والسلوك والمنهج العام الذي يتحرك فيه الإنسان في الحياة والمجتمع»[39]. وتشخيص الموقف والسلوك والمنهج يمثل دور الإنسان في الحياة سواء على مستوى فردي أم جماعي، وليس من المنطق الصحيح والعقل أن يُترك هذا الدور للإنسان نفسه يحدده كيف يشاء، وإنما لابد أن يُحدد من قبل الخالق ليرسم المصالح العامة والمفاسد، لأن حكمة خلق الإنسان الإستخلاف في الأرض ولا يتحقق الإستخلاف الواقعي إلا من خلال «وجوب الطاعة لله سبحانه وتعالى والطاعة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والطاعة لولي الأمر (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)[40]،[41].

وفي الطاعة لا توجد فسحة من الحرية، أي: لم يترك المجال للإنسان في أن يطيع الله أو يعصيه لأن الله عز وجل «خلق هذا الإنسان وجعله خليفةً له في الأرض وعليه أن يعمل بما تفرضه هذه الخلافة فهو مسؤول أمام الله في عمله»[42].

إن الحرية في الإسلام تمثل مسؤولية الإنسان عن دوره وحركته في الحياة، ولم يمنح هذه الحرية بتفاصيلها ثم يترك له الحبل على الغارب، وليس من إختياره أن يتخلى عن هذه المسؤولية، لأن – التخلي – فتح الباب على مصراعيه للفكر المضاد الذي يفرض سيطرته بالقوة والإستبداد والقمع، ويؤكد السيد الشهيد (قدس سره) هذه المسؤولية بقوله: «إن الحرية السياسية في نظر الإسلام هي حرية مسؤولة بمعنى أن الإسلام في هذه الحياة وفي هذا الوجود أعطاه الله سبحانه وتعالى الحرية في أن يتحرك لكونه إنساناً مريداً»[43].وامتاز الإنسان بالإرادة، وهي ميزة عن بقية المخلوقات الأخرى التي تتحرك وفق نظام لا تختلف عنه إطلاقاً كالشمس والقمر والهواء وحتى الملائكة، لكن الإنسان مريد (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا)[44]، وقوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)[45].

فإرادة الإنسان تتحقق من خلال إختياره الإيمان أو الكفر، وفي هذا المجال – أي جعله خليفة له – يقول: والمستخلف عليه أن يعمل في هذه الأرض بموجب الخلافة وبموجب القرار الإلهي (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)[46]، وقال عزّ أسمه مخاطباً الملائكة: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)[47].

إن المسؤولية التي أشار إليها السيد الحكيم هي ــ الأمانة – التي حملها الإنسان، وأداء هذه الأمانة من خلال الإستخلاف، ويقول في هذا المجال: «هذا الإنسان مستخلف في الأرض من قبل الله عز وجل والشخص الذي يُستخلف من قبل جهةٍ ما في أمرٍ من الأمور عليه أن يعمل بما تقتضيه هذه الخلافة، وهذا العمل بأمر ذلك المستخلف وهذه هي المسؤولية، وهو معنى الأمانة (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)[48]،[49].

ومادامت الحرية ضمن إطار الإستخلاف تعد مسؤولية وأمانة، فإنها لا تبيح الظلم والإستبداد والقمع الفكري بحق الآخرين مهما كانت مواقفهم وآراؤهم فمجرد الرفض أو القبول لهذه الفكرة أو ذاك الرأي لا يكون سبباً في القمع والظلم مادام ضمن إطار الحق والعدل وليس من منطق الأهواء والشهوات (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[50].

فالقيد الشرعي هنا ظاهر ولا مسوغ للأهواء والشهوات فيها، ويذهب السيد الشهيد إلى عمق آخر للحرية وممارستها وهو العبودية لله ومالكيته للإنسان ويضرب مثالاً على ذلك هو – الإنفاق – في إشارة إلى قوله تعالى: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ)[51]، وقوله تعالى: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[52]. ومالكية الوجود لله عز وجل (قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ)[53]، والإنسان أحد مفردات الوجود وكل شيء تحت يد الإنسان لا يملكه أصالةً، بل إنه أمانةٌ لديه ومستخلف من قبل الله ليتصرف فيه بأمر ونهي الله سبحانه، ويشير السيد الحكيم (قدس سره) إلى كيفية التصرف بالأموال من حيث الإنفاق: «فهذا المال الذي بيد الإنسان هو مال الله عز وجل إستخلفه الله فيه فهو ليس ماله، لأنه عبدٌ لله عز وجل مخلوق لله سبحانه وتعالى فهو في سلوكه تجاه نفسه فضلاً عن عمله في هذا الكون مستخلف من قبل الله سبحانه، إذن، فهو يعمل بما يقتضيه أمر الله سبحانه»، وفي إشارةٍ منه إلى حرية التصرف بالمال وأصل مالكيته يقول السيد (قدس سره): «إن هذا الإنسان مستخلف في هذا المال، وليس أصيلاً في تملكه وتصرفه فيه»[54] نلحظ هنا ضابطة الإستخلاف والمالكية حددت التصرف بالمال طبق الضوابط الشرعية والمصالح الأخروية، ثم إرادة الإنسان وتفكيره ومواقفه وأقواله وعلاقاته تمثل مسؤولية أمام الله عز وجل بالدرجة الأولى بإعتباره مستخلفاً لأداء الأمانة بلا فرق بينها وبين الإنفاق، يقول السيد الحكيم (قدس سره): «… والحرية في هذا المجال نعبر عنها بـ(الحرية المسؤولة) لأن هذا الإنسان مسؤول على أن يتصرف في مجال الموقف والعمل والسلوك بشكل يتطابق مع إرادة المستخلف»[55].

