دور المرجعية الدينية والحوزة العلمية في بناء المجتمع الاسلامي

tt

بحث شارك في المؤتمر الثاني لإحياء التراث الفكري والعملي للشهيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم 

الباحث: سماحة السيد عبد الكريم الجزائري

            استاذ في الحوزة العلمية ـ بصرة

المقدمة

الحمد لله رب العالمين وافضل الصلاة على سيد الخلائق اجمعين محمد واله الطيبين الطاهرين وبعد:

فأن دراسة تراث العلماء والنظر فيه إنما هو دليل وعي الباحثين والمهتمين والراعين لهكذا دراسات، لما فيها من فوائد جمة على المستويين الروحي والعلمي، فتراث اهل العلم والمعرفة يمثل عصارة افكارهم وجهودهم وخلاصة علومهم وتجاربهم، وبالتالي يكون لها الاثر البالغ في ترشيد حركة الامة ورسم مساراتها للحاضر والمستقبل.

ولاشك أن التطور الكبير الحاصل في العلوم الاسلامية لجماعة اهل البيت (عليهم السلام) إنما هو نتاج تلك الجهود والدراسات التي استفادت من تجارب العلماء السابقين ومباحثهم في مختلف المباحث الاسلامية، الامر الذي أدى إلى اغناء المكتبة الشيعية والفكر الشيعي بمستوً جعله الاول في الدنيا سعة وعمقاً وحجة ووضوحاً .

ومن المهم المفرح أن تؤسس مؤسسة تعنى بتراث اية الله العظمى السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) وتضع بين يدي ابناء الامة الاسلامية عموماً، وابناء مذهب اهل البيت (عليهم السلام) خصوصاً، وابناء الشعب العراقي بشكل اخص نتاج فكره النابغ، وحصيلة تجربته العلمية، والعملية الثورية، والثقافية، والسياسية. وكذلك من المفرح جداً أن تفتح الابواب امام الباحثين والكتاب وتعقد لهم المؤتمرات كي يقدموا دراساتهم واستفاداتهم من تراثه الثر.

أن الشهيد الحكيم (قدس سره) قد اثرى الحركة الاسلامية المتصاعدة بمزيج من النبوغ العلمي المتعدد الجوانب والتجارب المريرة الصعبة؛ اذ استطاع أن يصب هذا المزيج ليكون منهجاً ومدرسة تستفيد منها الامة في معركتها الحضارية المتسارعة احداثها يوماً بعد يوم مع خصومها المحليين والدوليين.

لقد رسم شهيد المحراب (قدس سره) واوضح معالم البناء والنهوض والثبات في الامة من خلال ماطرحه من فكر؛ مستفيداً من الدروس والعبر التي مرت به كعالم ومجتهد، وكذلك كقائد سياسي يواجه طاغوت عصره المدعوم اقليمياً ودولياً. ومن جملة ما طرحه السيد الحكيم (قدس سره) واوضحه بشكل منهجي ـ هو الاول من نوعه ـ معالم البناء الاجتماعي الإسلامي واركان ذلك البناء، معطياً هذه المباحث جهداً متميزاً لكي يخرج بهذا المنهاج الذي طبع بعنوان المنهاج الثقافي السياسي الاجتماعي.

ونحن بهذه المشاركة المتواضعة جداً نحاول المساهمة في هذا المؤتمر الكريم علّنا نحظى بثواب الله تعالى وشفاعة شهيد المحراب (قدس سره).

البناء الاجتماعي

لاشك أن الرسالات الالهية تهتم وتهدف إلى صنع مجتمع انساني متكامل يقوم على اسس صحيحة وسليمة تتجاوب وتتسق مع فطرته التي فطر الله تعالى الناس عليها، تضمن له حياة طيبة خيّرة في عالم التزاحم الدنيوي، وحياة خالدة منعمة في العالم الاخروي.

فالتعاليم الدينية إنما جاءت لتنظم حياة الانسان في جميع مفرداتها واختلاف اصعدتها، فهي تنظم من جهةٍ علاقته برّبة مربيةً فيه روح العبودية الحقة لله تعالى المحررة له من كل أشكال العبوديات الاخرى، وذلك من خلال العبادات المفروضة ومبدأ الطاعة والتسليم المطلق لاحكام الله وقضائه والانقياد التام لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلفائه المنصوص عليهم، لتنسجم حركة الفرد والمجتمع ـ من خلال حركات افرادﻫ في نظام يكمل بعضه بعضاً، فتتوحد وجهة الامة وتسير وفق الغاية الالهية.

