قدرة الحوزة العلمية على القيادة من وجهة نظر شهيد المحراب

motmar3

قدرة الحوزة العلمية على القيادة من وجهة نظر شهيد المحراب

م. د. حسين كاظم الحكيم

كلية العلوم – جامعة الكوفة

عام 2008 م

شارك البحث في المؤتمر الفكري الثالث الذي عقدته مؤسسة تراث الشهيد الحكيم (قدس سره) في النجف الأشرف عام 2008م تحت عنوان: (فكر الشهيد الحكيم ودمه الزاكي يضيئان الطريق أمام وحدة العراق ونهضته العلمية).

مقدمة

بعد انتهاء الحرب الباردة وزوال الخطر الشيوعي أصبح الغرب يعد الإسلام أعظم خطر يداهم ويهدد كيانه وحضارته وهيمنته على العالم؛ إذ يرى – الغرب – أن الإسلام ليس مجرد دين يحدد علاقة الإنسان مع خالقه فحسب، وإنما يحدد أيضا علاقة الإنسان مع الإنسان، ويشمل نظاما يتحدى فيه كافة الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة في العالم[1]. وبذلك حاول – الغرب – زرع اليأس والقنوط في إمكانية تطبيق الإسلام وقدرته على معالجة المشكلات المختلفة التي يواجهها الإنسان في عالمنا اليوم، مستغلين إلى ابعد الحدود حالة الانحطاط التي شهدتها الدولة الإسلامية في أواخر حياتها من ناحية، والأمة الإسلامية من ناحية أخرى[2].

 وقد تطرق السيد الشهيد الحكيم (رحمه الله) إلى جملة من الأمور التي من شأنها لو اعتمدت – مستلهمة التجارب السابقة بنجاحاتها وإخفاقاتها – أن تكون أساساً لبناء دولة كريمة تعز الإسلام وأهله، وذلك في كل كتبه القيمة، والتي اعتمدنا في بحثنا هذا على معظمها كمصادر لإخراج صورة أهل العلم والقدوة الصالحة وصفات القيادة السياسية التي من الممكن أن تقود الجماهير، مقدمين لذلك بقدرة الإسلام على مواجهة التحديات والمستجدات، وبأنه دين الحياة، وخاتمين بحثنا بأمثلة عن بعض علمائنا الإعلام الذين كان لهم شرف التصدي لقيادة الجماهير في الساعات الحالكة التي مرت على شيعة أهل البيت (عليهم السلام) مضحين بذلك بالغالي والنفيس من اجل إعلاء كلمة الإسلام وقيام دولة العدل الإلهي على هذه الأرض الخصبة بالعتبات المقدسة وبالعلماء الإعلام.

يقول السيد الشهيد الحكيم (رحمه الله): (إن البشرية الآن تتطلع إلى المنقذ المتمثل بالإسلام، وهذه حقيقة يجب أن ننظر إليها من خلال موضوع العلم ودوره ودور الحوزات العلمية التي تميزت بالعلم الأصيل النقي المتمثل بعلم أهل البيت (عليهم السلام) الذي هو العلم الحقيقي للإسلام.

 إن بعض المنخرطين في الحوزات ينظرون إليها من ناحية البعد العلمي فقط مع أنها تمثل المشروع الأساس في هذه الجماعة الصالحة والمسلمين والذي يمكن أن يهدي البشرية)[3].

قدرة الإسلام على أن يكون دين الحياة

إن قول قصيري النظر بان الإسلام غير قادر على مواجهة المستجدات والمتغيرات، يرد عليه السيد الشهيد الحكيم (رحمه الله) بجملة أمور يصف فيها الدين الإسلامي الحنيف وقدرته على قيادة وسياسة المجتمعات والأفراد من خلال الآتي:

1 – يؤمن الإسلام بوجود الغرائز والنوازع لدى الإنسان كما يدل على ذلك قوله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ)[4].

إذاً، فهذه الغرائز قائمة في نفس الإنسان، وهي تزيين الهي جعل في نفس الإنسان وفي وجوده وتكوينه. لم تتغير فيه نتيجة لعلاقات اجتماعية أو أوضاع طارئة على حياته ليمكن إلقائها أو حذفها من حياته وعلاقته.

فبالإضافة إلى التزيين التكويني المذكور جاء التشريع الإسلامي
– أيضا – ليؤكد هذه الحقيقة فقال سبحانه وتعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ)[5] [6]. بينما نرى أن بعض المدارس المسيحية قد اتجهت إلى إلغاء بعض الغرائز في نفس الإنسان، واعتمدت على مسألة الرهبنة التي رفضها الإسلام.

2 – مساحة الإباحة التي ترك فيها للإنسان الاختيار بما يناسب مصالحه ورغباته وميوله، وهي مساحة واسعة في التشريع الإسلامي، ويمكن للأمة أن تتدخل في تنظيمها بما يلائم كل عصر وزمان ويحقق المعاصرة[7].

