صلاة الجمعة محنة الواقع … وعسر التطبيق
بحث شارك في المؤتمر الأول لإحياء التراث الفكري والعملي للشهيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم
الباحث: الدكتور قصي عدنان سعيد الحسيني
جامعة بغداد ـ كلية التربية ـ ابن رشد
صلاة الجمعة محنة الواقع وعسر التطبيق
المدخل
صلاة الجمعة.. اللقاء والتوجيه
تعد (صلاة الجمعة) من الشعائر التي حثَّ الشارع المقدس على أدائها والاهتمام بها، ويدل على هذا نزول سورة كاملة من سور القرآن الكريم باسم (سورة الجمعة)، ومن مصاديق هذه السورة الشريفة على هذه الشعيرة بالذات قوله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تعلمون) (سورة الجمعة،الآية: 9)، وكذلك وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين عنايتهم إلى هذه الفريضة المقدسة، ومن ذلك سؤال نفر من اليهود الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن سبع خصال حسنة، جاء من ضمن تلك الخصال عن فضيلة يوم الجمعة وصلاتها، فأجاب (صلى الله عليه وآله وسلم): «أما يوم الجمعة، فيوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين، فما مؤمن مشى فيه إلى الجمعة إلا خفف الله عليه أهوال يوم القيامة، ثم يؤمر به إلى الجنة»[1].
ونقرأ أيضاً في معرض حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الفرائض، فيقول: «إن الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها، وحَدَّ لكم حدوداً فلا تعتدوها، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء، ولم يدعها نسياناً فلا تتكفلوها»[2].
ونقرأ في أدعية الصحيفة السجادية لإمامنا السجَّاد علي زين العابدين (عليه السلام) دعائه في يوم الجمعة: «وَوَفِّقْنِي لأدَاءِ فَرْضِ الْجُمُعَاتِ * وَمَا أَوْجَبْتَ عَلَيَّ فِيْهَا مِنَ الطَّاعَاتِ، وَقَسَمْتَ لأَهْلِهَا مِنَ الْعَطَاءِ في يَوْمِ الْجَزَاءِ * إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيْزُ الْحَكِيْمُ»[3].
فصلاة الجمعة بين الفرض المقدس وما يزينه من الطاعات ذات الجزاء الأوفى يوم القيامة، وبين الفرض الذي حدده الله تعالى لعباده؛ من اجل أن لانضيعه بعدم أدائه.
ربَّ سائل يسأل: لماذا شدد الحق جل شأنه والنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار (عليهم السلام)، على هذه الفريضة المقدسة؟ فما هو أثرها في النشأة الأولى (الحياة الدنيا)؟ فهي كما قال السيد شهيد المحراب (قدس سره): «إن هذه الشعيرة وضعت لتفعيل الجانب الروحي والمعنوي للمؤمنين … (و) أن يتحدث الخطيب، بأن يحمد الله عزّ وجل، ويثني عليه، ويعظ المؤمنين، ويتحدث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشرح وبيان القضايا ذات العلاقة بحركتهم الاجتماعية وحركتهم السياسية والروحية …»[4].
ولهذا تنبه الطواغيت على مر العصور إلى خطورة هذا الفعل الجماعي، وتعاهدوا مع الشيطان ان لا يدعوا المسلمين وشأنهم في أداء هذه الشعيرة، وطاغية بغداد صدام الكافر حرم أتباع أهل البيت (عليهم السلام) ليس فقط من أداء صلاة الجمعة، وإنما من بركات (المنبر الحسيني) فعرف مكامن الخطر من أين تأتيه، وأن هذه الصلاة من خلال خطيبها ـ الإمام ـ واجتماع المؤمنين فيها، إنما تكشف عن زيف حكمهم وتلاعبهم بقوت الشعب ومقدراته، وأن حثَّ المؤمنين على فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع لأمر خطير، ولا يتجرعه طواغيت العصور، وبحرمان المسلمين من أداء هذه الشعيرة يضمنون ـ أي الطواغيت ـ شعباً ميت الروح، ولايقوى على تغيير منكر، ولا يأمر بمعروف، كما حصل الطاغية صدام على بعض من ذلك، وما شهيد الجمعة السيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره) إلا دليل على ما نقول، وكذلك ما آل إليه الأمر بالسيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) فهذه الأصوات لابد أن تسكت كي لا تمارس دورها في إظهار الخلل وتشخيصه، وكذلك نصرة المستضعفين، وإنصاف المظلومين وإعطاء كل ذي حق حقه؛ ومن أجل هذا كله بادرت قوى الشر من الصداميين والتكفيريين إلى محاربة اسم شهيد المحراب (قدس سره) وصوته في الساحة العراقية وفي هذا الوقت بالذات.