ومن جهة اخرى تنظم علاقة الانسان بالانسان في مواضع التزاحم والاختلاف سواء كانوا اهل دين واحد او اهل اديان مختلفة «الناس صنفان إما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق» فتجعل مراتب للحقوق حسب درجات القرابة او الجيرة بالاضافة إلى الدين والانسانية، فتعطي للحياة البشرية نكهة خاصة تكتمل فيها انسانية الانسان ويمتلأ قلبه حباً للاخرين فيتحمل مسؤولياته تجاههم برحابة صدر ورضا نفس يستشعر خلالها انواع اللذائذ المعنوية، حتى يصل إلى درجة يتحول معها إلى باحث عن الواجبات والمسؤوليات الاجتماعية، والانسانية، والدينية، لا مبحوث عنه.

أما الاسس التي يقوم عليها البناء الاجتماعي الاسلامي الصحيح فيلخصها اية الله العظمى شهيد المحراب (رضوان الله تعالى عليه) بستة اركان، وذلك في معرض بيانه للتصور الاسلامي لبناء الجماعة الصالحة، وهي كما يلي:

أ ـ العقيدة الصحيحة والقضايا ذات العلاقة بها.

ب ـ الاخلاق.

ج ـ نظام الجماعة.

د ـ التاريخ.

ﻫ ـ طبيعة حركة الجماعة ونشاطاتها (الخطط والمواقف).

و ـ علاقات الجماعة.

وقد اعطى شهيد المحراب (قدس سره) بياناً موجزاً لهذه الاركان واهميتها قبل الشروع في تفصيلها، ومن اجل استكمال الفائدة للدخول في تفاصيل البحث ولحصول المراد نذكر هذا البيان الموجز:

العقيدة الصحيحة والقضايا ذات العلاقة

لقد عّرف سماحته (قدس سره) العقيدة بانها: (الالتزام القلبي والنفسي لمجموعة من الحقائق الكونية والتي ترتبط وتنعكس ـ في نظرية اهل البيت (عليهم السلام) على العمل والسلوك الانساني في القول والعمل والرؤية للمستقبل والاهداف) مبيناً بعد التعريف مفردات العقيدة؛ اي ما يجب أن يؤمن به الانسان المسلم مؤكداً على مفردة مهمة جداً ـ وكما ذكر هو أيضا ـ وهي الولاية.

الاخلاق

اكد سماحته (قدس سره) في معرض بيانه لهذا الركن على اهميه في النظرية الاسلامية، قائلاً: (في النظرية الاسلامية واحاديث اهل البيت (عليهم السلام) نجد للاخلاق دوراً مهماً جداً، وتمثل القاعدة الثانية من حيث الاهمية بعد العقيدة بالنسبة إلى البناء الاجتماعي والى الحركة الاجتماعية) مقسماً هذا الركن إلى اربعة اقسام:

الاول: الاخلاق ذات العلاقة بالسلوك الشخصي والسيرة الذاتية للافراد.

الثاني: الاخلاق الاجتماعية وهي: الاخلاق ذات الارتباط بالناس، وكيفية التعامل معهم ومداراتهم، وهو قسم موجود في بحوث وكتب الاخلاق.

الثالث: الاخلاق السياسية: وهي الاخلاق التي لها علاقة بالعمل السياسي والاجتماعي وادارة عملية التغيير، والمواجهة مع قوى الظلم والاستكبار والفساد.

الرابع: اخلاق الصفوة، التي لابد أن تتصف وتتميز بها عندما يتم اعدادها.

نظام الجماعة

وقد اكد (قدس سره) على حيوية هذا الركن في عملية البناء الاجتماعي، حيث جاء في حديثه: (أن اية جماعة لا يمكن أن تبنى بناءً صحيحاً مالم تكن ـ هذه الجماعة ـ مضبوطة بنظام يحدد المواقع والادوار في ركن حركة هذه الجماعة ووجودها، وهذا الموضوع من الاركان المهمة).

بعد ذلك يقسم (رضي الله عنه) النظام إلى اربعة عناصر أساسية:

العنصر الاول: المرجعية والولاية، مشيراً إلى وجود بعدين للمرجعية والولاية في هذا العصر:

احدهما: عقائدي، يمثل امتداداً للامامة والنبوة .

