المنحى العقائدي في فكر السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره)

tt

بحث شارك في المؤتمر الثاني لإحياء التراث الفكري والعملي للشهيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم 

الباحث: الاستاذ المساعد د. رؤوف أحمد الشمرتي

             كلية الفقه جامعة الكوفة

المحور الأول: محور التوحيد

التوحيد هو أول تعاليم الدين الإسلامي، وأول ما دعا إليه الأنبياء (عليهم السلام)، قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)[1]، ومثل هذا ورد على لسان هود وصالح وشعيب (عليهم السلام).

وفي هذا المقام يؤكد السيد محمد باقر الحكيم على أننا حينما نتناول التوحيد كمفردة عقائدية، لابد أن نعرف بأنه يمكن تناوله من منطلق الاستدلال على وحدانية الله تعالى، كما هو الحال في الأبحاث الكلامية الموجودة في كتب علم الكلام، وهو من الموضوعات التي تقوم مؤسسة الحوزة العلمية بتدريسها في دروس الحكمة.

إلا ان السيد شهيد المحراب يلفت أنظارنا إلى أمرين[2]:

الأول: ان هذا البحث على أهمية البالغة في مجال الثقافة والمعرفة الإسلامية، لكنه ليس من الأبحاث التي نحتاجها كثيرا بتفاصيلها في مخاطبة أوساطنا الدينية، لأنها أوساط موحدة بصورة عامة، ولكن نحتاج إليها في الخطاب مع بعض العلمانيين والمشركين والملحدين والنصارى وغيرهم من اهل الكتاب.

الثاني: إن هذا البحث قد تكفلت به الحوزة العلمية، ويمكن التعويل على منهاجها، دون الحاجة إلى بذل المزيد من العناء في بحث ذلك.

من هنا فان السيد الحكيم (قدس سره) يرى وجوب تناول أمورا أخرى، وهي وان كانت موجودة ضمن أبحاث التوحيد في الكتب العقائدية ـ أيضا ـ ولكن بصورة متناثرة، وليست ضمن منهج عقائدي منسق، لذا فان هناك حاجة وضرورة لتوضيحها لأوساطنا الاجتماعية، ولا سيما أوساط المجاهدين والعاملين في المجالات السياسية.

إن الأمور العقائدية ـ في نظر شهيد المحراب ـ لابد أن تمتاز بخصوصيتين[3]:

الأولى: تأكيد الجانب الاجتماعي للتوحيد، وهو الجانب الذي اهتم به القرآن الكريم بصورة خاصة؛ لان القرآن إنما نزل من اجل بناء الجماعة الصالحة، وإيجاد القاعدة البشرية المؤمنة بالله تعالى، وكتبه ورسله، حتى تقوم تلك الجماعة بدورها في الحياة الإنسانية.

الثانية: أن ما اهتم به القرآن الكريم من الجانب الاجتماعي والعملي، كان من الخصائص العقائدية التي امتازت بها مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ومذهبهم في فهم الإيمان، والإسلام على بعض المدارس والمذاهب الأخرى.

وبقدر ما يتعلق الأمر بالخاصية الثانية، أراد السيد شهيد المحراب الإشارة إلى ربط أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تكامل الإيمان وزيادته ونقصانه بالجانب العملي، ومما يؤيد ما قاله السيد الحكيم ما ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليه السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما الإيمان؟ قال أن الأيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان[4].

تجدر الإشارة إلى أن متكلمي الإمامية قد التزموا بهذا المعنى للإيمان، عند تعرضهم له في مؤلفاتهم العقائدية والتفسيرية[5]. بخلاف المدارس الكلامية الأخرى التي أشارت إلى أن الإيمان: هو المعرفة والتصديق بالقلب[6] .

إذن: فالحديث عن التوحيد، يعبر عن منهج قراني من ناحية، ويدخل في صلب البحث العقائدي من ناحية أخرى، على أساس متبنيات مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) على حد تعبير السيد شهيد المحراب[7].

أولا: الكمال المطلق (التوحيد الصفاتي)