أقول: في واقع الأمر أن البحث المقدم في هذا المحفل الكريم إنما جاء تلبية للدعوة الكريمة الموجهة من قبل مؤسسة تراث الشهيد الحكيم (قدس سره) إلينا في تكريم تلك الشخصية الجهادية، التي نذرت نفسها من اجل إعلاء كلمة الحق في وجه السلطان الجائر، وهو أعلى درجات الجهاد، فهاجر، واغترب، وجاهد، وظل يجاهد حتى قطف أولى ثمرات الحرية، وما زال يعيش معنا فرحة هذه الثمرة، حتى كرمّه الحق عزّ وجل بتاج الشهادة، التي طالما ذكرها وتمناها، وكان بحق ذا حظٍ عظيم؛ لأن الله تعالى جعله مع (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) النساء: 69، سائلاً المولى أن يكرمنا بالشهادة أنه سميع مجيب.
سلطت الضوء في بحثي على خطب الجمعة[5] للسيد شهيد المحراب (قدس سره) وحاولت أن التقط أبرز النقاط التي حاول طرحها السيد الشهيد، وهي بواقع الحال برنامج سياسي وطني، يعالج فيه الوضع الآني في العراق، ويرسم ـ أيضاً ـ مستقبل العراق قطرياً وأقليمياً وعالمياً، فكان المدخل في صلاة الجمعة … اللقاء والتوجيه، ولا يحتاج إلى إيضاح، أما المبحث الأول فكان في التضحيات … والحقوق، وتحدث فيه السيد الشهيد عن تضحيات الشعب العراقي، وما قدمه خلال العقود الماضية السوداء، من تضحيات بالأرواح والأموال، ولابد لهؤلاء أن يُعَوَضوا، فتعطى لذويهم؛ لأنهم دفعوا ثمنها من الذل والتهميش والقهر، وأما المبحث الثاني فتحدثت فيه عما أراده السيد الشهيد لمستقبل العراق كيف يكون، فلا بد أن تكون انتخابات، ولابد أن يكون دستور، وكذلك الاهتمام بجميع شرائح المجتمع العراقي دونما تفريق.
أما المقترحات فأرجو من المسؤليين الكرام أن يأخذوا بها بنظر الاعتبار، سائلاً المولى القدير أن يتقبل هذا العمل قربة لوجهه الكريم.
الباحث
الدكتور قصي عدنان سعيد الحسيني
المبحث الأول
التضحيات … والحقوق
لقد وزّع السيد شهيد المحراب (قدس سره) اهتماماته فشملت كل مناحي الحياة، ومكامن الابتلاء، ومن أصغر دقائقها الحساسة إلى كبرى المسائل والقضايا ذات الشأن العظيم.