والاخر: يمثل النظام والاطار الذي تتحرك فيه الجماعة.

العنصر الثاني: الصفوة.

العنصر الثالث: المؤسسات التي تتحرك من خلالها الجماعة، مقسماً ايّاها إلى مؤسسات اصيلة شرعها الإسلام وتتصف بالثبات، ومؤسسات مبتكرة يخترعها الانسان ويقرّها الإسلام.

العنصر الرابع: الامة ودورها، ومسؤولياتها، وواجباتها، وحقوقها.

التأريخ

وقد جاء في معرض بيانه (قدس سره) لاهمية التاريخ في البناء الاجتماعي: (..لايمكن أن ينفصل هذا الحاضر في وجوده عن حركة الماضي، كما لايمكن أن ينفصل هذا الحاضر عن المستقبل؛ لان حركة الانسان هي حركة تكاملية… حتى يصل إلى الكمال المطلق في الحركة الاجتماعية، وذلك عندما يعم العدل والحق الارض كما اكد القران الكريم ذلك..)

ولاشك أن التاريخ يشكل اغناء تجريبياً لهذه الاجيال للاستفادة من مسيرة الاجيال التي سبقتها من حيث القدوة الحسنة والعبرة، لتستمر مسيرتها وفق الخطى السليمة التي سار عليها السابقون الصالحون، وكذلك تجنب الهفوات والاخطاء التي سقطت فيها الاجيال السابقة، كما يشكل التاريخ عاملاً معنوياً ايجابياً يعزز ثقة الاجيال بنفسها من خلال الانجازات الكبيرة التي حققها السلف الصالح. وقد اعتمد القران الكريم اسلوب التذكير من خلال التعرض إلى ذكر مسيرة الامم السابقة بخيرها وشرها؛ من اجل اعتبار الامة الحاضرة والاستفادة من التجارب الانسانية السابقة.

طبيعة حركة الجماعة ونشاطها

وقد جاء في بيانه لهذا الركن: (.. من حيث المناهج والخطط والمواقف والاعمال التي تقوم بها هذه الجماعة، وهي قضايا ذات علاقة بالحركة اليومية وانسجامها مع الأساس والقواعد والاطار الذي تتحرك فيه نحو المستقبل، وارتباط ذلك بتاريخها وهذا جزء مهم من بناء الجماعة).

علاقات الجماعة

وجاء في بيانه: (سواء علاقتها بالجماعات الاخرى ام بعضها ببعض، فأي جماعة لابد في بنائها من تشخيص القاعدة الاساسية لعلاقات بعضها ببعض، والخطوط الاساسية لعلاقاتها مع غيرها من الجماعات، فالمسلمون مثلاً كجماعة، ماهي علاقتهم بالمشركين؟ وماهي علاقاتهم بأهل الكتاب؟ وماهي علاقاتهم بالدول والامم الاخرى؟).

وبعد أن استعرضنا الاسس التي بيّنها شهيدا لمحراب (قدس سره) للبناء الاجتماعي، نركز في بحثنا حول الركن الثالث موضوع البحث، وهو نظام الجماعة، والذي قسمه إلى عناصرجعل المرجعية في أول قائمتها، وكذلك ذكر الحوزة العلمية ضمناً في العنصر الثالث الذي اسماه بالمؤسسات، وقد جاء بيانها ص251 من المنهاج الثقافي السياسي الاجتماعي حيث صنف الحوزة العلمية ضمن المؤسسات الثابتة الاصيلة التي شرعها الإسلام وهذا نصه: (وهي ـ مؤسسة الحوزة العلمية ـ تُعد من المؤسسات الثابتة التي نص عليها القرأن الكريم، واهتم بها اهل البيت (عليهم السلام)، وبقيت قائمة ومؤثرة ولها دور اساسي ورئيسي في حركة الامة طيلة قرون عديدة، والتي نعني بها مؤسسة التفقه في الدين، والوصول إلى مرحلة الاجتهاد ومعرفة الحكم الشرعي والموقف العملي لحركة الامة قال تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[1].

ومن الواضح أن الركن الثالث ـ وخاصة المرجعية والحوزة العلمية ـ له الدور الكبير والاساسي في عملية البناء الاجتماعي، فالمرجعية والحوزة العلمية تقومان بحفظ اوبيان او إدارة او تربية او رسم الاركان الاخرى، وهذا إنما يتضح أكثر من خلال معرفة موقع المرجعية ودورها ومسؤولياتها في الامة. وقد ذكر ذلك شهيد المحراب (رضي الله عنه) وهو ما موجود في الجزء الثاني من موسوعة الحوزة العلمية والمرجعية، وسوف نتعرض له في هذا البحث بشئ من الايجاز.