هنا يبتدئ شهيد المحراب حديثة عن الكمال المطلق جلت قدرته، باستعراض ابرز وأهم أقسام التوحيد، ألا وهو التوحيد الصفاتي وذلك ان احد الأبعاد المهمة في بحث توحيد الله تعالى هو قضية توحيده في صفاته
ـ كما يقول السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) ـ باعتبار أنها عين ذاته[8] والذي ذهب إليه السيد شهيد المحراب من عينية الصفات للذات هو رأي الإمامية[9] والزيدية[10] والمعتزلة[11] وكذا الفلاسفة[12]، بخلاف الأشاعرة والماتريدية[13] الذين اثبتوا لله تعالى صفات قديمة زائدة على الذات. والمتتبع لما يقوله السيد الحكيم (قدس سره) يرى انه لا يقصد بذكره لموضوع التوحيد الصفاتي، ترديد ما ذكره الأسبقون من أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، إنما أراد التنبيه إلى بعد مهم في هذا البحث التوحيدي، له علاقة وثيقة في بحثنا هو (بعد تصور المثل الأعلى) الحقيقي الخارجي المطلق في كماله، بحيث يتحول هذا المثل الأعلى كهدف وإطار لحركة الإنسان الاجتماعية، يجسد له المستقبل، الذي يتحرك باستمرار في اتجاهه؛ لان حركة الإنسان في هذه الدنيا هي حركة غائية، لها أهدافها، وأُريدَ من ورائها تحقيق هدف كبير معين، يتمثل بالاقتراب والوصول إلى هذا المثل الأعلى المطلق، الذي تتحد فيه صفات الكمال[14] ان الوصول إلى هذا الكمال المطلق ـ في منظور السيد الحكيم ـ يمكن ان يصل إليه الإنسان ويقترب منه من خلال:

1 ـ حركته الدنيوية، عندما ينتقل إلى الله تعالى في اليوم الآخر.

2 ـ وعند ما يتجرد من علاقته بهذه الدنيا وآثارها وتبعاتها أو ضغوطها وشهواتها، ولكن من خلال سعيه وعمله في هذه الدنيا، فهو يسعى في هذه الدنيا ويكدح فيها بهدف الوصول إلى الله تعالى.

وهكذا ينتهي السيد شهيد المحراب (قدس سره) إلى إننا ـ استنادا إلى ما تقدم ـ يمكننا فهم البعد السياسي والاجتماعي في بحث التوحيد، انطلاقا من كونه ليس مجرد بحث عقائدي، يعبر عن الإيمان والالتزام القلبي في داخل وجدان الإنسان، بل ان له آثارا عملية اجتماعية ترتبط بحركة الإنسان[15].

ثانيا: الشرك والتوحيد (التوحيد الذاتي، في مقابل تعدد الآلهة والشرك بالله تعالى).

في هذا المقام أراد السيد الحكيم (قدس سره) الإشارة إلى اخص صفة من صفات الذات المقدسة، إلا وهي الوحدانية، في مقابل من اعتقد بالشرك من تعدد الآلهة كالأصنام أو الكواكب أو الملائكة وغيرها، ويعتقد هؤلاء أن لهذه الآلهة تأثيرا في حياة الإنسان والكون بصورة مستقلة إلى جانب تأثير الله سبحانه وتعالى، أو أنهم يفترضون أن لها علاقة الله تعالى وأوكل لها من هذه العلاقة هذا التأثير[16]، والسيد الحكيم يرى أن هذا البحث وان كان له بعد علمي وكلامي تناولته الأبحاث الكلامية في الحوزة العلمية أيضا، لكنه مع ذلك يوجد له بعدان آخران، احدهما: اجتماعي، والآخر: سياسي، ويرتبطان بجانبين[17]:

أ) التوحيد في الولاء

لأول مرة في تاريخ الفكر الأمامي الاثني عشري، يقدم لنا مفكر من هذه المدرسة هذا المصطلح أو التصنيف في مسائل التوحيد، إلا وهو التوحيد في (الولاء)، وهو إذ يتبنى هذا المصطلح، يقدم له بفكرة عميقة يقول فيها:

جانب الولاء والحب والمثل الأعلى والقدوة التي يضعها الإنسان أمامه في حركته حيث أن تعدد الآلهة وتعدد الولاءات يؤدي إلى تمزيق المجتمع، وتفرقه وتشتّته، وقد تحدث القرآن الكريم عن هذا الجانب في مواضع عديدة، عندما تناول قضية الولاء للأهل والعشيرة والمال والوطن وغيرها في مقابل الولاء لله تعالى، وكذلك عندما تحدث عن عدد الولاءات من خلال تعدد الأحزاب والمذاهب، وهذا هو ما أشار إليه أيضا الشهيد الصدر (قدس سره) في بحث المثل الأعلى على حد تعبير السيد الحكيم[18].

ب) التوحيد في العبادة

هنا يشير السيد الحكيم (قدس سره) إلى انه علينا إلا نتعامل مع العبادة كما لو أنها مجرد شعائر وطقوس، يؤديها الإنسان ويعبر فيها عن الاحترام والتقديس، أو الشعور بالخضوع والضعف والعجز أمام الإله، بل إن العبادة هي حالة اجتماعية تكاملية في حركة الإنسان عندما يتحرك في الحياة الاجتماعية؛ لتجسيد مثله الأعلى وفي إطار ذلك المثل، ومن اجل أن يتقرب إليه ويتقرب منه[19].