فمن العناية بالفقراء والمحرومين إلى المستضعفين، والى الذين أعدمهم الطاغية، وانتهك أعراضهم، وصادر أموالهم وأطيانهم، ذلك الإنسان الذي سحقه الطاغية مع من سبقه في رحى الطائفية والعرقية قرابة أكثر من أربعين عاماً، ولكن شاء الله أن ينصر المظلومين، ويعز المؤمنين ولو بعد حين، ولم يكن للثأر[6] حيز في تفكير السيد شهيد المحراب (قدس سره) لأن منهجه: الكلمة الطيبة، والمجادلة الحسنة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا دأب الصالحين من حملة القرآن، والمتخذين من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أسوة حسنة واتباع أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا مصداق لقول الشاعر:
ملكنا فكان العفو منا سجية ولما ملكتم سال بالأبطح الدمُ
ومما نادى به السيد شهيد المحراب (قدس سره) في خطبته في الجمعة الثانية، فيقول: «الحقوق المهضومة المنتهكة التي تحمل القسط الأوفر منها الطبقة العظمى من الناس، فهناك عدد كبير يُعد بمئات الآلاف من الناس في عراقنا الجريح تعرضت أرواحهم للانتهاك من خلال التعديات التي قام بها النظام أو اغتصبت بيوتهم وأراضيهم من خلال العمليات العدوانية، فلابد من السعي لإرجاع هذه الأموال، والحقوق إلى أصحابها، أو قيام الدولة بالتعويض عن هذه الحقوق لهؤلاء الناس، وهذا يجب أن يكون أحد المطالب الجماهيرية الواسعة التي يتبناها الناس»[7].
وفي خطبة أخرى، وهي: خطبة الجمعة الثالثة[8]، والتي تحدث فيها عن شهداء الانتفاضة الشعبانية المباركة عام 1991، قال: بـ«المطالبة بحقوقهم … فهؤلاء الشهداء كان الكثير منهم في وظائف ومتاجر وأماكن خاصة، يقومون بأعمال ونشاطات، وتعرضوا لأضرار بالغة؛ بسبب العدوان الذي جرى عليهم، ومن حقهم على مجتمعنا أو على من يتولون إدارة هذا البلد أن يراعوا حقوق هؤلاء الشهداء، ويعوضوا أسرهم وذويهم بما ينبغي لهم من التعويض المادي، وهذا أمر يشمل السجناء الذين تعرضوا للأذى والمطاردة والملاحقة والمشردين، الذين هجروا من ديارهم، وأخرجوا منها بغير حق»[9].
أقول: ما زال أمر التعويض متوقفاً، ولم تجعل له آلية لتعويض المتضررين، من المعدومين، والسجناء، والمصادرة لأموالهم المنقولة وغير المنقولة، والنداءات المتكررة التي أطلقها السيد شهيد المحراب (قدس سره) ما هي إلا نوع من إعادة الحق المادي والمعنوي، وجزء من الكرامة التي مسخها الطاغية، لكن هيهات أن تُمسخ كرامة إنسان تخلق بأخلاق أهل البيت (عليهم السلام) وشجاعتهم، وأذكر هذه القصة الحقيقية: كان أحد زملائي في مرحلة الإعدادية، وفي إعدادية بلد بالتحديد، وفي العام 1979 تمّ اعتقاله مع زمرة صالحة من زملائنا في الاعدادية، أما دورنا في التحقيق فكان تباعاً بعده، وبعد مضي أكثر من سنتين في السجن صدر حكم محكمة الثورة الفاشية بالإعدام شنقاً حتى الموت، ونقل لي شهود عيان من داخل المحكمة حين صدور القرار بحق صديقي البطل (منير ناجي الربيعي) أخذ يزغرد مما أصاب القاضي بالهلع، فهؤلاء اتباع أهل البيت (عليهم السلام) وجرَّ هذا الشهيد البطل ستة من أخوانه كلهم بعمر الزهور، والى الآن لم يحصلوا على أي تعويض، فتصوروا من بيت واحد سبعة رجال، نعم سبعة رجال، وكذلك الحال في ستة من أبناء عمومتي أيضاً لم يحصلوا على أي تعويض، وهم بيت السيد علي الحسيني ذلك المجاهد ورجل الدين المعروف، والمعروفين في قرية الجيزاني بيت السيد عبد الله أبو الشارات (الحسيني)، وهذا جزء صغير من واقع مرير دفعنا ثمنه، وما زلنا ندفع حتى يقضي الله تعالى بظهور قائم آل محمد (عـجل الله فرجه الشريف).