3 – تكامل الرسالة، إن الرسالة الإسلامية هي الرسالة الخاتمة التي تمثل حالة التكامل في الديانات السماوية، فلا يمكن أن تتعرض إلى النسخ أو التغيير بعد وصولها إلى هذه الدرجة من التكامل، ومن هذا المنطق كانت القاعدة المسلمة الذي دل عليها الحديث النبوي الشريف: «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة»[8].

4 – وحدة الأمة الإسلامية، وهي قضية ذات أهمية خاصة ليست على مستوى تكامل هذه الأمة وقدرتها على أداء دورها في الحياة وتحملها لمسؤولية الرسالة الخاتمة فحسب، بل على مستوى قدرتها على مواجهة الأخطار التي تحيق بها من كل جانب بعد هذا التحول العالمي في هذا العصر، وكذلك على مستوى إدارتها للصراع الحضاري.

 يعترض قضية الوحدة الإسلامية أمران:

الأول: الاختلاف في فهم الإسلام.

الثاني: التخلف الروحي والأخلاقي والمعنوي في أوساط الأمة، ولاسيما عندما يمتد هذا المرض الحضاري إلى أوساط العلماء والأمراء فتظهر آثاره في التعصب والحقد والبغضاء والانشغال بالهموم الصغيرة وترك الكبيرة.

لذلك تحتاج الأمة إلى حركة سياسية وحركة روحية وأخلاقية واسعة، يسميها السيد الشهيد (رحمه الله) بحركة التزكية والتطهير، وذلك بإحياء قيم الإسلامية والأخلاق الإلهية عن طريق الوعظ والإرشاد والتربية والتزكية والقدوة الصالحة[9].

ومن اقدر من العلماء والمراجع الصالحين على توجيه الناس لتلبية هذه الشروط وإعادة توحيد الأمة الإسلامية وإزالة الغل من الصدور وإحياء حب المسلمين في قلوب كل المسلمين ومن كل المذاهب لكل المذاهب؟!

5 – الإيمان بالنصر الإلهي، إذا اجتمع الصبر والإرادة العالميان يتحقق الوعد الإلهي بالنصر وتتحقق الأهداف والغايات التي يسعى الإنسان نحوها، وعند التدبر في القران الكريم نجد أن هناك عاملين رئيسيين إذا توفرا تمكن الإنسان من الوصول إلى أهدافه:

الأول: العامل البشري، وهو ما يرتبط بالإنسان ذاته إذا بذل كل طاقاته وقدراته المادية والعقلية والروحية عن رضا وقناعة.

 فليس للإنسان أن يترك مهمة الإعداد على الله تعالى انتظاراً لنصره فالآية الكريمة تقول: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ)[10] مشيرة إلى ضرورة الإعداد للنصر بكل الوسائل التي يستطيعها الإنسان.

الثاني: العامل الرباني للنصر، والذي يأتي مسانداً للإنسان المؤمن الذي يهيئ كل مستلزمات النصر، ومعركة بدر خير شاهد على ذلك[11].

6 – إيمان الإسلام بالحرية ضمن محاور:

أولها: تحرير إرادة الأمة من الهيمنة الأجنبية والتسلط الخارجي ألاستكباري، فلا يتم الانتخاب تحت هذه الهيمنة والتسلط لأنه في هذه الحالة لا يمكن أن تعبر الأمة عن إرادتها بصورة طبيعية. وابرز مثال على ذلك هو قيام علماء الإسلام بتحريم الانتخابات ومقاطعتها التي جرت بعد تنصيب الانكليز للملك فيصل الأول ملكاً على العراق، لأنها تجري تحت الحكم الأجنبي وبإرادته دون ضمانات لنزاهتها.

ثانيها: يجب أن لا تتحول الحرية إلى حالة الصراع والاحتكاك والاصطدام مؤدية إلى تقسيم المجتمع وتفككه؛ لان الوحدة الاجتماعية مبدأ من مبادئ فكر الإسلام على خلاف التعددية والتفرق التي هي مبدأ من مبادئ الفكر الغربي. فتصبح حدود الحرية هي الحدود التي تضمن عدم تفرق وتمزق الأمة. كما أن الحرية يجب أن تكون ضمن الحدود الشرعية التي يعبر عنها شهيد المحراب (رحمه الله) بالتقوى السياسية، فلا تكون سبباً لهتك إنسان مؤمن أو جماعة مؤمنة، ولا يكون فيها ضرر بالمصالح الإسلامية، بحيث تعطي للأعداء ذرائع وحججاً وإمكانيات تستخدم ضد الجماعة المسلمة[12].

فالحرية التي أعطيت للإنسان لا تسمح له بالتعدي على حرية الآخرين والإضرار بهم تحت هذا الشعار، فيمنعهم من القيام بإعمالهم بصورة طبيعية أو يقوم باغتصاب أموالهم أو أماكنهم أو مواقعهم أو مضايقتهم في ذلك[13].