إذن: فالعبادة عند السيد الحكيم ليس أمرا مفصولا عن المجتمع الإنساني، بل هي جزء من حركته، حيث يمكن أن يتحول كل عمل مفيد إلى عمل صالح يقربه إلى الله تعالى، من خلال قصد التقرب إليه تعالى بالعمل، وبذلك يكون عبادة[20].

وبهذا الفهم والرؤية لقرب السيد الحكيم بين عبادة العلمانيين وعبادة المتدينين فيقول: وبهذا الفهم والرؤية يمكن أن نفرق ـ أيضا ـ بين عبادة العلمانيين الذين يؤمنون بالله ويوحدونه في العنوان والالتزام القلبي، ولكنهم في الوقت نفسه لا يرون لله تعالى ولا للدين دورا في الحياة الاجتماعية، وبين عبادة المتدينين، الذين يرون ان كل تفاصيل الحياة لها علاقة بالحكم الشرعي وبالإرادة الإلهية[21].

ولا يغفل السيد الحكيم أبعاد تأثير العبادة على المجتمع، فيرى أنها عديدة تتمثل في:

توحيد مسار الإنسان نحو الله تعالى، وتوحيد ولائه وولاء المجتمع لذلك، فإنها تلعب دورا مهما في تطهير المجتمع، وتزكيته من خلال الإخلاص لله تعالى وقصده وحدة دون هدف آخر[22].

ثالثا: التوحيد في العمل والطاعة

الملاحظ ـ كما يقول السيد الحكيم ـ أن القرآن الكريم يطرح مجموعة من العناوين للحفاظ على هذا البعد من التوحيد، منها.

أ. الهوى

فالإنسان قد يشرك بالله سبحانه من خلال إتباعه لهواه، واتخاذه له إلها، من دون الله، (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)[23].

على أن السيد الحكيم يعتقد أن الهوى هنا لم يتخذ إلها في كثير من الأحيان بمعنى التقديس والتعظيم كما يفهم من العبادة أحيانا، فلا يصلي لهواه، ولا يصوم له، ولا يذبح له القرابين ـ كما كان يصنع المشركون لآلهتهم ـ ولا يقيم مراسم العبادة له؛ وإنما يتخذه إلها له في مقام العمل والطاعة والإتباع، فهو يأخذ بأوامر هواه لا بأوامر الله تعالى، ويخضع في سلوكه لهواه لا لحدود الله وقوانينه [24] ولكن قد يتحول الهوى إلى حالة اجتماعية، بحيث يصبح الها معبودا ـ على مستوى التقديس والتعظيم ـ للمجتمع كله لا لهذا الفرد أو ذاك، كما نشاهد ألان كثيرا من مصاديقه في الحضارة المادية الغربية التي تنظر لذلك وتتبناه على مستوى الفكر والعقيدة.

في هذا المقام يفصل السيد الحكيم (قدس سره) ما تقدم، فيشير إلى ان مشكلتنا مع الحضارة المادية الغربية وصراعنا معها كحضارة وفكر واجتماع وسلوك ينطلق من هذه النقطة وهي الإيمان بالحرية الشخصية للإنسان، بمعنى تقديس إتباع الميول والشهوات والرغبات كمبدأ عقائدي، وكأصل من أصول المجتمع، ولا يحد هذه الحرية شي إلا حرية الآخرين[25]. وهكذا ينتهي السيد الحكيم إلى ان الامر المتبع في تفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية للحضارة المادية أصبح هو الهوى، أي ان ميول الإنسان ورغباته وشهواته ومصالحه المادية الخاصة هي الأساس في كل هذه التفاصيل، فرئيس الدولة ينتخب على أساس هذه الميول، الاهواء، والرغبات والمصالح، وهكذا إدارة الحكم، والحياة، والمصالح العامة للجماعة في السوق والشارع، وفي جميع مرافق الحياة. وهذا البعد في التوحيد يعتبر ـ على حد تعبير السيد الحكيم ـ من القضايا العقائدية المهمة، التي ترتبط بموضوع التوحيد في الطاعة[26].

ب. طاعة الطغاة والمستكبرين

وهذا النوع من الطاعة ظاهرة اجتماعية شهدها التاريخ الإنساني، وتحدث عنها القرآن الكريم في مواضع عديدة، ولا سيما عند وصف مشاهد يوم القيامة.

السيد الحكيم هنا يرى أن القرآن الكريم عندما يتحدث عن علاقات (المستكبرين والأتباع) في النار نجدها علاقة لوم وعتاب بعضهم لبعض، كما في قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ)[27].

وفي تاريخنا السياسي المعاصر نجد مصاديق لهذه الطاعة والتبعية للاستكبار العالمي، بحيث انتهت ـ كما يقول السيد الحكيم ـ إلى فكرة إقامة النظام العالمي الجديد على هذا الأساس، وهو الطاعة لأمريكا، بعد أن كان هذا النظام موزعا على قطبين إستكباريَّين هما : أمريكا والاتحاد السوفيتي السابق، وأصبح الآن احد معالم السياسة العالمية هو وجود القطب الواحد[28].