أقول أيضاً: إن التعويض يجب أن يشمل الشهداء من فترة حكم البعث الجائر من الستينيات والسبعينيات، ومن ثم الثمانينيات والتسعينيات، وأن تعويض هذه الفئة من المجتمع له أكبر الأثر في خلط هذا النسيج الذي همِّش في عجاف السنين الماضية ضمن الحياة العراقية الجديدة، وحتى يشعروا أن التغيير الذي حصل في البنية السياسية لمجتمعه مع التضحيات التي قدمها، قد آتت أكلها، وان ما قدمه لم يذهب سدىً، وإنما هنالك أناس قد قيّموا هذه التضحيات، وأن من همَّشهم قد مضى، وصار من الغابرين، وعليهم أن يأخذوا دورهم، ويقطفوا ثمار تضحياتهم، وما عند الله تعالى خير وأبقى[10].
إن مطالبة السيد شهيد المحراب (قدس سره) ليست مطالبة إعلامية فقط، وإنما حمّل شرائح في المجتمع العراقي، هم العين الباصرة على حقوق هؤلاء الطبقات المقهورة، مثل: طبقة الحقوقيين، فعليهم أن يطالبوا من خلال مقابلاتهم والمؤتمرات التي يقيمونها بحقوق العراقيين، وخاطب أيضاً الأحزاب السياسية والهيئات والمنظمات الإنسانية التي يجب أن تمارس دورها، وتحتل مكانتها كما ينبغي، وأن تطالب بحقوق كهذه، وإلا لماذا صارت هيئة أو منظمة أو حزباً ما؟! وإلا فسوف تسقط مصداقيتها وتنتهي.
المبحث الثاني
الرؤية المستقبلية للعراق
إن الأثمان التي تدفعها الشعوب من اجل استرداد حريتها، وحرية الأجيال القادمة لهي أثمان باهظة، ويستغرق ذلك أجيالاً وأجيالاً، وعمل النضال يحتاج إلى تنظير سياسي على مستوى النظرية، وعسكري على مستوى الأرض؛ من أجل أن لاتسفك المزيد من الدماء، وحتى لا يأتي في نهاية الأمر طاغية[11] مختفٍ خلف الأستار ليعلن نفسه (بطل المرحلة) و(القائد الضرورة) بعد أن قدمت الأبطال أرواحها فداءً للوطن، وعلى سبيل المثال لا الحصر: ففي يوم الانتخابات فقط ـ يوم 30 /1/ 2005 ـ سجلت إحدى الصحف تقريراً عالمياً عن الخسائر والضحايا التي قدمها الشعب العراقي في يوم الانتخابات، فوصل عدد الشهداء إلى (67) شهيداً و(123) جريحاً و(3) مخطوفين في أرجاء العراق الحبيب[12]، وقد أولى السيد شهيد المحراب (قدس سره) الكثير من القضايا ذات الأثر الفعال في رسم مستقبل العراق، وتحديد الملامح السياسية له، ومن هذه الرؤى:
الانتخابات
لقد دعا السيد شهيد المحراب (قدس سره) في الخطبة الأولى إلى ضرورة (الانتخابات الحرة) التي يجب أن يشترك فيها جميع أطياف الشعب العراقي، وبما إننا من المحرومين وبلدنا من خاصية الانتخابات، تلك الصفحة السياسية الناصعة في حياة الشعوب المتحضرة، حيث إن «العملية الانتخابية آلية هامة في الخيارات السياسية لعملية اختيار القيادات، والنظر في القضايا الوطنية المطروحة»[13]، وأنا أتابع الدكتور حازم الشمري في ديناميكية العملية الانتخابية، وهي: خروج العملية السياسية من خلال ذلك إلى طرح نظام البدائل السياسية أو التعددية[14].
وبناءً على ذلك، وصف السيد شهيد المحراب (قدس سره) بأنها ـ الانتخابات ـ مطلب جماهيري، رافضاً آلية (التعيين) وهو تعيين مجلس سياسي من قبل قوات الاحتلال الأمريكية والبريطانية، وبالتالي يقوم هذا المجلس بتشكيل الإدارة التي تدير شؤون البلاد، ويقوم أيضاً «بتشكيل مجلس دستوري يقوم بمهمة تدوين الدستور، وطرحه للاستفتاء العام»[15].