فالموقف الذي لا ينسجم مع قاعدة الإستخلاف يُلحق ضرراً بالإنسان أشد من الضرر الذي يلحُقه فيما لو خسر أمواله.

ويضع السيد الحكيم (قدس سره) قاعدة أساسية في ممارسة الحرية السياسية تُخرج الحرية من إطار الهرج والمرج والإعتداء على الحرمات والمقدسات، ويضعها في إطار المسؤولية التي ترتبط بمصالح الإنسان، إذ لم يبح له أن يظلم نفسه أو غيره تحت إدعاء الحرية مهما تعرض للظلم إلا في حدود أيضاً لا تخرج عن إطار الشرع المقدس، يقول (قدس سره) بهذا الصدد: «إن الإنسان حر في سلوكه ولكن هذه الحرية محددة بالمسؤولية، والمسؤولية معناها في الحقيقة: المصالح والمفاسد ذات العلاقة بالإنسان وحياته الدنيوية والأخروية التي يعلمها الله العالم بكل الحقائق الكونية وبما ينفع ويضر الإنسان»[56].

فالتعدي على حقوق الآخرين المعنوية والشخصية والعامة بإدعاء الحرية أو الديمقراطية ليس هو إلا خروجا عن إطار الشرع والعقل وحتى العرف، ويقع حق الناس في مقدمة الحقوق التي لا تُجبر إلا بإعادتها وحتى يوم الحشر، فإن الحق الشخصي الذي يرتبط بسمعة الإنسان وكرامته وعزته أحد الحقوق التي لا يدعها صاحبها إلا بإستيفائها.

فالمصالح والمفاسد التي ترتبط بالإنسان وإختياره في حال عدم وجود الإمام المعصوم (عليهم السلام) بيد العلماء الجامعين للشرائط، وهو ما نطلق عليه (ولي الأمر) الذي ترجع إليه إصدار القرارات التي قرن الله تعالى بها طاعته وطاعة نبيه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ)[57] فالمصالح والمفاسد التي يتولى ولي الأمر رعايتها وإصدار القرارات فيها هي أمانة لديه، ولا يمكن أن يصدر أمراً يأتي بخلاف المصالح ويؤدي إلى المفاسد، وإذا حصل منه أمراً يتعارض مع المصالح العامة سقطت ولايته «والولي في نظر الإسلام لا يكون ولياً إذا تصرف على خلاف مصلحة المُولى عليه حتى في الأمور الجزئية»[58].

رابعاً: ولاية الأمر والحرية السياسية

الولي الذي يمارس ولايته على المجتمع من خلال الأوامر التي يصدرها والنواهي التي يراها، يشترط أن تكون طبق مصالح المجتمع، ولا يسوغ له أن يجعل أوامره ونواهيه مفسدة للمجتمع حتى في الأمور الجزئية.

ويشير السيد الشهيد (قدس سره) إلى هذه النقطة بقوله: «الولي لابد أن تكون أوامره ونواهيه قد رُوعي فيها المطابقة مع المصلحة والمفسدة»، وتسقط ولايته «إذا تصرف على خلاف مصلحة المُولى عليه حتى في الأمور الجزئية»[59] وتتأكد هذه المعاني عندما يكون الولي منصباً بالصفات والتشخيص وليس بالنص الإلهي كما هو بالنسبة للمعصومين، فالأحكام من أوامر ونواهي يجب أن تحفظ مصالح المجتمع العامة من خلالها، وتحول دون إفساده، ولذلك اشترطت صفات في الولي من غير المعصومين لا يصل إليها إلا من آتاه الله عز وجل توفيقاً عظيماً[60].

أ – شروط ولي الأمر وصفاته

الصفات المطلوبة في ولي الأمر لها علاقة خاصة بنوع الحكومة وأهدافها، بحيث يتوقف تنفيذ الأهداف والوصول لما تصبوا إليه الحكومة، وهذه الصفات هي المقاييس الشاملة التي حُددت لولي الأمر في زمن الغيبة على أساس التعيين العام، وهذه الصفات هي:

1 – الإجتهاد: هذا الشرط ضروري بالنظر لنوع الحكومة التي هي حكومة القانون، فالقانون فيها هو الإسلام، وبسبب تطور الحياة وتغيراتها فإن أحكام الإسلام هي الأخرى في تغير كي تواكب تلك التطورات والتغيرات، لذلك فإن الشخص الذي يترأس الحكومة الإسلامية يجب أن يكون عالماً ملما بالموازين والقوانين الإسلامية لكي يستنبط القوانين والأحكام الشرعية المستحدثة ويضعها تحت تصرف السلطات التنفيذية قال تعالى: (مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)[61].

هذه الآية الكريمة تركت للناس أمر إتباع أولئك الذين بإمكانهم أن يكونوا المرشدين نحو الحق[62].

وفي إحدى خطب الإمام علي (عليه السلام) 131 تحدث عن بعض شروط الحاكم أو القائد إذ يقول: «وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله».

2 – العدالة والتقوى: كما عرفنا أن أهم هدف في الحكومة الإسلامية هو تنفيذ القانون والعدالة، وإيجاد الفضيلة والتقوى في المجتمع، وتوجيه الناس إلى الله وتربيتهم بالآداب والأخلاق الإسلامية، ومن ناحية أخرى نعلم أن التأثير الذي تتركه الحكومة – خاصة القائد بالذات – على أخلاق الناس هو أكثر من أي شيء آخر، وقد روي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الصدد قوله: «الناس بأمرائهم أشبه منهم بآبائهم» إن أخلاق الناس تصبح شبيهة بأخلاق القائد. إذ إن الناس يقتدون في التصرف والأخلاق والتعامل بقادتهم أكثر من إقتدائهم بآبائهم، وإن تأثير الحكومة ودورها في تربية الشعب أكثر من دور الوالدين في تربية الأسرة[63].

وينقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في خطبةٍ له أثناء توجهه إلى الشام لقتال معاوية قوله: «اتقوا الله وأطيعوا إمامكم فإن الرعية الصالحة تنجو بالإمام العادل ألا وإن الرعية الفاجرة تهلك بالإمام الفاجر».. ويبين الإمام في هذه الخطبة العلاقة المباشرة بين عدالة الإمام وصلاح الأمة، وكذلك بين فجور الإمام وفجور الأمة، ونستنتج من هذا وذاك بأن الإمام العادل هو منقذ الأمة والإمام الفاجر هو مهلك الأمة.

3 – البصيرة والتدبير والشجاعة: هناك ضرورة لوجود هذه الصفات في حاكم المسلمين ووليهم، إذ لا يمكن بدونها إدارة المجتمع والحكومة. وما لم يكن الفرد متميزاً بحسن الإدارة والمعرفة والبصيرة اللازمة في الأمور لا يستطيع إدارة المجتمع، كما يحتاج إلى التدبير والشجاعة في إدارة المجتمع، ويصبر بكل شجاعة ورباطة جأش بوجه مختلف هجمات الأعداء من الداخل والخارج[64].

ب – الولاية والآراء العامة للشعب

يرى السيد الحكيم إن الاستشارة من الشروط الأساسية في ممارسة الولي لدوره إذ يقول: «.. فهذا الولي – غير المعصوم – الذي يدير أمور المسلمين، ويتولى شؤونهم لابد له من مشاورة هؤلاء المسلمين في ما يتعلق بشؤون حياتهم، وبعد هذه المشورة وتبين المصلحة من خلالها ومن خلال العمل عندئذٍ يتخذ القرار الذي يكون له علاقة بهذه المصلحة»[65]. ومن خلال التأمل بدقة ما ذهب إليه السيد الحكيم (قدس سره) يتضح أن الاستشارة تُزيل الإستبداد، وضرورة للتواصل مع الأمة، وتسجيل حضورها في تقرير مصيرها ومصالحها العامة، وتجدر الإشارة إلى أن الإستشارة – هنا – لا يقصد منها الإستشارة في أحكام الشريعة الإسلامية المختلفة، وإنما الإستشارة في القضايا السياسية التي يتحدد على ضوئها الموقف والمنهج والسلوك، ولعل السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) كان سباقاً إلى تأسيس مثل هذه الشورى عن طريق نخبة من تلاميذه البارزين، ومنهم أستاذنا السيد الشهيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) ووكلائه في مناطق العراق المختلفة.

من جهة ثانية كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) وبقية الأئمة المعصومين (عليهم السلام) يستشيرون الأمة في مختلف القضايا العامة على الرغم من أنهم (عليهم السلام) كانوا يشخصون المصالح العامة والمفاسد دون الحاجة في الرجوع إلى الإستشارة، وفي هذا المجال يقول السيد الحكيم (قدس سره): «.. ولقد حدد الإسلام المسؤولية بالمصلحة أولاً، وبيّن الطريق للوصول إلى هذه المصلحة ثانياً وهو طريق التشاور، ولذلك كان التشاور من الواجبات حتى بالنسبة للمعصومين الذين يدركون المصلحة بدون التشاور، من أجل أن يكون المجتمع الإسلامي مجتمعاً يعبر عن حريته وحركته لإدراك السلوك في الموقف السياسي، ولذلك فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو المعصوم الذي يعرف المصالح يخاطبه القرآن (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[66]، لكن إذا كانت الضمانة في المعصوم متحققة بإعتبار النص الإلهي عليه، فكيف تتحقق الضمانة في الولي المنتخب؟ وعن هذا السؤال يجيب السيد الحكيم: «صفات العلم، العدالة، التقوى العالية في الولاية المنتخبة والتي تحقق ضمانة عالية نسبياً»[67]. والأمة من خلال الإنتخاب تمثل دور الرقابة لتحكيم الضمان.

خامساً: مساحات التعددية السياسية وضماناتها

أ – مساحات التعددية السياسية:

طبق نظرية الإسلام يرى السيد الشهيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) أن مساحات التعددية في ثلاث:

1 – الجواز والمباح العام ضمن المستحب والمكروه الفقهي، وهذه المساحة واسعة وتشمل عدة جوانب من الحياة.

2 – اختفاء أو تتعدد المصلحة والمفسدة المتحركة على الناس، دون تمييز الأهم منها والأصلح، وهنا مُنح الناس حرية التفتيش عن المصلحة والمفسدة وتشخيصها للوصول إليها ولمعرفة الأهم والأولى منها، والإختلاف القائم على أساس البحث والعلم والمعرفة والمنطق، هو إختلاف رحمة وحرية مسموح به للوصول إلى الحقيقة لاسيما إن المصلحة والمفسدة متحركة تختلف بإختلاف الظروف والأزمان والأماكن، وهذا المجال لأهل الاختصاص من أهل الخبرة والكفاءة.

3 – إختلاط الحق والعدل في الأمور الثابتة التي شخصها الشارع المقدس، وفي هذه المساحة ترك للإنسان فرصة الإجتهاد في الوصول إلى الحق والعدل، ولكن طبق الأصول والضوابط العقلية والشرعية الموضوعة للوصول إلى معرفة الحقيقة الشرعية، وقد يختلف المجتهدون في ذلك، وهنا تكون حرية الإجتهاد المنضبط من الحريات المسموح بها شرعاً[68].

إن الحرية السياسية في الإسلام حرية مسؤولة محدودة بإعتبار أن الإنسانُ مستخلف في الأرض أمام المستخلِف وهو الله عز وجل، ولذلك نلاحظ أن مساحات التعدد التي أشار إليها السيد الحكيم محدودة جداً وليس لعموم الناس حرية إلا في مجال واحد هو (الجواز والمباح) والمجال الثاني والثالث فيهما سعة من الحرية ولكنها محصورة بضابطة (الإجتهاد) والاستنباط في التشخيص.