موقع المرجعية

وقد جاء في شرحه (قدس سره) لهذا الموقع ما نصه: (أن المرجعية ـ وفي احد ابعادها ـ تعتبر من حيث الموقع والاهمية المؤسسة الثانية في الرتبة ـ حسب تصور النظرية الاسلامية في تنظيم الجماعة والمجتمع الصالح ـ اي: تأتي بعد مؤسسة الدولة والكيان السياسي الاسلامي، والولاية بمعنى الحكومة الاسلامية، فالدولة تعتبر المؤسسة الاولى، والمرجعية هي المؤسسة الثانية، وعلى اساس هذا الفهم نجد في تراثنا الاسلامي ـ الذي ورثناه عن ائمتنا الاطهار (عليهم السلام) وعن علمائنا الكرام ـ هذه القداسة لهذا الموقع الاسلامي فهي تتولى بصورة اجمالية: موقع الدولة ومهماتها في حال غياب الدولة الاسلامية او الولاية العامة، وكذلك في حال عدم الاعتراف بشرعية الدولة في بعض المجالات، او في ظلها اذا كانت شرعية في الجملة ولكن لملئ الفراغات الخاصة بالجماعة).

وفي بداية بيانه لهذا الموقع ذكر شهيد المحراب (قدس سره) مايلي: (..وضع الائمة (عليهم السلام) نظام المرجعية الدينية او (ولاية الفقيه) فان هذا النظام يتلخص في تنصيب المجتهد من علماء مذهب أهل البيت (عليهم السلام) الجامع للشرائط ـ العلم بالشريعة، العدالة العالية، الصفات الشخصية المناسبة من الخبرة، والشجاعة، ومواساة المؤمنين، والقدوة في السلوك ـ مرجعاً لاتباعهم، وذلك للقيام بالوظائف الاساسية للامامة وهي: (الامامة) لشؤون المسلمين، و(الافتاء) لبيان مفاهيم الرسالة الالهية، وبيان معالم الدين وابلاغها والتبشير والانذار بها، و(القضاء) في موارد النزاع والتداعي والفصل والخصومات.

وفي الاخير يؤكد سماحته بعدها العقائدي بالاضافة إلى موقعها التنظيمي المتقدم في الامة، فيقول: (أن المرجعية تمثل نيابة وامتداد للامامة، التي هي امتداد للنبوة… ولذا جاءت هذه المقولة المعروفة (ولاية الفقيه امتداد لحركة الانبياء).

مسؤوليات المرجعية

ومن خلال بيان موقع المرجعية تتضح المسؤوليات المناطة بالمرجعية، حيث تبين انها امتداد للامامة التي هي امتداد للنبوة، وقد اشار القرأن الكريم إلى مسؤولية الأنبياء والرسل، وبذلك تكون مسؤولية المرجعية هي ذات المسؤولية التي تحملّها الأنبياء، وهي الافتاء، والقضاء، والولاية، وهي ما ذكرها السيد الحكيم (قدس سره) في ص 25 من الجزء الثاني لموسوعة الحوزة العلمية والمرجعية، مبيناً أن الافتاء بمعناه الواسع يشمل: بيان وابلاغ الشريعة الاسلامية بأحكامها ومفاهيمها وعقائدها ونظرتها إلى الكون والحياة والتاريخ والسنن والاخلاق، واستيعاب وابلاغ الرسالات الالهية، وتلاوة ايات الله والمحافظة عليها، وهداية الناس إلى الحق والهدى والصلاح والعقيدة السليمة، واخراج الناس من الظلمات إلى النور.

ولو راجعنا الاركان الستة المتقدمة لبناء الجماعة الصالحة لوجدناها موجودة بأجمعها في قائمة المسؤوليات التي تتحملها المرجعية، فمنها ماهو مذكور بلفظه كالعقيدة والاخلاق والتاريخ، ومنها ماينطوي تحت الهداية والاصلاح والابلاغ وبيان الاحكام والمفاهيم الاسلامية؛ الامر الذي يجعل المرجعية هي الركن الأساس في كل عملية البناء الاجتماعي، اذ بدونها لايمكن أن تأخذ الاركان الاخرى اثرها في الامة، بل ان هذه الاركان تعتمد اعتماداً رئيسياً على المرجعية، من حيث بيان حقيقة هذا الركن او ذاك او من حيث ايصاله إلى الامة سليماً صحيحاً، او من حيث المحافظة عليه.