وهذا أمر مرفوض من الأساس؛ لأنه مخالف لأمر الشارع المقدس[16]، وللروح الوطنية وللقانون الدولي، أما قرار مجلس الأمن فقد جاء فيه: «على أن الإدارة يشكلها العراقيون، وأن الحكومة ينتخبها العراقيون، وأن الدستور لابد أن يدونه العراقيون»[17].
أما إذا رجعنا إلى قانون إدارة الدولة، فإنه لا ينص على ما اقترحته قوات الاحتلال الأمريكية والبريطانية قبل سطور قليلة، فقد جاء ما نصه (في الديباجة): «إن الشعب العراقي الساعي إلى استرداد حريته التي صادرها النظام الاستبدادي السابق … ولغرض رسم الملامح لمستقبل العراق الجديد، ووضع آلية تهدف فيما تهدف إليه إلى إزالة آثار السياسات، والممارسات العنصرية والطائفية ومعالجة المشاكل المرحلية، فقد أقر هذا القانون لإدارة شؤون العراق خلال المرحلة الانتقالية إلى حين قيام حكومة منتخبة تعمل في ظلّ دستور شرعي دائم، سعياً لتحقيق ديمقراطية كاملة»[18].
ومن خلال النداء المستمر للسيد شهيد المحراب (قدس سره)[19] مع أصوات المراجع العظام أدامهم الله تعالى والوطنيين والسياسيين الأحرار، ونداءاتهم كانت الانتخابات، وكان الدستور.
الدستور
أكد السيد شهيد المحراب (قدس سره) على أهمية قضية الدستور، وأسماها بالقضية المركزية، وجعلها مسؤلية الجميع من حيث التوعية والمراقبة، فيقول: (أيّها المؤمنون، اعلموا أن قضية الدستور هي أهم قضية تواجهكم في هذه المرحلة[20]، بعض الناس يعتقد أنها هامشية، ولكن هي القضية المركزية الأساسية… لأن قضية الدستور لو تمّ إقرارها بصورة صحيحة، فسوف نتمكن بإذن الله تعالى من بناء مجتمع عراقي صالح، وإهمالها يؤدي إلى نتائج وخيمة على أبناء العراق)[21]، أقول: إن العلة التي عاشها العراق بشعبه خلال عقود الظلم والجور كانت بسبب طاغية فاجر، وقانون مغيّب، فلو تمّ انتخاب الحاكم، وتمّ الاتفاق على الدستور نحصل على (مجتمع عراقي صالح) كما صرّح بذلك شهيد المحراب (قدس سره).
إن نظرة فاحصة على دساتير العراق، وبالتحديد لنصف قرن مضى، وآخرها كان دستور عام 1970 م كل هذه الدساتير لم (تصدر عن هيئة تشريعية منتخبة، بل صدرت عن مجلس قيادة الثورة أو ما يقابله، وهذه الدساتير جعلت السلطة التنفيذية في منزلة تمكنها من التفوق على السلطات الأخرى)[22] علماً أنها لم تضع حدوداً فاصلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، مما أدى إلى غياب سلطة القانون، وبالتالي جعل السلطة التشريعية تابعةً للسلطة التنفيذية ـ ومعلوم صلاحيات كل سلطة، فلكلّ واحدة خصوصياتها وشخصيتها القانونية ـ كل ذلك أدّى إلى ذوبان سلطة القضاء العادل نهائياً، وبقيت فقط (المحاكم الخاصة) ذات الطبيعة الاستثنائية[23].
وهذه الثغرات البشعة بحق الشعب هي التي أكد عليها السيد شهيد المحراب (قدس سره)، فليس هناك دولة بدون قانون، ولا العكس صحيح، فالأمران متلازمان، ومترابطان جدياً، ودليل على تمدن المجتمعات وتحضرها، فهذه الولايات المتحدة الأمريكية الحديثة التكوين وضعت دستوراً بعد حرب الاستقلال 1776 – 1783 يتكون من 33 بنداً، وكذلك الدستور الألماني المكون من 42 بنداً، وضعته بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد خسارتها لتلك الحرب!!
إن القوة الجبروتية التي كانت تتمتع بها (السلطة التنفيذية) في زمن الطاغية صدام لاتضاهيها قوة، مما أدت إلى تعطيل (الشرعية الدستورية)، ذلك، كثيرة لاتحصى ـ لأنها تمدد فترة حكم الطاغية ومن سبقه من المستبدين.