ب – ضمانات الحرية السياسية:

 ويشير أستاذنا (قدس سره) إلى أن ضمانات الحرية السياسية وتحقيق أهدافها ووجودها في المجتمع هي:

1- تحرير إرادة الأمة من الطغيان

لان الإستبداد والطغيان يكبل الأمة ويقهر إرادتها ويصادر وجودها الحقيقي لتتحول من أمة فاعلة مؤثرة في القرار والموقف إلى أمة هامدة لا تمارس دورها الحقيقي، فالإسلام يضمن الحرية لأعدائه في محدودية معينة ليعبّروا عن آرائهم وأفكارهم، ولكن الإستبداد والطغيان يحول دون ذلك القهر والقمع ليس لأعداء الإسلام بل للمسلمين أبناء البلد في معادلة مقلوبة تسمح للأعداء بتنفيذ مخططاتهم ضد المسلمين عن طريق الأنظمة المستبدة، ويتأكد القهر والقمع بدرجة أعلى في أوساط الأمة وكانت سياسة، وصدام أجلى مصداق على ذلك.

إن الشعب العراقي يعيش اليوم وضعاً أشبه بالوضع الذي عاشه الشعب الإيراني بعد سقوط الشاه، ما عدا فارقاً واحداً هو أن الشاه سقط بقيادة الإمام الخميني (قدس سره) ونظام صدام قد سقط بيد أميركا وحلفائها، وبالتالي أصبحت إرادة الشعب منقوصة من حيث القرار، فالولايات المتحدة أسقطت نظام صدام وتريد أن تحول النتائج لصالحها وحلفائها في المنطقة من الدول المجاورة التي لا يروق لها أن يحكم العراق نظام ديموقراطي قائم على إرادة الشعب، وكذلك عدم الانسجام بين بعض الإتجاهات السياسية في داخل العراق.

وعليه، فالإرادة الحقيقية تحقق بأبعادها الواقعية عندما تصبح المصالح العامة ضمن إطار الحق والعدل هدفاً ستراتيجياً لا مرحلياً.

إن تحرير الإرادة من الشهوات والميول الخاصة وكذلك من هيمنة الحزب الواحد كما كان كذلك في الدول الإشتراكية، أو هيمنة القوى العسكرية أو قوى الأمن وأمثالها يجعل الأمة فاعلة وتؤدي دورها بالشكل المطلوب.

2 – وحدة الشعب العراقي خط أحمر في ممارسة الحرية كحق شرعي

 وفي هذا المجال يقول السيد الحكيم: «أن لا تتحول هذه الحرية إلى حالة من الصراع والنزاع والاصطدام»[69].

 فإذا تجاوزت الحرية وحدة الشعب وأصبحت مساحة للإنقسام والتناحر والصراعات الجانبية فقدت مضمونها وأصبحت مقابل النص القرآني (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)[70] وقوله تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)[71].

فالرأي الذي يؤدي إلى الاختلاف يكون حراماً والموقف ينقل الاختلاف إلى حالة من الصراع يصبح حراماً، ولذلك تبرز وحدة الشعب كأساس يُبنى عليه الرأي ويسجاه الموقف.

3 – صحة الرأي في نتائجه على الأمة من حيث قوتها وضعفها

 يقول السيد الحكيم في هذا المجال: «أن لا يؤدي الاختلاف في الرأي إلى وهنٍ أو ضعف الجماعة المسلمة بحيث يجعلها تحت خطر الهيمنة وتسلط الأعداء أو نفوذ الأعداء إلى صفوفهم»[72]. فجواز إختلاف الرأي لا يبيح تمزيق المجتمع إلى فرق متصارعة متنازعة مما يجعله فريسة للأعداء المتربصين به، وإذا علمنا أن الأعداء يبحثون عن مساحة أو ثغرة لنفوذهم فإن الاختلاف الذي يقود إلى الصراع سيكون ثغرة آمنة لهم ويدعمون أحد الأطراف المتنازعة أو كلا الطرفين بشكل غير مباشر وآخر مباشر بتأجيج الصراع عن طريق وسائل الأعداء القذرة، ومثال دور الخوارج في تمزيق المجتمع ووهنه وتّفرق كلمته خير شاهدٍ على ذلك، ويمتد دور الأعداء من خلال إيجاد وتغذية الصراعات الجانبية، ويشهد العراق في المرحلة الراهنة أوضح مصاديق الصراع الجانبي الذي يقف وراءه أعداء الشعب العراقي.

 ولذلك فإن خطر الحرية المفتوحة من دون وعي وفهم وإدراك ومن دون مراعاة المصالح العليا للمجتمع، إذا لم يكن مساو ٍلخطر الإستبداد فهو قريب منه، وليس من مسوغ عقلي ولا شرعي في جعل التنافس السياسي الذي يهدف إلى تحقيق المصالح الضيقة عنواناً عاماً للحرية، فإن التنافس السياسي من أجل المصالح الضيقة يعبر عن عُقد الحسد والحقد والحذف وخلط الأوراق لإخفاء الحقيقة وتغييبها، ولذلك تحتل هذه الضمانة موقعها الكبير في الممارسة.

4 – الحرية والبعد الأخلاقي

وضع السيد الحكيم (قدس سره) البعد الأخلاقي كضمانة معنوية لممارسة الحرية في الجانب السياسي، يقول السيد الحكيم في هذا المجال: «أن تكون هذه الحرية ضمن الحدود الأخلاقية والتي نعبر عنها بالتقوى السياسية»[73] بإعتبار أن الفهم الخاطئ للسياسة والحرية السياسية يبيح إنتهاك المقدسات الدينية وحرمة الإنسان المؤمن بالغِيبة والإفتراء والتسقيط والتحريف والتزوير من أجل الحصولِ على مكاسب خاصة.