7 – الإسلام ضمانة للتوازن الاجتماعي، يقول السيد الشهيد (رحمه الله): إن الإسلام استخدم عاملين مهمين يتناسقان مع التزاماته المذهبية السابقة في الملكية ومستوى المعيشة:

العامل الأول: إلزام الأقوياء والمتميزين من أصحاب الثروات بعدم الإسراف والتبذير في حياتهم، بل يحث ويرغب الأفراد أيضا على الزهد والتقشف والاقتصاد النسبي في الممارسات اليومية.

العامل الثاني: الضغط باتجاه الارتفاع بالضعفاء والمساكين إلى حد المعقول من المعيشة بشكل يتناسب مع الوضع الاجتماعي العام للجماعة، مع إعطاء مفهوم الغنى مضمونا واسعا، ووضع مجموعة سياسات ذات مضمون أخلاقي لإلغاء الفجوة بين الفقراء والأغنياء، مثل: سياسة الوقف، وسياسة منع الاكتناز التي تحول المال إلى السوق والتداول، كذلك قانون الإرث الذي يوزع الثروة بشكل طبيعي، وكذلك الخمس والزكاة وباقي الصدقات[14].

8 – إمكانية دخول العلماء إلى مجال تطبيق العمل السياسي، حيث يعبر شهيد المحراب (رحمه الله) عن الحركة السياسية بأنها حركة إلهية ربانية إسلامية يراد منها إبلاغ الرسالات، وهي أفضل عمل عند الله يمكن أن يقوم به الإنسان عندما يكون ضمن الضوابط والالتزامات الشرعية التي وضعها الله سبحانه، وقد جسد ذلك بأفضل وأتم صورة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولنا أسوة به (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذلك جسّده أمير المؤمنين والأئمة من بعده[15].

الحوزة العلمية

وهي المدرسة العلمية العظيمة التي انطلق منها العلم ولازال يشع إلى العالم الإسلامي، وخصوصاً مدرسة الكوفة. وقد تطورت هذه المؤسسة العلمية على يد الإمامين الصادقين الباقر والصادق (عليهما السلام) التي بلغت فيها الحوزة الدينية الشريفة مرحلة الرشد[16] [17]. حتى يقول المحدث: إني أدركت في هذا المسجد تسعمائة شيخ كلُّ يقول حدثني جعفر بن محمد[18]. ثم انتقلت إلى بغداد عندما تحولت إلى مركز وعاصمة للدولة الإسلامية، وبعدها انتقلت إلى النجف الأشرف في عهد الشيخ الطوسي، ثم الحلة فكربلاء، وبعدها عادت إلى النجف في عهد السيد بحر العلوم (قدس سره) واستمرت إلى يومنا هذا تقوم بدورها العظيم ومسؤولياتها الجسام.

 وما يلفت النظر في الحركة العلمية في العراق هو صمودها حتى في اشد الظروف القاسية التي واجهها أتباع أهل البيت (عليهم السلام) وواجهها الإسلام في العراق، مثل ظروف اجتياح التتر الوحشي وقيامهم بتدمير كل شيء في العراق، ومع ذلك بقيت هذه المدرسة قادرة على الاستمرار والعطاء بسبب وجود هذه الحركة العلمية الصلبة وهذه الثوابت، وفي العصر الحديث نجد صمودها وبقائها في ظل الحكومات المتتالية والمعادية للحوزة العلمية، بل أصبحت الحكومات تخاف وتخشى من الحوزة العلمية في مرجعية الإمام السيد محسن الحكيم (رحمه الله). وما محاربة صدام لرموز المرجعية وملاحقتهم سجناً وقتلاً وتهجيراً إلا دليل على قوتهم وقدرتهم في التأثير على الجماهير وهو ما يخشاه الطغاة.

خصائص الحوزة العلمية

إن من أهم خصائص الحوزة العلمية – كما يلخصها السيد الشهيد الحكيم (رحمه الله) – هي:

أولاً: عالمية الحوزة، فهي ذات خصائص تتجاوز البعد الوطني والقومي، حيث إنها إسلامية خالصة ذات إطار عالمي من مختلف الجنسيات، كما وتجاوزت الأطر القومية التي تتمسك بها بعض الأحزاب العلمانية في معظم الدول.

ثانياً: الحالة التطوعية، حيث إنها ليست مجرد ارتباط بمهنة أو حرفة، بل هي روح رسالية يتولد لدى أصحابها شعور بالمسؤولية من اجل أداء الوظيفة الشرعية[19].

ثالثاً: العلم، فهي منبع العلم وضابط الاجتهاد، وهي حوزة علمية أولاً؛ لان الارجحية لأهل العلم ثابتة في الكتاب والسنة، ولا تحتاج إلى شرح أو توضيح.

رابعاً: التقوى، كذلك تمتاز الحوزة باهتمامها بترشيح شخصيات ذات مستوى عال من التقوى والأخلاق.