إن «مجلس قيادة الثورة المنحل قد أصدر بين عامي 1976 ـ 1977 (17) قراراً لها قوة القانون، تُجيز استخدام عقوبة الإعدام، أو تُجيز الإعدام في (29) نوعاً من الأعمال المرتكبة، بعضها ذو أثر رجعي، الأمر الذي يتنافى مع المادة (11) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان [24]، هذه المادة تؤكد عدم جواز إدانة أي شخص كان من جراء عمل أو امتناعه عن ادائه إلا إذا أرتقي ذلك إلى الجرم، وفقاً لقانون تلك الدولة أو القانون الدولي وقت الإرتكاب.
أطياف المجتمع العراقي ومستقبل العراق في نظر المرجعية
إن نظرة المرجعية نظرة شمولية إنسانية نابعة من عمق الإيمان بالإنسانية التي كرمها الله، فجعله الله تعالى في أحسن تقويم.
ولا أحد ينسى الإمام السيد محسن الحكيم (قدس سره) في دفاعه عن الأكراد، وكيف أراد عبد السلام عارف أن ينتزع فتوى (تجوز قتال الأكراد) بوصفهم بغاة، ويجوز قتالهم، لكن الإمام رفض ذلك، والحكومة برغم ذلك زورت منشوراً بإن الإمام الحكيم يستنكر على الأكراد أفعالهم، ولما علم الإمام بذلك «قام بنشر منشورين الأول: يكذب الخبر، والثاني شديد اللهجة: … يطالب بوضع فقرة للمطالبة بحقوق الأكراد في مذكرة النجف السياسية …»[25].
أقول: إن الأكراد من حيث المذهب أكثريتهم الساحقة من أبناء العامة، فالاختلاف واضح في المذهب، ولكن يجمعنا دين واحد، ووطن واحد، وإنسانية واحدة.
إن الدفاع عن الأكراد واجب؛ لأنهم ظلموا و«لأن شيعة أهل البيت (عليهم السلام) تربَّوا على رفض الظلم، وعلى رفض الاستبداد، وعلى الدفاع عن المظلومين والتفاعل مع الظلامات التي يشكو منها الناس في كل مكان»[26].
أما دفاع علماء النجف عن الشعب الفلسطيني، ففي نظري مسألة فيها نظر، لأن الإرهاب الذي اصطبغت به أرض العراق أساسه من الفلسطينيين التكفيريين، فوالله المعاملة بالمثل هو الأجدى والأنفع، ومن وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «يا علي أربعة أسرع شيء عقوبة: رجل أحسنت إليه فكافأك بالإحسان إليه إساءة، ورجل لا تبغي عليه وهو يبغي عليك…»[27]، فأي أمر بدول الجوار، مثل: الأردن، وسوريا فكم أكلوا من خيرات العراق؟! وكم دافع عنهم العراق؟! وبالتالي صاروا يرسلون شرارهم وكفارهم ليقتلوا أهل العراق، وهكذا الحال بالنسبة للفلسطينيين التكفيرين، وكان الأجدر بهذه الدول حين علمت أن الإرهابيين ينتمون إلى بلدانهم يسارعون بالاستنكار، والطلب من العراق بإعدامهم فوراً، إذا كان هناك حسن نية للجيران وأهله، ولكن للأسف لم نرَ من حكومتنا الحالية ولا السابقة أية ردة فعل اتجاه هذه الدول الحاقدة على العراق واتباع أهل البيت (عليهم السلام)!!
المقترحات
1 ـ عدم تجاوز مشاعر الشعب في مداعبة دول الجوار الراعية للإرهاب، أو التي تصدر الإرهاب، واتخاذ موقف حازم إزاء ذلك، في أقلها غلق الحدود، ومنع استيراد البضائع التجارية منها، وحرمانها من النفط ومشتقاته إن كانت تستورد النفط من العراق، حتى تعي لما سببته من أضرار لجيرانها العراق، ومن ثم تقديم مذكرة احتجاج إلى الجهات الدولية، كمجلس الأمن ومنظمة حقوق الإنسان، وسحب التمثيل الدبلوماسي منها، جزاءً على مثل هذه الجرائم البشعة والملحقة بجرائم الحرب.