على ان السيد الحكيم يلفت أنظارنا إلى أن الشعار الذي رفعه الإمام الخميني (قدس سره) (لا شرقية ولا غربية) يراد منه التوحيد في الطاعة، والإتباع لله سبحانه تعالى في مقابل الطاعة والإتباع للاستكبار، ورفض الهيمنة الاستكبارية[29].

ج ـ الغواية والتضليل

يصرح السيد الحكيم ان أكثر ما يطرح القرآن الكريم هذا البعد من الشرك بالله تعالى تحت عنوان: الشيطان ـ او إبليس ـ ودوره في إغواء الإنسان وتضليله، وما يقدمه من صور خادعة او وعود كاذبة، سواء في إغوائه لآدم وزوجه، أم إغوائه لأوليائه، حيث يخرجهم من النور إلى الظلمات، ويعدهم ويمنيهم بالغرور، ويخلف معهم الوعد، ويتخلى عنهم عند الحاجة.

والظاهر من القرآن الكريم ـ على حد تعبير السيد الحكيم ـ ان دور غواية الشيطان يبدأ من الكبر، والاستكبار، والإحساس بالتميز عن الآخرين (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)[30]، وهو ما يعبر عنه بـ (الأنا) في حركة الإنسان، حيث لا يرى الأشياء إلا من خلال نفسه ووجوده، فيتمرد على الله تعالى، وبالتالي يشرك بالله بإطاعة نفسه، أو عندما يقع في هذا الوهم والخداع والضلال فينطبع سلوكه وعمله وتصرفاته بهذا الطابع النفسي[31].

والسيد الحكيم (قدس سره) ينبهنا إلى ان المثال الحي الملموس لذلك موجود في عصرنا الحاضر والمتجسد في وسائل الإعلام الاستكباري، من خلال أساليب الخداع، والتضليل، والحرب النفسية، باعتبار ان احد الأدوار الرئيسية الذي تقوم بها وسائل الإعلام هذه هو هذا النوع من الشرك بالله تعالى[32].

والصورة الأخرى في هذا النوع من الشرك موجودة في البدع، والضلالات، ودعاوى التجديد والإصلاح الكاذب و المخادع، والحداثة والعلم التي يطلقها بعض العلمانيين او الذين يتسترون باسم الدين لتضليل الناس وخداعهم، وقد طرح القرآن الكريم ـ كما يقول السيد الحكيم ـ نماذج وأمثلة ثلاثة لهذا الشرك العملي في صورة الصف، انتزعها من واقع تاريخ الرسالات الإلهية:

الأول: مثال امة موسى (عليه السلام) التي آذته مع علمها بأنه رسول الله تعالى. وخالفت أمره واتبعت هواها.

الثاني: مثال موقف بني إسرائيل من عيسى (عليه السلام)، الذين كذبوا رسالته ولبسوا الحق بالباطل، مع انه (عليه السلام) جاءهم بالبينات.

الثالث: مثال المسلمين الذين استكانوا إلى الدعة والنصر المحدود، وخافوا من الطغاة والمستكبرين الروم عندما واجهوهم في ميدان القتال[33].

التوحيد ومصاديق الشرك في القرآن الكريم

يرى السيد الحكيم انه بالإمكان معرفة هذه المصاديق من خلال التوقف والتأمل في الآيات القرآنية، وربطها بهذه الأبعاد التوحيدية، ومن ذلك:

1 ـ الحب لله تعالى في مقابل الحب للأهل، والعشيرة، والمال، والسكن، والتجارة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَ ـ ئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)[34].

2 ـ التسليم لأمر الله تعالى وحكمه في فصل الأمور وحسم الخلافات، أو تنظيم حركة المجتمع أو تشخيص الموقف العملي (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً)[35]، فالتحكيم من الأفعال السلوكية الخارجية الذي لابد أن يكون منسجما مع الحق، المتمثل بحكم الرسول، لا مع الهوى، أو اللبس والضلال، ولم يكتف القرآن بالفعل الخارجي، بل دعا إلى التسليم، الذي هو من الأفعال القلبية، وهو منعكس على العمل الخارجي، فالطاعة ـ هنا ـ ليست مجرد الانسجام مع الأمر في الفعل الخارجي، بل التسليم له في الفعل القلبي أيضا.

3 ـ الإخلاص لله تعالى في العمل ـ فالإنسان ـ كما يقول السيد الحكيم قد يؤدي الواجب ويأتي بالعمل المطلوب المفيد الجيد، ولكن لابد ان يكون ذلك مقروناً بالإخلاص لله تعالى؛ ليكون عملا صالحا ومقبولا، وإلا فانه يكون مشركا في العمل، إذا جاء به رياء، او لإرضاء شخص، أو جماعة، أو لهوى النفس وميولها الخاصة.