 وبعبارة أخرى: يمارسون السياسة خارج الأطر الإنسانية والأخلاقية، فإذا كانت الحرية سبباً في هتك الإنسان المؤمن أصبحت حراماً، لان الشارع المقدس لم يمنح أحداً حرية هتك الآخرين، يقول السيد الحكيم في هذا المجال: «… فهذه الحرية يجب أن لا تكون سبباً في هتك إنسانٍ مؤمن، أو هتك جماعةٍ مؤمنة، لأن هذا الهتك في نفسه حرام، فالإنسان ليس حراً في أن يهتك المؤمنين أو يسقط مروءتهم، وإذا كان هذا العمل جائزاً في بعض مفرداته في الحرية الغربية لعدم وجود حرمة للإنسان، فهو غير جائز في الشريعة الإسلامية»[74].

 وإذا كانت الأسرار كالدماء التي تجري في العروق والتي عبر عنها أمير المؤمنين (عليه السلام): «إستعينوا على أموركم بالكتمان» وإذا كانت المصالح الخاصة كالحقد والحسد مقدمات لكشف الأسرار والعيوب من خلال مصطلح الحرية السياسية والديموقراطية المزيفة فإن ذلك غير جائز في الإسلام، يقول السيد الحكيم في هذا المجال: «… الحرية غير جائزة إذا كان فيها كشف الأسرار والعيوب، حتى لو لم يكن السر رسمياً متعلقاً بأمن الأمة أو الجماعة الصالحة، بل هي غير جائزة حتى لو كان هذا السر شخصياً فلا يجوز كشفه»[75]. وفي إطار حركة التغيير التي تبناها شهيد المحراب (قدس سره) يرى أن ممارسة العمل السياسي الإسلامي هو حق لجميع أفراد الأمة بل واجب عليها ولكن حُصر في إطار المرجعية الدينية السياسية رفعاً للإنحراف، وفي هذا المجال يقول السيد الحكيم: «… والضمانة المركزية للمحافظة عليها – (الحرية) من هذه المخاوف (الانحراف) – هو إرتباطها بالمرجعية الدينية السياسية، على أن خط الولاية لا يفترض حق الأمة في ممارسة عملها السياسي إلاّ في إطار الحكم الشرعي الإلهي وعبر إرتباطها بمراكز التوجيه الديني والسياسي الصحيح التي تنتهي إلى إشراف المرجعية السياسية الرشيدة»[76]. وهذه من أعظم الضمانات للعمل السياسي، لان صفات المرجع وموقفه في الشريعة كحافظٍ لها ودوره في الأمة لا يبيح له ممارسة إسقاطغيره حتى وإن أعلن الغير حرباً عليه، فكيف يسمح بممارسة السياسة في إطار الكذب والغيبة والهتك والاعتداء والتسقيط؟

لقد صنف السيد الحكيم الكذب إلى نوعين:

1 – كذب صريح، وهو: أن ينسب للإنسان قول أو فعل لم يقله أو يفعله.

2 – كذب هو: عبارة عن تحريف النصوص وإقتطاع قرائن الكلام التي تعطي تمام معناها في بقائها وفي حذفها يعطي معنى آخر أو إعمال الاجتهاد، يعني أن يستنبط من كلام المتكلم أو يؤخذ من فعله تفسيراً أو توجيهاً لم يكن المتكلم قائلاً به أو مريداً، يقول السيد الحكيم في هذا المجال: «تحريف الكلمات والنصوص عندما يتحدث الإنسان بنص كامل، وتكون فيه دلالة دالة على مقصوده، ويكون الجزء الثاني منه قرينة على الأول، فلا يصح إقتطاع الجزء الثاني الذي يمثل القرينة والإتيان ببعض الكلام ونسبته إلى الشخص، أو تفسير الكلام بطريقة خاصة توحي بمعنى آخر لا يقصده ذلك الإنسان كل ذلك من الحرية المحرمة»[77].فأصل الزيغ أنهم لا يأخذون الكلام كاملاً والذي فيه دلالة إلتزامية على مقصود المتحدث بل بعض الكلام، ثم يفترون على المتكلم مايشاؤون زيفاً منهم يبتغون الفتنة، وإذا أردنا مصداقاً واضحاً هو الحملات الإعلامية التي تتبناها الفضائيات في تعاطيها الشأن العراقي، فيظهر على شاشاتها الذين يعرفون الحق ولكنهم يلبسون الحق بالباطل.

 إذن، فالحرية ليست تجرداً عن الأخلاق والقيم والمثل الإنسانية، وإنما تعبيراً عنها، بل هي في إحدى مضامينها تجسيد لتلك القيم والمثل.

5 – الحرية والمصلحة العليا

المصالح العليا تمثل وجود الأمة وحياتها وعزتها وكرامتها، وبهذا المعنى تشكل أمانة كبرى مسؤول عنها كل فرد من أفرادها، وبالتالي لا يحق لأحد بل عدم الجواز الشرعي ظاهر في الأضِرار بالمصالح العليا وتحت أية ذريعة كانت، يقول السيد الحكيم: «أن لا تكون هذه الحرية مضرة بالمصالح الإسلامية العليا بحيث تعطي الحرية للأعداء ذرائع وحججاً وإمكانيات تستخدم ضد الجماعة المسلمة»[78]. إن إظهار الآراء وإتخاذ المواقف والنشر في وسائل الإعلام المرئية والمقروءة حق، ولكن إذا أصبحت باباً لولوج الأعداء يرتفع الحق من الجواز إلى عدم الجواز، وليس من العقل إباحة المصالح العليا مقابل المصالح المحدودة أو بدافع الانتقام والتشهير، فلو خلص الحق من لبس الباطل لما إختلف إثنان، وإذا ألقى اللبيب نظرة فاحصة على الإعلام المرئي والمقروء لما إحتاج إلى العناء في إكتشاف إيثار المصالح المحدودة لهذا الطرف أو ذاك.