2 ـ إعادة فتح التحقيق في استشهاد آية الله العظمى السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره)، وجعل ذلك علنياً، وعدم التستر عليه.
3 ـ العمل على تفعيل واستمرار شعيرة صلاة الجمعة؛ لما في تلك الشعيرة المقدسة من فوائد اجتماعية، لها مردودات إيجابية على مستقبل الإنسان المسلم، وفي ظلّ هذا الخضمّ الصعب.
4 ـ العمل على تفعيل وتنشيط الهيئات الإنسانية الرسمية والشخصية في المطالبة بحقوق المتضررين أيّاً كان نوعه.
5 ـ العمل المستمر في إعداد برنامج إعلامي موسع، يفضح فيه جرائم الطاغية صدام، والعمل على اتخاذ يوم 7 نيسان و 28 نيسان المشؤومان يوم تكثيف في فضح جرائم الصداميين والعفالقة الكفرة، ولهذا البرنامج نتائج إيجابية في تحجيم الروح الشريرة لدى كل من تُسوّل له نفسه في أن يتمادى على أخيه الإنسان في أي مكان، فمثلاً إصدار دوريات تكشف بالحدث والصورة جرائم الطاغية صدام، وتكثيف اللقاءات مع ذوي الشهداء ومعاناتهم، والعمل على توظيف ذلك إعلامياً، مثل: أفلام سينمائية، أو مسلسلات درامية، ولا نبخل بمال أو بجهدٍ إلا ونوظفه لمثل تلك القضية، فالطاغية استمر لعقود يقتّل بالمؤمنين ويشّهر بهم، أليس من الأجدر أن يشّهر المؤمنون به؛ لأنه كافر مع زمرته من العفالقة؟
6 ـ عمل مجسم كبير يحمل فيه أسماء شهداء العراق الذين أعدمهم الطاغية، وبحسب مناطق العراق، ويعمل مثلاً على شكل خارطة العراق، ويكون هذا المجسم في منطقة الباب الشرقي، وفي حديقة الأمة بالذات؛ لما لهذه المنطقة من أهمية اجتماعية عند الناس، ويُستدعى لهذا العمل الفنانون والمهندسون، من اجل تنفيذه بشكل يُليق بهذه الأرواح الطاهرة، وليبقى ظلم الطاغية شاهداً أبد الدهر؛ ومن أجل أن لاننسى ذلك الجلاد المتوحش.
مصادر البحث ومراجعه
القرآن الكريم.
1 ـ أخلاق الإمام علي (عليه السلام)،السيد العلامة محمد الخرسان، دار المرتضى، ط/1، 1425 ﻫ ـ 2004 م.
2 ـ الأربع عشرة، مناهج ورؤى، شهيد المحراب آية الله العظمى السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره)، مطبعة بهمن، ط/1، 1425 ﻫ ـ 2004 م.
3 ـ الإسلام يقود الحياة، السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره)، مطبعة الديواني، 1424 ﻫ ـ 2003 م.
4 ـ الخصال، للشيخ الصدوق أبي جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي (ت381ﻫ)، صححه وعلق عليه: علي أكبر الغفاري، مكتبة الصدوق، طهران، 1389ﻫ
5 ـ رفض الطغيان، السيد الشهيد آية الله العظمى محمد باقر الحكيم (قدس سره)، مطبعة الرائد، النجف الأشرف، صيف 2005 م.
6 ـ الصحيفة السجادية، الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام)، تقديم وضبط محمد القاضي، الناشر دار الآداب والعلوم، مطبعة الديواني، 1407 ﻫ ـ بغداد.
7 ـ قصص الأبرار، الأستاذ الشهيد مرتضى مطهري، د. ت.
8 ـ مجمع البيان في تفسير القرآن، للشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي (من أعلام القرن السادس الهجري)، ط/6، إنتشارات ناصر خسرو، 1421 ﻫ ـ قم، إيران.