خامساً: الاستقلال، وهذا أمر نادر في المؤسسات العلمية والدينية، حيث لا تستطيع الدولة أن تؤثر على الحوزة أو تفرض عليها أموراً كما يحصل في بعض الحواضر العلمية أو عند بعض وعاظ السلاطين[20]، فالحوزة العلمية إذا انفتحت على مشاكل الأمة وقدمت الحل الصحيح لها يمكن حينئذ أن تقوم بدورها الحقيقي.

فنعتقد أن النظام الإسلامي كشرائع وأحكام هو شامل لكل نواحي الحياة، وان واجب العلماء هو إيضاح ذلك والدعوة إلى تطبيق الحكم الشرعي للمسائل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية، وعند توفر الأرضية المناسبة من جماهير مؤمنة قادرة على تطبيق أحكام المراجع عن إيمان ويقين واطمئنان.

موقع الحوزة من الحركة السياسية

إن الحركة السياسية تعتمد في عقيدتها على فكرة الإمامة، والحوزة العلمية تمثل امتداداً لهذه الفكرة، فالإمامة هي للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين، والفقهاء يعتبرون نواباً عامين لهؤلاء الأئمة في زمن الغيبة، والحوزة العلمية تمثل المؤسسة التي يولد منها هؤلاء النواب، وتمثل في الوقت نفسه الذراع التي يتحرك من خلالها النواب في الأمة والمجتمع.

فالحوزة العلمية تمثل الجذر التأريخي للحركة السياسية الإسلامية، وهي الفئة التي تتفقه في الدين إسنادا للجماعة التي تقوم بالجهاد، فهي موجهة لهم يأتمرون بأمرها في الأمور التشريعية والمستحدثات، بالإضافة إلى البعد الروحي للعلماء وأئمة المسلمين.

فالسيد الشهيد الحكيم (رحمه الله) يشترط في العمل السياسي أن يكون تحت إشراف المرجعية السياسية، بمعنى أن يكون هناك إشراف للولاية على العمل السياسي حتى يكون عملاً شرعياً. وعندما يختار الإنسان القائد تجب عليه الطاعة، واختيار القائد عملية اكتشاف وليس اختياراً بمعنى انه يريد أو لا يريد[21].

 نعم، الاختيار في المفهوم الإسلامي عملية اكتشاف للقائد، فيجب على المكلف أن يفحص عن هذا القائد الذي فيه هذه الصلاحيات، وعندما يجد هذه الصلاحيات يجب أن يطيعه لأنه «من مات ولا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية»[22]. فإذا فحص ولم يتمكن من الوصول للقائد، فعليه أن يحتاط في العمل.

ويشدد شهيد المحراب (رحمه الله) على أنه في العمل السياسي إذا وجد الإنسان قائداً صحيحاً فيجب أن ينقاد إليه، وان لم يجد فعليه من الآن أن يبحث ويسعى أن يكون هو القائد أو يحتاط[23].

فيوجد أمران في التقليد: تشخيص الفتوى والحكم، وتطبيق الحكم على مصاديقه الخارجية، فما دام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبا، ومادام الوقوف في مقابل الكفر والدفاع عن الإسلام واجبا، فهذا يحتاج إلى تشخيص، كما يحتاج إلى شخص عنده قدرة على أن يشخص الواقع ويحدد الموقف تجاه الوضع الفعلي على ضوء الشريعة الإسلامية، فعلى ضوء تلك الأحكام يشخص الرواية الفعلية للمسائل هل نتعامل مع هذه الجهة أم لا؟ وما هو الموقف من النظام الأمريكي أو الروسي الآن؟ وما هو موقف المنطقة والنظام تجاه الأحداث؟ ثم يقول بعد ذلك: افعلوا أو لا تفعلوا. شاركوا في صلاة الجماعة أو لا تشاركوا.

إن هويتنا السياسية كما يصفها شهيد المحراب (رحمه الله) التي يمثلها محور الولاء هي الحوزة العلمية، فهذه الحركة السياسية لها هذه الرؤية الولائية لله ولرسوله ولأهل البيت (عليهم السلام) وبعدهم مراجعنا العظام، وهي الحركة السياسية الصحيحة التي نعتقد بها.

وهذه الحركة – السياسية – كانت حصيلة وجهد مراجع تصدوا في ساحتنا الإسلامية، فكان لهم شأن عظيم وأصبحوا موضع اعتراف مطلق من قبل أوساط الحوزة العلمية، وسنتناول في فقرات لاحقة أمثلة لهؤلاء المراجع العاملين.

مواصفات المرجعية الصالحة

يلخص شهيد المحراب (رحمه الله) صفات المرجع الذي يوصف بأنه من أهل العلم بما يلي:

1 – أن يكون على علم بمستوى تناول القرآن الكريم والسنة النبوية تناولاً كاملاً في جميع الإطراف، ويستنبط من خلال ذلك الحكم الشرعي، وهذا هو الذي يسمى بالمجتهد المطلق، وإذا تعدد يجب الرجوع إلى الأعلم.

2 – أن يكون عادلا ومتقيا، وعلى مستوى عال منهما.