موقع الحوزة العلمية

لو راجعنا تاريخ الحوزة العلمية لوجدناها قد تأسست منذ زمان أمير المؤمنين (عليه السلام)، ابان خلافته في الكوفة، ثم تطورت في زمان الصادقين (عليهما السلام) واستمرت إلى يومنا هذا، وقد كان لها الاثر البالغ في حركة الامة، ناهيك عن كونها المدرسة التي تخرج منها المراجع العظام في عصر الغيبة، اضافة إلى اعداد كبيرة من العلماء والباحثين والمصلحين والثوار والاساتذة والمبلغين والخطباء والكتاب والشعراء.

وقد تعرض شهيد المحراب (رضي الله عنه) إلى أهمية الحوزة العلمية في موسوعة الحوزة العلمية والمرجعية الجزء الاول ص 22 قائلاً: (انه مشروع الحوزة العلمية ـ المشروع الثاني ـ بعد مشروع الدولة الاسلامية ـ من حيث الاهمية في كل الوجود والتاريخ الاسلامي الذي تمكن أن يحفظ القرآن الكريم والسنة والعلوم الاسلامية، ويحفظ وعي المسلمين وحياتهم وحركتهم).

ثم يستشهد سماحته (قدس سره) على أهمية الحوزة العلمية ودورها في الامة الاسلامية باستمرار واتساع قاعدة اتباع مذهب اهل البيت (عليهم السلام)، رغم عدم وجود دولة خاصة بهم تحفظ لهم خصوصياتهم، وانما كانوا يعيشون ضمن الدولة الاسلامية العامة التي اصابها الكثير من الانحراف والضعف وواجهتها الكثير من الالام، بالاضافة إلى عمليات القمع والمطاردة والمحاصرة التي تعرض لها اتباع المذهب على مر العصور، حيث تمكنت الحوزة العلمية أن تحفظ لجماعة مذهب اهل البيت (عليهم السلام) وجودها، وان تطورها وتوسعها حتى اوصلتها إلى هذا المستوى، بحيث استطاعت هذه الجماعة أن تقيم حكماً اسلامياً في ايران، اضافة إلى الانجازات الكبيرة التي تحققت في بلدان تواجد هذه الجماعة.

ولو رجعنا إلى ماحفظته الحوزة خلال حركتها (القرآن، السنة، العلوم الاسلامية، وعي المسلمين، حياتهم، حركتهم) نجد أن كل اركان البناء الاجتماعي مطوية هذه في الأمور، وبالنتيجة تكون الحوزة اساساً مهماً وحيوياً في البناء الاجتماعي الاسلامي.

ومن الطبيعي أن الحفظ هنا يعني. اولاً: ابعاد كل ماهو غريب او دخيل، اضافة إلى حفظه من النقص، ثانياً: ايصاله إلى الامة وتعليمها وربطها بعقيدتها وخصوصياتها المذهبية ورفع مستوى وعيها، لتتمكن من البقاء والثبات، واّلا كيف توسعت وقويت هذه الجماعة التي كانت محاصرة؟!

وبعد ما تقدم نخلص إلى كون مسؤولية المرجعية والحوزة العلمية هي مسؤولية واحدة وان كانت هذه المهمة تقوم بها بصورة عملية الحوزة العلمية وتلك تقوم بها المرجعية فانما ذلك يعود إلى سلم الدرجات العلمية والقيادية الذي تستتبعه المسؤوليات سعة او ضيقاً ولاشك، خاصة اذا أخذنا بنظر الاعتبار ان الحوزة العلمية هي مؤسسة ترعاها المرجعية من النواحي: العلمية ـ من حيث التدريس، والمنهج، والمدارس ـ والمعيشية نسبياً والتربوية والادارية، فالمرجعية تمثل القيادة الشرعية للمسلمين عموماً بما فيهم الحوزة العلمية، والحوزة العلمية هي المؤسسة الاسلامية الاكثر قرباً والتصاقاً بالمرجعية.