4 ـ الطاعة لله تعالى في السلوك الخارجي، والطاعة لرسوله ولأولي الأمر، الذين تنتهي ولا يهتم إلى الله تعالى والرسول والأئمة الطاهرين، كل ذلك مقابل الطاعة للشيطان، او الطغاة او الأثرياء، أو الأولياء العرفيين ـ العشيرة، الحزب، المنظمة، الزعيم ـ فان الطاعة والالتزام في هذه العناوين العرفية لابد ان يكون في إطار الطاعة لله تعالى وامتدادا لها، وإلا فانه يكون من الشرك في الطاعة.

5 ـ الدعوة إلى الله تعالى في العمل السياسي، وهو ما يمكن ان نسميه بـ (التوحيد السياسي) فيكون الولاء والدعوة والعنوان والعمل والجهاد من اجل إقامة الحق والعدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإغاثة المظلومين ونصرتهم والدفاع عنهم.

6 ـ الإيمان بالغيب وتأثير القوة الإلهية الغيبية في مسيرة الإنسان، وهو من الأمثلة المهمة في موضوع التوحيد في الصفات ـ المثل الأعلى العبادي والعملي ـ.

المحور الثاني: محور الرسالة.

يرى السيد الحكيم أن مسؤوليات الرسالة وواجباتها تتضح من خلال تحمل الرسول مسؤوليات أساسية عديدة:

1 ـ مسؤولية البلاغ

2 ـ مسؤولية التزكية والتطهير

3 ـ مسؤولية تعليم الرسالة

المسؤولية الأولى: إبلاغ الرسالة، المعبر عنه في القرآن الكريم: بالبلاغ، الذي يبدو وكأنﻫ أحيانا ـ المسؤولية الوحيدة (ما على الرسول إلا البلاغ)، لكن في كثير من الآيات الكريمة يعبر عنه بتلاوة الآيات ـ كما يقول السيد الحكيم ـ مستشهدا بقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)[36].

ويرى السيد الحكيم أن لمسؤولية البلاغ إبعادا رئيسية أشار إليها القرآن الكريم في موارد عديدة:

البعد الأول: يرتبط بأداء هذا البلاغ كوظيفة من الوظائف الإلهية التي كلف الله بها الإنسان، وأداؤه يكون انطلاقا من كونه واجبا من الواجبات الإلهية، بصرف النظر عن مدى استجابة الناس لذلك[37].

البعد الثاني: يتمثل بمقدار الجهد الذي يجب أن يبذله الرسول بما يرتبط بمسألة اليأس والأمل، وهذا البعد ـ كما يقول السيد الحكيم ـ أشار إليه القران الكريم في مواضع عديدة إذ أن الرسول ينبغي عليه إبلاغ الرسالة ـ دون أن يصيبه يأس أو قنوط من طول المدة ـ والاستمرار في أداء هذه المسؤولية. ولذلك يشير القران الكريم في عدد من آياته إلى أن النصر قد يأتي في لحظة يبدو فيها أن لا أمل في النصر، والذي يعبر عنه بحالة استيئاس الرسل، كما في قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِين)[38].

البعد الثالث: (أسلوب البلاغ). هنا يعتمد السيد الحكيم أن يكون إبلاغ الرسالة بأسلوب الحكمة والموعظة الحسنة، واستخدام كل الوسائل المؤثرة والممكنة في الإبلاغ، والاعتماد على المجادلة الحسنة والمداراة للناس، واستخدام اللين أحيانا، والشدة أحيانا أخرى. حسب ما تفرضه الحكمة في العمل، والتأثير ووسائل الإيضاح والشرح والتأثير النفسي على الجماعة، واستشهد السيد الحكيم على هذا النهج بقوله تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[39].

المسؤولية الثانية: (التزكية والتطهير) بعد أن انتهى السيد الحكيم من طرح المسؤولية الأولى ـ إبلاغ الرسالة ـ واستعراض أبعادها، ينتقل السيد الحكيم إلى طرح المسؤولية الثانية المتمثلة بـ (التزكية والتطهير)، التي أشار إليها القرآن الكريم في سورة الجمعة وفي آيات أخرى (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)[40] فهذا أيضا واجب من واجبات الرسول على حد تعبير السيد الحكيم[41]، بيد ان السيد الحكيم ينبهنا إلى ان السيد الصدر لا يستخدم في التعبير عن هذا الواجب عنوان (التزكية والتطهير)، بل يعبر عنه بالإشراف وممارسة الإنسان لدوره في الخلافة، ومسؤوليته في إعطاء التوصية بالقدر الذي يتصل بالرسالة وأحكامها ومفاهيمها[42]، كما يضيف الشهيد الصدر ـ حسبما ينقل عنه السيد الحكيم ـ أمراً ثالثا، يمكن ان يدخل أيضا في عنوان التزكية، وهو التدخل لمقاومة الانحراف واتخاذ كل التدابير الممكنة من اجل سلامة المسيرة.