3 – أن يكون خبيراً بشؤون المجتمع وقضاياه، حتى يتمكن من تطبيق العناوين والأحكام الشرعية على موضوعاتها الخارجية تطبيقا صحيحا يمكن للإنسان أن يأخذ منه.

4 – أن يكون على بصيرة من أمرهأي: واعياً ومدركاً ليتمكن من الوصول إلى الحقيقة والمصاديق الصحيحة لهذه العناوين[24].

نماذج لصورة المرجعية والقدوة الصالحة

النموذج الأول: عن حمران بن أعين عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «كان علي بن الحسين (عليه السلام) قاعداً في بيته إذ قرع قوم عليهم الباب فقال: يا جارية انظري من بالباب؟ فقالت قوم من شيعتك، فوثب عجلاً حتى كاد أن يقع فلما فتح الباب ونظر إليهم رجع فقال: كذبوا فأين السمت في الوجوه؟ أين أثر العبادة؟ أين سيماء السجود؟ إنما شيعتنا يعرفون بعبادتهم وشعثهم، قد قرحت العبادة منهم الأنوف، ودثرت الجباه والمساجد، خمص البطون، ذبل الشفاه، قد هيجت العبادة وجوههم، واخلق سهر الليالي وقطع الحواجر جثثهم، المسبحون إذا سكت الناس، والمصلون إذا نام الناس، والمحزونون إذا فرح الناس، يعرفون بالزهد، كلامهم الرحمة، وتشاغلهم بالجنة»[25].

النموذج الثاني: عن أبي بصير قال: «قال الصادق (عليه السلام): شيعتنا أهل الورع والاجتهاد، وأهل الوفاء والأمانة، وأهل الزهد والعبادة، أصحاب إحدى وخمسين ركعة في اليوم والليلة، القائمون بالليل، الصائمون بالنهار، يزكون أموالهم، ويحجون البيت، ويجتنبون كل محرم»[26].

النموذج الثالث: عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال: يا جابر، إنما شيعة علي (عليه السلام) من لا يعدو صوته سمعه ولا شحنائه بدنه، لا يمرح لنا قاليا، ولا يواصل لنا مبغضا، ولا يجالس لنا عائباًإلى آخر الحديث» وهو قول الله (عزّ وجل): (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) [27].

صفات الشخصيات القيادية الإسلامية

1 – الالتزام الديني: الالتزام على مستوى الواجبات والحقوق والمحرمات الشرعية والعرفية، والتي فصلها شهيد المحراب (رحمه الله) في كتابه دور أهل البيت (عليهم السلام) في بناء الجماعة الصالحة[28] بما يضمن توفر العدالة في التصرف[29].

2 – ضبط العواطف والانفعالات: وهذا من ضمن مواضيع جهاد النفس، وكذلك ضمن موضوع أحكام المعاشرة أيضا، فيجب أن يكون القائد ملتزماً ومثالاً يحتذى به من قبل المؤمنين، فهو صبور على الطاعة، وصبور على المعصية، عفيفاً، حليماً، رفيقاً (متعاملاً باللين مع المؤمنين) متواضعاً، ذو نية حسنة، وسريرة صالحة.

وفي نفس الوقت يكون بعيداً عن حب الرئاسة، غير متأثر بالعصبية في علاقاته الاجتماعية، حسن الصحبة، وليس طماعاً أو كسولاً أو سفيهاً، سكوتاً إلا عن الخير، كاظماً للغيظ، عادلاً، وباختصار يكون جامعاً لكل مكارم الأخلاق متعبداً لكي يصبح القدوة الحسنة لجماهيره التي يتصدى لقيادتها[30].

3 – العفو والصفح: من حق المؤمن الدفاع عن نفسه والاقتصاص ممن اعتدى عليه، وبالتالي يجوز له الانتصار لنفسه، ولكن الله تعالى حبب للمؤمن العفو والصفح والتنازل عن الحق الشخصي في مقابل أخيه المسلم، فالعفو صفة من صفات المتقين كما هي نوع من أنواع الإحسان[31] والشخصية القيادية شخصية متسامحة مع من أخطأ بحقها عن غير قصد، وتتجاوز عن المسيئين، لكنها في ذات الوقت صارمة وحازمة عندما يتعرض الدين أو المذهب أو البلد أو أهله للعدوان.

4 – الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: عموما تناول هذا الموضوع شهيد المحراب (رحمه الله) بتفصيل واسع ورائع في كافة مؤلفاته، ومنها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكتاب دور أهل البيت (عليهم السلام) في بناء الجماعة الصالحة.

5 – التضحية: الاستعداد للتضحية بالنفس والمال والقدرة على تعبئة الجماهير حينما يصبح الواجب الشرعي هو الجهاد والمرابطة على الثغور[32].