إن المصلحة العليا يجب أن تشكل محوراً أساسياً في الحرية الفكرية تنظيراً وتطبيقاً، فالإضرار بالمصالح العليا للإسلام وللشعب خط أحمر لا يمكن تجاوزه.

سادساً: القمع والحرية السياسية

وضع الإسلام حدوداً لممارسة الحرية السياسية – والتي مرّ بيانها – وشدد على عظمة الذنب الذي يترتب على مخالفتها، وهنا يتساءل السيد الحكيم عن الموقف الذي يتخذه الولي الجامع للشرائط سواء كان معصوماً أم منتخباً في ما لو أن شخصاً مارس عملاً يخالف مصلحة الإسلام ومصلحة الأمة، هل هناك مساحة لقمع هذا الشخص بإعتبار مخالفته للمصلحة العامة؟ ويجيب (قدس سره) بالقول: «إن الفكر الإسلامي الشيعي الأصيل يختلف عن الاتجاهات الفكرية الأخرى في انه يعطي الحرية للإنسان في الموقف، فهو بالرغم من أنه يراه إنساناً مخالفاً لا يلتزم بالشرع ولا يلتزم بالأحكام الشرعية ولكن لا يرى للولي حق إستخدام القوة في منعه»[79]،وهناك أمثلة كثيرة تشير إلى طريقة التعامل مع المنافقين في صدر الإسلام، فبالرغم من معارضتهم السياسية العلنية وإثارتهم للإحباط والإرجاف والتثبيط، وقد عاب القرآن الكريم ذلك عليهم وبيّن نواياهم وما يخططون له سراً من محاولات للقضاء على التجربة الإسلامية من خلال التحالف مع اليهود وإيصال الأخبار إلى المشركين، فكانوا أداةً للشغب وعلى الرغم من كل التخريب الذي قاموا به «ولكن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يتخذ أي إجراء سياسي قهري ضد المنافقين… فإن الرسول والقرآن الكريم كان يكتفي بأن يعيب عليهم ويتحدث عنهم وينتقدهم ويبين مخالفاتهم وإنحرافهم عن الأحكام الشرعية بفضح تصرفاتهم وأعمالهم لكنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يتخذ إجراءً قمعياً بان يعتقلهم أو يسجنهم أو يقتلهم أو ينفيهم»[80]. كما أن الإمام علي (عليه السلام) لم يتخذ موقفاً قمعياً تجاه الذين نكثوا البيعة ونقضوا العهود إلا بعد أن اعتدوا ومارسوا الأعمال الإجرامية فوقعت معركة الجمل.

إذاً، فالحرية السياسية في إطار الأفكار والنقاش ووجهات النظر المخالفة تكون مقبولة ما لم تصل إلى حد العداء وتهديد المصالح العليا، ولا تقمع من قبل ولاة الأمر «الحرية السياسية أحياناً تكون حرية غير مشروعة ولكن مع ذلك لا يتخذ في مقابلها الإجراء السياسي القمعي، ما لم تتطور هذه الحرية إلى حدٍ تهدد فيه المصلحة الإسلامية العليا والمجتمع الإسلامي وعندئذٍ يُتخذ القرار والموقف السياسي المناسب تجاهها أو تتحول هذه الحرية إلى عدوان على حريات الآخرين أو مخالفة للقوانين والتشريعات التي يضعها المجتمع لتنظيم حركته وحريته»[81].

فالإسلام لا يجيز الحذف والتهميش والتغييب لمجرد وجود رأي أو وجهة نظر مخالفة، فلا يقمع الفكرة وإنما يرد عليها بالتي هي أحسن، ويبّين مفاسدها لأنه أعطى حرية للتحرك وخير مثال على ذلك كيفية تعامل الإمام علي (عليه السلام) مع الخوارج. ويتابع السيد الحكيم المفاهيم والأسئلة المطروحة حول الحرية ومحاولات التطبيق لممارسة الحرية في هذا المجال أو ذاك على الساحة العراقية، ولأجل أن يضع النقاط على الحروف أشار إلى أن شروط الحرية تعد ضمانة لممارسة الحرية في عدم الخروج عن المصالح العليا.

سابعاً: المرجعية والحرية

 المرجعية بما تمتلك من نيابة عن المعصوم (عليه السلام) تمثل المقوم الذي يحدد المصالح العامة، حيث إن تفاوت الآراء وعدم القدرة لدى عموم الناس في تشخيص أن الحرية تضر بالمصالح العامة أو لا تضر، تؤدي إلى الوهن والضعف أو لا تؤدي، ويشير السيد الحكيم إلى ذلك بقوله: «إن المرجع في التشخيص هو الولاية الشرعية، والمصالح العامة ومصاديق الاخطار العامة يحددها المرجع»[82]. والمرجع الذي له الولاية العامة أصبح من خلال المواصفات التي يتصف بها بيده التشخيص، ويذكر السيد الشهيد (قدس سره) بعض صفات المرجع التي تأهله لممارسة دوره كمرجع في التشخيص:

1 – القدرة على التشخيص من خلال إجتهاده وعدله وخبرته بالأمور السياسية والاجتماعية وفي إخلاصه والدرجة العالية من الحرص على المصالح الإسلامية العليا.