والتزكية في واقعها ـ على حد تعبير السيد الحكيم ـ تربية الإنسان والسير به نحو الكمال … وكل هذا يرتبط بهذه المسؤولية، التي تتمثل في كون الرسول مسؤولا عن متابعة مدى تأثير الرسالة في الناس، والسير بهم نحو التكامل، فليس هو مسؤولا عن البلاغ فحسب، بل عليه ان يبلغ ويتابع تأثير هذا التبليغ، وتكامل الإنسان على أساسه، خطوة بخطوة ومرحلة بمرحلة، ودرجة بدرجة، حسب اختلاف عوامل التأثير فيه[43].

المسؤولية الثالثة: تعليم الرسالة للناس، فليس المطلوب تأثير الرسالة في نفوس الناس، وتفاعلهم معها فحسب ـ على حد تعبير السيد الحكيم ـ إنما لابد من تعليم هذه الرسالة.

من هنا جاء ذكر التعليم في القرآن الكريم في بعض الموارد قبل التزكية، باعتبار أن الإنسان يتعلم ثم يتزكى، كما في قوله تعالى: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ)[44] ومثلما أشار السيد الحكيم ـ قبل قليل ـ إلى مجئ التعليم قبل التزكية أحيانا، أشار في موطن آخر إلى ان ذكر التزكية قد جاء قبل التعليم في القرآن الكريم أحيانا أخرى، معللا ذلك بان الهدف الرئيسي والأساس والاهم هو التزكية، وان التعليم هو طريق لوصول الهدف، كما جاء في سورة الجمعة ـ التي ورد ذكرها أنفا ـ وفي قوله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)[45]. بعد كل هذا يعتقد السيد الحكيم أن هذا التقديم والتأخير قد يكون هدفه بيان هذا النوع من العلاقة المتبادلة بين التعليم التزكية، لكن على كل حال ـ كما يقول (قدس سره) ـ فان التعليم هو مهمة أخرى غير التزكية[46].

وفي معرض تفسيره قوله تعالى: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) يرى السيد الحكيم (قدس سره) ان القرآن الكريم أشار ضمن عنوان التعليم إلى أمرين: (الكتاب والحكمة)؛ معللا ذلك بان الرسالة عبارة عن أحكام شرعية وحدود إلهية، ومواضع معينة يشخصها الشارع المقدس، سواء في الواجبات او المحرمات، والتي نعبر عنها، بالأحكام المولوية، أو بالصحة والفساد، الذي نعبر عنه بالأحكام الوضعية، وهذه كلها ـ كما يقول (قدس سره) ـ ترتبط بقضية الكتاب، الذي هو من واجبات الرسالة.

ثم ينتقل ـ (قدس سره) ـ إلى بيان المهمة التالية للتعليم وهي ـ الحكمة ـ والمراد من الحكمة ـ من وجهة نظر السيد الحكيم ـ على ما يبدو من بعض الآيات القرآن ـ يراد منها: الأخلاق التي من خلالها تزكى النفس وتطهر، لكن السيد ـ (قدس سره) ـ لم يغفل مراد الفلاسفة من كلمة (الحكمة)، فيقول: ولكن قد تفسر الحكمة بمعنى آخر ـ كما يبدو من الحكماء، وبذلك عبروا عن أنفسهم بـ (الحكماء) ـ وهو معرفة الحقيقة والعلاقات القائمة في عالم الموجود[47]. والواقع ان السيد الحكيم ـ (قدس سره) ـ قد جمع في تعريفه للحكمة كل ما أفاده الفلاسفة في تعريفها، أمثال سقراط الذي ذكر أنها: البحث العقلي عن حقائق الأشياء المؤدي إلى الخير، وإنها تبحث عن الكائنات الطبيعية، وجمالها، ونظامها، ومبادئها، وعلتها الأولى[48].

ضرورة الرسالة

معلوم ان الرسالة ضرورة تقتضيها طبيعة وجود الإنسان، وهذه الضرورة تتمثل في تبيان الرسول للمكلفين جملة من المسائل: أهمها معرفة الله سبحانه بما ينسجم ومستوى إدراكهم، وبيان حقيقة، وتلك مهمتان لم يفعلهما كل نبي ورسوله، وهو ما نلاحظه في القرآن الكريم، قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ)[49] فضلا عن آيات كريمة أخرى تذكر حال الأنبياء بأسمائهم مع أممهم أو قبائلهم، قال تعالى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَ ـ هٍ غَيْرُهُ)[50] (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)[51]

ومثلما ذكر القرآن الكريم مهام الأنبياء في الدعوة إلى الله تعالى، ذكر أيضا تخويفهم من عذاب يوم (عظيم) وفي لفظة أخرى (اليم).