6 – العلم: لابد أن يكون المرجع الأعلم بين المجتهدين في موارد الخلاف عند تعددهم. وقادرا على تشخيص الموقف الإسلامي الشرعي السياسي في إطار الحكم الشرعي المستنبط من الكتاب والسنة[33] يقول السيد شهيد المحراب (رحمه الله): في ساحتنا الإسلامية العراقية وجدنا أن المتصدين الرئيسيين الأكثر تضحية وشجاعة ووعياً هم علماء الدين الذين قادوا المسيرة وفجروا الثورة وتبعهم في هذا العمل الرسالي النخبة الصالحة من أبناء الإسلام والحركة الإسلامية وجمهور المؤمنين من أبناء الشعب العراقي[34].

7 – الخبرة في العمل الاجتماعي: وهو ما يسمى بحسن التدبير، فلابد أن يكون مهيأ ليرجع إليه الناس في حركتهم اليومية[35].

8 – التصدي، أي: التصدي للمرجعية السياسية عن طريق الإعلان بالاستعداد والتسلم لواجبات المرجعية السياسية[36].

9 – الارتباط السياسي العام بمسيرة الولاية العامة للمسلمين[37].

واجبات المرجعية السياسية

1 – الوقوف بوجه البغي: يلحق شهيد المحراب (رحمه الله) رأي الإسلام بمقاومة البغي بأنها تتم بالمراحل التالية[38]:

أ) إقامة الحجة على الباغي.

ب) محاولة الإصلاح، فلابد من القيام بجهد اجتماعي وسياسي من اجل إصلاح النزاع المتسم بالبغي والعدوان.

ج) مقاومة البغي بالقوة، ويمثل المرحلة الأخيرة سواء كانت هذه القوة للدفاع عن النفس أم مقاتلة الباغين. ففي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): «ذكرت الروايات عن علي (عليه السلام) فقال: إن خرجوا على إمام عادل أو جماعة فقاتلوهم، وان خرجوا على إمام جائر فلا تقاتلوهم فان لهم في ذلك مقالا»[39].

2 – استنباط الأحكام الشرعية للأمة الإسلامية: على المكلفين اخذ العلم من أهله الذين يشير إليهم سبحانه وتعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)[40] وهم في عصرنا مراجع الدين الذين أوكل إليهم صاحب الأمر، في الأخذ عنهم «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فأنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله»[41].

3 – إنشاء المؤسسات: على المرجعية أن تعمل على إيجاد مؤسسات وتجمعات وكتل صالحة، قادرة على ملاحقة المنكرات الجماعية، كالرشوة، ومعاونة الظالمين والجائرين، واستغلال المناصب والمواقع لذوي النفوذ والقدرة لإغراضهم الشخصية أو العشائرية أو المحلية أو الغربية أو الفئوية، ومحاربة البوح والإفتاء بغير علم.

4 – الحق والعدل: قيام الموقف الإسلامي والسياسة الإسلامية والحكم الإسلامي على قضية (الحق والعدل) فما يكون حقاً وما يكون عدلاً يكون هو الحاكم في نظر الإسلام حتى لو كان هذا الحق مما ينكره الناس ولا يرغبون به.

 فالحق والعدل واحد وليس متعدداً وهو ليس بعيداً عن مصالح الناس وإنما يتطابق دائما مع مصالحهم كما هو في النظرية الإسلامية التي يتبناها أهل البيت (عليهم السلام).

5 – الانفتاح على الدول الإسلامية: الانفتاح الحقيقي للدولة الإسلامية على أطراف الأمة الإسلامية في قومياتها وجغرافيتها ومن أعراقها ومختلف اتجاهاتها، فشيعة أهل البيت (عليهم السلام) هم دعاة الوحدة الإسلامية ونبذ الفرقة والتشت[42].

6 – تربية الأمة وتزكيتها: تقويم الأمة وتربيتها وتزكيتها في مسيرتها، وقد ثبتت النظرية الإسلامية دوراً متميزاً لولي الأمر والدولة (الإمام ونائبه) في إعطائهم هذا الحق بحيث لا يلغي أصل المهمة التي يتحملها الإنسان في خلقته أو يعطل قانون الامتحان والاختبار والمسؤولية.

7 – الشعائر الإلهية: تعظيم شعائر الله وضمان قيام الجماهير بشعائرهم بكل حرية وبتوجيه ديني، يراقب الشعائر وينصح ويوجه العاملين عليها للارتقاء بها نحو مستوى العصر مع الالتزام بالآداب العامة الموجودة فيها، وبذلك تنعكس الشعائر الحسينية للعالم اجمع بشكلها اللائق.

8 – ترجمة الحكم إلى واقع: تحويل الحكم الشرعي إلى موقف عملي، وهو قرار مهم جداً في حركة الأمم، فمن ينفذ الفتوى ومن يقوم بتحويلها إلى واقع[43].

9 – الوحدة الإسلامية: الدعوة الحثيثة لتحقيق الوحدة بين المسلمين، وأهم أساليبه هو وضع أسس وأساليب التعايش الاجتماعي بينهم على اختلاف قومياتهم وشرائحهم ومذاهبهم واتجاهاتهم السياسية والمذهبية والعقائدية[44].