2 – إن المرجع من أهل الخبرة وبالتالي الرجوع إليه في التشخيص ضرورة عقلية قبل أن تكون شرعية، يقول السيد الحكيم في هذا المجال: «… لأن فيه الشروط التي نشترطها في المرجع السياسي الذي يرجع إليه الإنسان في الأمور الاجتماعية، وأن الالتزام بهذا الموضوع هو من القضايا المهمة في ساحتنا الإسلامية»[83].

 الخاتمة

الحرية إحدى أهم مفردات الفكر والحياة الإنسانية، ومن أهم المشاكل التي يعاني منها الإنسان وخاصة في الوقت الحاضر، وقد تكون واضحة من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية ولكنها تحتوي أحياناً على بعض جوانب الغموض، وخاصة عند ولوجها من باب تحديد مصير أو مستقبل الإنسان، فتنشأ الصراعات الفكرية والمسلحة من أجل إثبات وجهة نظر لطرفٍ ما على حساب الطرف الآخر.

إن الحرية في الأصل أساس إنسانية الإنسان وفي بعديها الفكري والسياسي تتجسد القيمة الحقيقية لتطور مجتمع بني الإنسان المؤمن بالله سبحانه، والحرية المحققة لذلك الهدف هي الحرية (العلمية) أي: المنظمة بقانون يحدد كيفية إستخدامها، فكيف نمنع العقل مثلاً من التفكير في ما يضر صاحبه أو الإضرار بالآخرين؟ أو إستخدام الحرية بشكل يؤذي المجتمع، لكن الأمر من هذا وذاك أن تخلف سنوات الظلم وكبت الحريات ألواناً شاذة من الحرية تودي بالمجتمع إلى منزلقاتٍ خطيرة لا يمكن الخروج منها بسهولة.

في هذا البحث المقتضب إستعرضنا رؤية آية الله العظمى السيد الشهيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) للحرية الفكرية والسياسية من وجهة نظر إسلامية، وقد أطلق على الحريتين مصطلح (الحرية المسؤولة) وتعني المحاسبة والالتزام.

إن العلاج الأمثل لهذه الحرية المسؤولة هو من خلال الالتزام بفكر أهل البيت (عليهم السلام) الذي يمثل الضمان الحقيقي للتطبيق السليم لتلك الحرية، فإذا ما تم ذلك سيظهر نوعان من النتائج:

 الأول: آني يتعلق بالوقت الحاضر، فتتشكل نخبة مؤمنة من المدافعين عن الحرية المسؤولة، سيكون لها دور في ظهور.

 الثاني: النتائج المستقبلية، وتتمثل بولادة مجتمع يفهم معنى الحرية وأصولها وضوابطها.

ومن خلال مفردات البحث نلاحظ أن السيد الحكيم (قدس سره) قد سلط الضوء على كيفية تعلم الحرية المسؤولة من خلال فهم كيف يفكر الإنسان بطريقة صحيحة واضحة إيجابية في مختلف الظروف وتحت الضغوطات التي يتعرض لها، فلا يصدر أحكاما متسرعة يبني عليها رؤاه وأفكاره عن هذه الحادثة أو تلك الشخصية، ومن ثم يتمسك بها وتصبح جزءً من عقيدته فُينظر لها ويصوغها في قوالب ضيقة وشيئاً فشيئاً يصبح تياراً فكرياً هداماً وأداة سهلةً بيد الأعداء.

لقد أكد السيد الحكيم على ضرورة تعلم النقاش العلمي الهادف الملتزم بآداب الحوار فذلك وحده الذي يصل بالباحثين عن الحقيقة إلى مبتغاهم، وغير ذلك سيؤدي إلى فوضوية في التفكير فربما تدخل عوامل الكذب والغش والخداع والتضليل فيكون نقاش البعض مجرد تسقيط.

 وكان السيد الحكيم يرسخ دوماً أن ممارسة الحرية الفكرية والسياسية هي وسيلة لتحقيق الأهداف النبيلة، وفي سبيل إثبات ذلك كان هناك دوماً مساحة للفكر المخالف ليطرح أفكاره، ولكن يجب أن تكون هناك حدود للنقاش مع أصحاب ذلك الفكر، والرد بالتي هي أحسن لإثبات إن الدين الإسلامي قادر على إستيعاب المتغيرات وأنه أكبر ضامن للحرية.

ولأن الآراء تمثل إمتدادات العلم فإنها يجب أن تكون صادرة عن أصول صحيحة، ونحن كمسلمين فإن آراءنا يجب أن تكون صادرة عن الشريعة الإسلامية، وفي الإسلام لا يوجد غير الحق، أي: يجب أن يكون الرأي رأياً واحداً، وهذه المنطقة التي يُسمح فيها بصياغة الآراء هي منطقة الفراغ التي يجب أن تملأ بالحق.

الحرية السياسية إعتبرها السيد الحكيم (قدس سره) إحدى ركائز ثقافة أهل البيت (عليهم السلام) كمنهاج حياة متكامل، ولكن بشروط، منها: إن المعصوم يقف في قمة الهرم السياسي إضافة إلى الانفتاح الذي من شأنه نشر ثقافة الحرية المسؤولة، وتبقى أهمية تبني فكر أهل البيت (عليهم السلام) في تحقيق الوحدة، وفي حال غياب المعصوم يتولى نوابه الفقهاء الجامعون للشرائط المنصبون بالصفات وليس بالنص.

لقد وضع السيد الحكيم (قدس سره) ضمانات للحرية السياسية، منها: تحرير إرادة الأمة من الطغيان، وأن تكون ممارسة الحرية مثبتة لوحدة الأمة والآراء المطروحة مؤثرة إيجابياً على الأمة، ومن أهم الضمانات هو تطابق الحرية مع المصلحة العليا للأمة وذات أبعاد أخلاقية فتكون مؤثرة معنوياً.