كما تتمثل ضرورة وجود الرسول او النبي بين المكلفين في أمرين آخرين:

الأول: التقنين والتشريع: باعتبار ان حاجة الإنسانية إلى شريعة وقانون لتنظيم واقع حياتها ونشوئها حاجة ماسة للوجود الإنساني، في ظل مجتمع تسوده القوانين والأنظمة، وتحدد له الحقوق والواجبات، وما يترتب عليها لضمان الحياة الإنسانية بصورة قوية، وتقدم حلا للمشاكل التي قد تعترض الإنسانية في مسارها نحو الرقي والتقدم.

الثاني: التأثير الأخلاقي: فالأخلاق تمثل إحدى المسائل الإسلامية في الوجود الإنساني، فقد تطغى القيم المادية على الإنسان، فتجعله أسيرا لشهواته، منقادا لها في كافة حواسه وعقله، وفي ذلك ضرر كبير يلحق بالفرد والمجتمع.

لذلك لابد من رادع ووسائل تمنع الأفراد من الاندفاع والسقوط في المهالك، فجاءت النبوات بالقيم الأخلاقية والمثل الإنسانية، مبينة الحل للمشاكل التي قد تعترض الإنسان في هذه الناحية.

كان كل ما تقدم من الكلام بخصوص ضرورة الرسالة، كان طرحا وفق المنهج العقائدي المتعارف عليه في كتب العقائد. بيد ان السيد الحكيم (قدس سره) تناول ضرورة الرسالة من خلال أبعادها الاجتماعية الدقيقة، وهو في ذلك متأثر بمنهج رفيق دربه السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره). لذا تراه يقول:

وأما الحديث عن ضرورة الرسالة ووجوبها في الحياة الإنسانية، فيمكن ان نعرف ذلك من خلال دور الرسالة في حل الاختلافات، كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك عند بيان الهدف من الرسالات الإلهية في قوله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)[52].

فالهدف من الرسالة ـ على حد تعبير السيد الحكيم ـ على ما يبدو من هذه الآية الكريمة هو حل الاختلافات القائمة بين الناس ومعالجتها[53].

وكدليل واضح على تأثره بمنهج الشهيد الصدر (قدس سره) يقول: ويطرح الشهيد الصدر في هذا الموضوع، بحثا من أهم وأدق الأبحاث المتعلقة بالحركة الاجتماعية، وبطريقته الجميلة الرائعة في العرض والاستنتاج، وبيان الأبحاث الاجتماعية، حيث يقول: ان الإنسان كان يعيش مجتمع الفطرة، الذي كان مجتمعا يوحد الإنسان بمقتضيات الفطرة، التي فيها عوامل التوحيد، ثم ظهر الاختلاف من خلال وجود عنصر الاستغلال، والاستثمار في حياة هذا الإنسان، وبسبب ذلك حدث الاختلاف بين هؤلاء الناس، وعندما أصبح المجتمع مجتمع الاختلاف والهيمنة والاستغلال، انقسم الناس إلى أقسام ثلاثة:

القسم الأول: المستغِل، الذي يمارس عملية الاستغلال، بسبب الهوى والشهوات والرغبات، والاندفاع في إشباع هذه الشهوات والرغبات، بحيث تكون لديه حالة الطغيان، وتجاوز الحدود الموضوعية، بما وهبه الله سبحانه وتعالى من إمكانات وقدرات يستغل من خلالها الآخرين وهذا القسم من الناس كما يقول الشهيد الصدر يكونون قد انحرفوا عن الفطرة.

القسم الثاني: المستغَل، المستسلم للاستغلال، التابع للمستغلين، وهذا أيضا قسم آخر من الناس يخرجهم الله سبحانه وتعالى من الخلافة، باعتبار أنهم بحركتهم العملية وواقعهم العملي، وان كانوا مستغلين ومظلومين، لكنهم عندما قبلوا بهذا الواقع الاجتماعي وبهذه الظلامة، أصبحوا ظالمين لأنفسهم.

القسم الثالث: المستغل : المقاوم للاستضعاف الاجتماعي، ويرفضه ولا يقبل به، ويطالب بالرجوع إلى الحق والعدل.

وهذا القسم هو الذي يكون له حق الخلافة والإمامة، ويتضح ذلك من قوله تعالى: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)[54].

هذا هو خلاصة ما أفاده السيد الحكيم في الجانب العقائدي، سيما في بحث التوحيد والنبوة، آملا أن يوفقني البارئ سبحانه لكتابة بحث منفرد عن آرائه في الإمامة؛ لما لها من أهمية قصوى على الصعيد الاجتماعي، الذي أفنى سماحته معظم عمره الشريف بهدف الوصول إلى مجتمع إسلامي تتحقق فيه عدالة السماء ولكن!!!