أمثلة لشخصيات سياسية مرجعية

1 – السيد محسن الحكيم (رحمه الله)

أ – كان له موقف واضح ضد تأسيس العلاقات بين النظام الشاه والكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة.

ب – احتجاجه الواضح على قيام نظام عبد الناصر بإعدام السيد قطب ورفاقه[45].

ج – الجمع بين التوجه الفقهي العلمي كالتأليف وبناء المدارس الدينية والمكتبات العامة، وبين قيادة الجماهير واللقاءات السياسية والفتاوى ذات الطابع الديني والسياسي.

د – رفض الإمام الحكيم الممارسات الوحشية التي تمارس من قبل البعثيين ضد أبناء العراق، فبعد قيام النظام عام 1968 شن حملة اعتقالات واسعة استهدفت شخصيات علمية واجتماعية وعسكرية بارزة بعضها قريب من المرجعية، فاستدعى الإمام الحكيم (رحمه الله) محافظ كربلاء وأوضح له استياءه من هذه الإجراءات، موضحا له خطورة ما تقوم به الحكومة، كما طالب بإطلاق سراح المعتقلين وخصوصاً العلامة السيد حسن الشيرازي (رحمه الله)[46].

ﻫ – لقد أوضح السيد الحكيم للحكومة آنذاك بأنه مدافع عن حقوق المسلمين وحمايتهم من تعسف الموظفين والمسؤولين وليس طامعا بالحكم وإنما حامي لحقوق المسلمين في مقابل تجاوزات السلطة على حقوقهم[47].

و – استطاع الإمام الحكيم أن يجعل من سلوكه وتصرفاته وأحكامه قدوة صالحة، خصوصاً لأبنائه وأهل بيته ونفسه في سبيل الإسلام وفي سبيل نهضة هذا الشعب العراقي مما جعل لهذه الأسرة قاعدة شعبية واسعة بين صفوف أبناء العراق خصوصاً وشيعة أهل البيت (عليهم السلام) عموما.

ز – موقف الإمام الحكيم من الحركات الإلحادية الكافرة وتصديه لأفكارهم المنحرفة.

ح – موقفه الشجاع في رفض إعلان الجهاد على الأكراد أيام عبد السلام عارف، معتبراً أن الأكراد مسلمون بجملتهم ولا يجوز إعطاء فتوى ضدهم لأنه إبادة لشعب مسلم.

ط – امتنع الإمام الحكيم عن استقبال الملك وعبد الكريم قاسم[48] بينما يستقبل قادة الحزب الإسلامي الذي أسسه مجموعة من شباب أهل السنة وامتنعت حكومة عبد الكريم قاسم من إجازته بعد أن أجازت مجموعة من الأحزاب السياسية منها الحزب الشيوعي مثلاً، ويقدم الإمام الحكيم توجيهاته إلى قادة الحزب ويدعم فكرة هذا النوع من الأعمال[49].

وهذه صورة رائعة ودليل على قوة المرجعية وصلابتها وشجاعتها.

2 – الشهيد محمد باقر الصدر (رحمه الله)

ابتدأ السيد الشهيد الصدر (رحمه الله) عمله السياسي ضمن إطار المرجعية الدينية الرشيدة، حيث وطد علاقته بمرجعية الإمام الحكيم، وظهر ذلك واضحا في نهاية سنة 1380ﻫ عند وفاة الإمام البروجردي واستلام الإمام الحكيم لزمام المرجعية المطلقة، حيث أصبح الشهيد الصدر مساهما في شتى النشاطات السياسية والحوزوية العامة التي تمارسها مرجعية الإمام الحكيم مثل: كتابة نص الخطاب الذي القي في الصحن الحيدري في 27 صفر 1389ﻫ والذي حدد فيه الإمام الحكيم موقفه من الأوضاع السياسية[50]، وكذلك نص المذكرة التي أريد تقديمها إلى حكومة انقلاب 17 تموز في الأيام الأولى، وكذلك سفره إلى لبنان لمتابعة قضية محنة المرجعية بعد قيام حكومة العفالقة بالنيل من السيد الشهيد مهدي الحكيم عام 1969م وقيامه بحملة سياسية وإعلامية واسعة وتضحيته من اجلها، كذلك دعم وتطوير تحرك آية الله السيد موسى الصدر في لبنان. وكذلك موقف الشهيد الصدر من أزمة إخراج آية الله السيد إسماعيل الصدر من الكاظمية حيث اهتم السيد الشهيد بالمواجهة مع النظام، وثارت العشائر العراقية في الكثير من المناطق تأييدا ودعما للمرجعية[51].

* قام الشهيد الصدر كذلك بالانفتاح على الأوساط الشعبية كخطوة أخرى في هذا المجال، حيث أخذ يسافر باستمرار إلى الكاظمية ويلتقي الأوساط الشعبية والاجتماعية هناك بشكل واسع ومفتوح.