[1] مؤسسة البلاغ: الحرية رؤية إسلامية، إيران، ط1، 2002، ص72 – 73.

[2] الغاشية: 22.

[3] ق: 45.

[4] الكهف: 29.

[5] البقرة: 256.

[6] محمد باقر الحكيم: الحرية في الإسلام، دار كلمة الإسلام، مكان وسنة الطبع بلا، ص11.

[7] آل عمران: 85.

[8] البقرة: 3.

[9] الإسراء: 81.

[10] يونس: 32.

[11] محمد باقر الحكيم: الحرية في الإسلام، دار كلمة الإسلام، مكان وسنة الطبع بلا، ص12.

[12] النمل: 14.

[13] المصدر السابق: ص13.

[14] النحل: 124.

[15] محمد باقر الحكيم: الحرية في الإسلام، دار كلمة الإسلام، مكان وسنة الطبع بلا، ص13.

[16] المصدر السابق: ص14.

[17] محمد باقر الحكيم: الحرية في الإسلام، دار كلمة الإسلام، مكان وسنة الطبع بلا، ص13.

[18] المصدر السابق: ص14.

[19] المصدر السابق: ص13 – 14.

[20] محمد باقر الحكيم: الحرية في الإسلام، دار كلمة الإسلام، مكان وسنة الطبع بلا، ص15.

[21] المصدر السابق: ص16.

[22] المصدر السابق: ص16.

[23] محمد باقر الحكيم: الحرية في الإسلام، دار كلمة الإسلام، مكان وسنة الطبع بلا، ص 16 – 17.

[24] محمد باقر الحكيم: المرجعية الدينية، النجف الأشرف ط 1، 2005، ص248.

[25] الحرية في الإسلام. المصدر السابق، ص38.

[26] الحرية في الإسلام. المصدر السابق: ص38  – 39.

[27] التغابن: 17.

[28] محمد: 12.

[29] الأنفال: 22.

[30] محمد باقر الحكيم: الحرية في الإسلام. المصدر السابق: 39.

[31] المصدر السابق: ص41.

[32] مؤسسة البلاغ: المصدر السابق: ص 94.

[33] محمد باقر الحكيم: المنهاج الثقافي السياسي الاجتماعي، النجف، الطبعة الأولى سنة الطبع بلا، ص316.

[34] الحرية في الإسلام: ص41.

[35] المصدر السابق: ص41 – 42.

[36] الحرية في الإسلام: ص42.

[37] المزمل: 20.

[38] محمد باقر الحكيم: الحرية في الإسلام: ص39.

[39] المصدر السابق: ص41.

[40] النساء: 59.

[41] محمد باقر الحكيم: الحرية في الإسلام. المصدر السابق، ص27.

[42] المصدر السابق: ص27.

[43] محمد باقر الحكيم: الحرية في الإسلام. المصدر السابق، ص20.

[44] الكهف: 29.

[45] الإنسان: 3.

[46] ص: 26.

[47] البقرة: 30.

[48] الأحزاب: 72.

[49] محمد باقر الحكيم: الحرية في الإسلام، المصدر السابق: ص24.

[50] المائدة: 45.

[51] الحديد: 7.

[52] الحديد: 2.

[53] آل عمران: 145.

[54] محمد باقر الحكيم: الحرية في الإسلام، المصدر السابق: ص25.

[55] المصدر السابق: ص25.

[56] محمد باقر الحكيم: الحرية في الإسلام، المصدر السابق: ص55 – 56.

[57] الأنفال: 20.

[58] المصدر السابق: ص59.

[59] محمد باقر الحكيم: الحرية في الإسلام. المصدر السابق، ص26.

[60] المصدر السابق: ص24.

[61] المصدر السابق: ص25. (يونس: 35).

[62] المصدر السابق: ص27.

[63] حسن خرم آبادي: بين ولاية الفقيه وحكم الشعب، ترجمة ناظم شيرواني، طهران، 1405، ص25.

[64] حسن خرم آبادي: بين ولاية الفقيه وحكم الشعب، ترجمة ناظم شيرواني، طهران، 1405، ص38 – 39.

[65] المصدر السابق: ص41.

[66] محمد باقر الحكيم: الحرية في الإسلام، المصدر السابق، ص56. (آل عمران: 159).

[67] المصدر السابق: ص57.

[68] محمد باقر الحكيم: الحرية في الإسلام، المصدر السابق، ص41.

[69] محمد باقر الحكيم: الحرية في الإسلام، المصدر السابق: ص41  – 42.

[70] محمد باقر الحكيم: الحرية في الإسلام، المصدر السابق: ص41.

[71] المصدر السابق: ص42. (آل عمران: 103).

[72] محمد باقر الحكيم: المنهاج الثقافي السياسي الاجتماعي، النجف الطبعة الأولى، ص317.

[73] محمد باقر الحكيم: الحرية في الإسلام… المصدر السابق: ص43.

[74] المصدر السابق: ص54.

[75] آل عمران: 103.

[76] محمد باقر الحكيم: الحرية في الإسلام. المصدر السابق، ص56.

[77] محمد باقر الحكيم: الحرية في الإسلام. المصدر السابق، ص58.

[78] المصدر السابق: ص58.

[79] محمد باقر الحكيم: الحرية في الإسلام. المصدر السابق، ص54.

[80] المصدر السابق، ص59.

[81] محمد باقر الحكيم: الحرية في الإسلام. المصدر السابق: ص60.

[82] المصدر السابق: ص61.

[83] محمد باقر الحكيم: الحرية في الإسلام. المصدر السابق: ص62.

اكتب تعليق

كافة الحقوق محفوظة لمؤسسة تراث الشهيد الحكيم، ولا يجوز الاستفادة من المحتويات دون إذن خطي.

الصعود لأعلى