لقد قطعت المرجعية ومعها مؤسستها الاولى (الحوزة العلمية) شوطاً بعيداً عبر أكثر من عشرة قرون اي من غيبة بعد الأمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) عام 329 ﻫ والى يومنا هذا، اثبتت من خلال هذه التجربة الطويلة والصعبة ـ في ظل حكام ظالمين ـ قدرتها على بناء مجتمع اتباع اهل البيت (عليهم السلام) والمحافظة على عقائدهم وولاءاتهم، محققةً انجازات كبيرة وحيوية عبر التاريخ، وقد اشار سماحة السيد الشهيد الحكيم (قدس سره) إلى هذه الانجازات وكما هو موجود في الجزء الثاني من موسوعة الحوزة العلمية ص 44 قائلاً: (وفي بعد آخر نجدها ـ المرجعية الدينية كمؤسسة ـ من الناحية الواقعية العملية افضل مؤسسة تمكنت أن تقدم خدمات كبرى إلى الإسلام والمسلمين بصورة عامة، والى جماعة اهل البيت (عليهم السلام) بصورة خاصة، فلقد تمكنت على مر الدهور من:

1 ـ أن تحافظ على الإسلام الاصيل النقي في عقائده وقيمه ومفاهيمه ومنابعه الاصيلة وذلك من خلال الاعتماد والاخذ من القرآن الكريم واهل البيت (عليهم السلام).

2 ـ وفي الوقت نفسه استمرت في ابقائها باب الاجتهاد المضبوط (هو الاجتهاد الصحيح الذي يكون طبق القواعد والضوابط الاصولية المستنبطة من الكتاب الكريم والسنة النبوية، في مقابل الاجتهاد بالرأي الذي يعتمد الظنون والاستحسان) مفتوحاً، لتواصل هذه الحركة العلمية العظيمة وهذا الانجاز الكبير في المعرفة على قدرتها في معالجة المستجدات في الحياة الانسانية في ضوء الحكم الشرعي والنصوص القرأنية والسنة النبوية.

3 ـ استطاعت المرجعية أن تحافظ على وجود الجماعة الصالحة وحيويتها التي كانت ولازالت تتحمل المسؤوليات العظمى في التاريخ الاسلامي، بل قامت المرجعية الدينية بتنمية وتطوير هذه الجماعة والوصول بها إلى هذا المستوى الراقي في الكم والكيف؛ حتى اصبحت الجماعة الاولى في العالم الاسلامي والمتميزة بين الجماعات التي تتحمل المسؤوليات العظام في هذا العصر.

4 ـ والى جانب ذلك كله تمكنت هذه المرجعية ومؤسساتها من المحافظة على معالم الثقافة الاسلامية الاصيلة ليس على المستوى النظري وفهم هذه الثقافة فحسب، هي بل على المستوى التطبيقي والعملي، وبقاء هذه الثقافة حيّة وفاعلة في اوساط الامة، ولاسيما جماعة اهل البيت (عليهم السلام)، هذه الثقافة المعروفة بثقافة اهل البيت (عليهم السلام) او الثقافة الشيعية، وكانت المحافظة على هذه الثقافة ـ نظرياً وعملياً ـ من أهم الانجازات العظيمة للمرجعية، حيث يتبين ذلك من ملاحظاتنا لعالم هذه الثقافة.

5 ـ مضافاً إلى ذلك كله، الانجاز الذي قامت به المرجعية الدينية الصالحة في المحافظة على مجموع ثقافة اهل البيت (عليهم السلام) بتفاصيلها العقائدية والاخلاقية والشرعية والتاريخية، والتي تمثل انجازاً عظيماً آخر يمكن أن تضيفه إلى الانجازات الكبرى للمرجعية…)

ومن خلال هذه الانجازات الكبيرة والعظيمة التي حققتها المرجعية ومؤسساتها رغم قساوة وصعوبة الظروف التاريخية التي مرت بها يتضح بشكل جلي دور المرجعية ومؤسساتها في بناء المجتمع الاسلامي.

والحمد لله رب العالمين

والصلاة والسلام على نبيه واله الطاهرين..

والسلام على مراجعنا وعلمائنا الافذاذ العظام..

ولاسيما سماحة شهيد المحراب السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره).

[1] التوبة: 122.

اكتب تعليق

كافة الحقوق محفوظة لمؤسسة تراث الشهيد الحكيم، ولا يجوز الاستفادة من المحتويات دون إذن خطي.

الصعود لأعلى