إنا لله وإنا إليه راجعون.

المصادر والمراجع

1 ـ خير ما نبتدئ به القرآن الكريم

2 ـ التمهيد ـ الباقلاني، محمد بن الطيب.

3 ـ تفسير سورة الصف ـ الحكيم، محمد باقر.

4 ـ المنهاج الثقافي السياسي الاجتماعي ـ الحكيم، محمد باقر.

5 ـ تاريخ الفلسفة الغربية. رسل، برتراند.

6 ـ كتاب الشفاء. ابن سينا.

7 ـ نهاية الإقدام في علم الكلام. الشهرستاني ـ محمد بن عبد الكريم.

8 ـ التفسير الموضوعي للقران الكريم. الصدر، محمد باقر.

9 ـ خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء. الصدر، محمد باقر.

10 ـ الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد. الشيخ الطوسي.

11 ـ مسند الإمام الرضا (عليه السلام). العطاردي ـ عزيز الله.

12 ـ كشف المراد شرح تجريد الاعتقاد. العلامه الحلّي.

13 ـ تاريخ الفرق الإسلامية ونشأة علم الكلام ـ الغرابي، علي مصطفى.

14 ـ المدينة الفاضلة ـ فارابي (أبو نصر).

15 ـ شرح الأصول الخمسة. القاضي عبد الجبار.

[1] سورة الأعراف: آية 51.

[2] الحكيم محمد باقر: المنهاج الثقافي السياسي الاجتماعي: ص 23.

[3] م. ن: ص 23 ـ 24

[4] العطاردي، عزيز الله: مسند الإمام الرضا (عليه السلام): ج 1: 260.

[5] الشيخ الطوسي، الاقتصاد: ص 227، العلامة الحلي، كشف المراد: ص 270.

[6] القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة ص 708، الباقلاني : التمهيد: ص 345.

[7] الحكيم. المنهاج الثقافي ص 25.

[8] م. ن: ص 25.

[9] العلامة الحلي: كشف المراد ص 181 ـ 182.

[10] الغرابي: تاريخ الفرق الإسلامية ص 289.

[11] القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة ص 182.

[12] الفارابي: المدينة الفاضلة 33 ـ 32، ابن سينا: الشفاء 2: 367 ـ 368.

[13] الشهرستاني: نهاية الإقدام: ص 181.

[14] الحكيم: المنهاج الثقافي: ص 25.

[15] م. ن: ص 27.

[16] م. ن: ص 27 ـ 28.

[17] م. ن: ص 28.

[18] م. ن: ص 28 ـ 29. وراجع أيضا التفسير الموضوعي للقران للسيد محمد باقر الصدر.

[19] م. ن: ص 29.

[20] م. ن: ص 29.

[21] م. ن: ص 29.

[22] م. ن: ص 29 ـ 30.

[23] سورة الجاثية: 23.

[24] الحكيم: المنهاج الثقافي: ص 33.

[25] م. ن: 33 ـ 34.

[26] م. ن: 34.

[27] سورة سبأ: 31.

[28] الحكيم: المنهاج الثقافي ص 35.

[29] م. ن: ص 35.

[30] سورة البقرة: آية 34.

[31] الحكيم: المنهاج الثقافي ص 36 ـ 37.

[32] م. ن: 37.

[33] الحكيم : تفسير سورة الصف، حيث فصل الحديث في ذلك.

[34] سورة التوبة: 23 ـ 24.

[35] سورة النساء: 65.

[36] سورة الجمعة: 2، وراجع المنهاج الثقافي: 50 ـ 51.

[37] الحكيم، المنهاج الثقافي: 51.

[38] سورة يوسف: اية 110، وراجع المنهاج الثقافي: 52 ـ 53.

[39] سورة النحل: اية 125، وراجع المنهاج الثقافي: 54 ـ 55.

[40] سورة ال عمران: 159.

[41] الحكيم المنهاج الثقافي ص 55.

[42] م. ن: ص 56، وراجع الشهيد الصدر، خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء.

[43] م. ن: ص 57.

[44] سورة البقرة: 129 وراجع المنهاج الثقافي: 59.

[45] سورة آل عمران: 119.

[46] الحكيم: المنهاج الثقافي: 59.

[47] م. ن: ص 60.

[48] برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الغربية، الكتاب الأول ص 158 ـ 159.

[49] سورة النحل: آية 36.

[50] سورة الأعراف: آية 85.

[51] سورة الأعراف: آية 73.

[52] سورة البقرة: آية 213.

[53] الحكيم: المنهاج الثقافي: ص 61.

[54] سورة القصص: آية 5.

اكتب تعليق

كافة الحقوق محفوظة لمؤسسة تراث الشهيد الحكيم، ولا يجوز الاستفادة من المحتويات دون إذن خطي.

الصعود لأعلى