الدوريات
1 ـ أوراق عراقية، مجلة شهرية تصدر عن مركز الفجر للدراسات والبحوث العراقية، العدد 1، 2005 م ـ 1426 ﻫ، والبحوث المعتمدة من هذا العدد هي:
أ) الدستور والمجتمع المدني، رؤية مستقبلية، الدكتور عبد الحسين شعبان.
ب) الاستحقاق الانتخابي للمرحلة المؤقتة للعراق وموقف القوى السياسية والحزبية منه، الدكتور حازم علي الشمري.
ج) نحو تأصيل إسلامي للمجتمع المدني، الدكتور خليل الربيعي.
2 ـ أوراق عراقية، والبحث المعتمد من هذا العدد وهو العدد 2، نيسان 2005 م، ربيع الأول 1426 ﻫ:
أ) المشاكل المرحلية لما بعد الانتخابات العراقية، الدكتور عبد الجبار أحمد عبد الله.
3 ـ الدستور للجميع، من منشورات التحالف المدني للانتخابات الحرة.
صحيفة النداء الإنساني ـ التقرير عن منظمة (IFES)، منسق مشروع EVEQ، العدد 2، سنة 2005 م.
[1] وسائل الشيعة7، باب1، ج9، وللاستزادة ينظر: مجمع البيان في تفسير القرآن مجيد /5: 10/ 431.
[2] أخلاق الإمام علي، السيد العلامة محمد صادق الخرسان (عن نهج البلاغة): 16.
[3] الصحيفة السجادية (دعاء يوم الجمعة): 181.
[4] الأربع عشرة: 48، والواو المحصورة بين معقوفتين هي من وضعي (كاتب البحث).
[5] الأربع عشرة مناهج ورؤى.
[6] ينظر: قصص الأبرار للأستاذ الشهيد مرتضى المطهري، قصة النصراني ودرع أمير المؤمنين (عليه السلام): 15، وقصة الإمام الحسين والرجل الشامي: 13، وقصة الإمام الباقر (عليه السلام) والنصراني الذي استهزأ بالإمام: 11.
[7] الأربع عشرة (خطبة الجمعة الثانية في 6 /6/ 2003): 82.
[8] الأربع عشرة (خطبة الجمعة الثانية في 12 /6/ 2003): 104 ـ 106.
[9] المصدر نفسه: 105.
[10] لمزيد من الإيضاح ينظر: نحو تأصيل إسلامي للمجتمع المرئي في العراق، د. خليل الربيعي: 30.
[11] رفض الطغيان للسيد شهيد المحراب (قدس سره): 39.
[12] صحيفة النداء الإنساني، التقرير عن منظمة IFES منسق مشروع EVER، العدد2، 2005: 34.
[13] الاستحقاق الانتخابي للمرحلة المؤقتة للعراق، وموقف القوى السياسية والحزبية، د.حازم علي الشمري: 42.
[14] المصدر السابق: 42.
[15] الأربع عشرة: 107.
[16] كما صرح بذلك آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله) في فتواه المؤرخة في 17/ جمادي الثاني/ 1425 الموافق 6 /6/ 2005.
[17] الأربع عشرة: 107 و 324 ـ 325.
[18] قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية (المشاكل المرحلية لما بعد الانتخابات العراقية)، نقلاً عن مجلة أوراق عراقية، العدد 2، ربيع الأول 1426 ﻫ – نيسان 2005 م.
[19] الأربع عشرة: 127 – 130.
[20] المرحلة الزمنية المقصودة في حديث السيد شهيد المحراب (قدس سره) هي شهر آب من العام 2003 م، أي بعد أربعة أشهر من سقوط الطاغية.
[21] الأربع عشرة: 324.
[22] الدستور والمجتمع المدني، رؤية مستقبلية، د. عبد الحسين شعبان: 36، وكذلك الإسلام يقود الحياة، السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره): 29.
[23] الدستور والمجتمع المدني: 36 (بتصرف).
[24] المصدر نفسه: 36.
[25] الأربع عشرة: 230، هامش (1).
[26] المصدر نفسه: 231.
[27] الخصال: باب الأربعة: الحديث (72).