* كما أنشئ الشهيد الصدر في جهازه الخاص مجلسا للاستشارة أراد له أن يكون بذرة مجلس استشاري يكون ضمن جهاز المرجعية، وقد كان المجلس رغم اختلاف أعضائه إلا أنهم كانوا يشتركون في الإيمان بمرجعية الشهيد الصدر، بالإضافة إلى انتمائهم جميعا إلى الوسط العلمي والحوزوي[52] كما رتب الشهيد موضوع الاحتجاج وإرسال البرقيات إلى نظام البكر احتجاجا على قرار التسفير للأجانب من رجالات الحوزة العلمية وأكد على مطالبته بإيقاف التسفيرات.

* إن للإمام الصدر دوراً في حماية الشعائر الحسينية والتهيؤ لمواجهة التوقعات التي كانت تشير إلى إقدام حزب البعث العفلقي على تحجيم واحتواء المواكب الحسينية في الأربعينية، حيث قام الشهيد الصدر بتوعية اصطحاب المواكب وإلفاتهم إلى هذه المؤامرة الدنيئة ضد الشعائر الحسينية، والتي تطورت الأحداث بعد ذلك إلى انتفاضة صفر المحدودة عام 1396ﻫ وانتفاضة صفر الدموية الأخرى سنة 1397ﻫ والأحداث المؤلمة التي رافقتها[53].

* اصدر الإمام الصدر بيانا يؤيد فيه قيام الثورة الإسلامية في إيران وتعطيل الدراسة في الحوزة العلمية أيام انتصارها وتشجيع طلابه بالإعداد لتظاهرة تأييدا للثورة في النجف الأشرف، وقد خرجت هذه التظاهرة بالفعل – ولأول مرة – وواجهت عملية مطاردة من السلطة العفلقية[54].

* أقام مجلس الفاتحة لآية الله الشهيد مطهري رئيس مجلس قيادة الثورة الإسلامية، حيث فسرت السلطة هذا الموقف على أنه تأييد وبداية للتعاون مع الثورة الإسلامية الإيرانية[55].

* اصدر توجيهه بتأسيس حركة التحرر الإسلامي في لندن من اجل طرح القضية الإسلامية على صعيد المجتمع الدولي.

* كان النظام العفلقي يرى أمامه التجربة الإسلامية في إيران ونتائجها، خصوصا وانه أدرك الترابط العقائدي والعناصر الثابتة بين هذا التحرك للشهيد الصدر وتحرك الثورة الإسلامية في إيران. فقامت السلطة باعتقال السيد الصدر في 16 رجب 1399ﻫ وانفجر الوضع على اثر ذلك بتظاهرة في النجف، بعد أن خرجت الشهيدة بنت الهدى تعلن عن اعتقال أخيها وتستنهض الأمة، وأخرى في مدينة الثورة والكاظمية وأماكن أخرى من العراق، ووقعت مصادمات مع رجال الأمن فأطلق سراح الشهيد الصدر في اليوم الثاني وتم احتجازه في بيته. وبعد مجيء نظام صدام الأكثر دموية اتخذ قراره بالتعامل الوحشي ضد الإسلاميين في العراق[56]. فأخذ الشهيد الصدر يخطط لما بعد شهادته من تشكيل قيادة نائبة له تقوم بدورها بعده في قيادة التحرك الإسلامي من ضمن أمور أخرى، وقد حصل ما توقعه واستشهد على يد نظام المجرم صدام وشاء القدر أن يسقط نظام صدام في اليوم الذي اغتيل فيه هذا المرجع الشهيد.

3 – الإمام الخوئي (رحمه الله)

يصف السيد الحكيم حركة الإمام الخوئي (رحمه الله) الإصلاحية إلى حد كبير بمواصفات حركة السيد البروجردي، مع ملاحظة أن الإمام الخوئي كان قد ساعد أو شارك في البداية مع بقية علماء النجف في مواقفهم السياسية ضد الشيوعية وفي الحركة الإصلاحية العامة في العراق ومع الحركة الإصلاحية التي قادها الإمام الخميني من إيران، لكن توقف عن ذلك في مرحلة متأخرة.

ثم شارك بشكل فاعل في حل فراغ السلطة أبان انتفاضة شعبان 1411ﻫ حتى تم اعتقاله وإجباره على المثول أمام الطاغية صدام إلى آخر ما جرى من أحداث، ولكنه تراجع بعد ذلك.

ويفسر ذلك بان السيد الخوئي له رؤية خاصة من موضوع التشخيص للوضع السياسي الخارجي[57].

وأضيف لذلك بان تلك الفترة أي: انتفاضة شعبان 1411ﻫ كانت اختبارا فعليا لطاعة الجماهير لمراجعها، فقد ظهرت كل الأمور بشكل واضح، وامتحن المؤمنون بها ما بين مطيع للحوزة وما بين خائف أو منافق يترقب انجلاء الموقف لأحد الفريقين طغمة صدام المجرمة والشعب الثائر الذي تآمر عليه صدام والأمريكان بنظرة طائفية لا ترى في الشيعة إلا عملاء لإيران، ولا ترى في الأكراد إلا شعبا يجب إبادته. لذلك كانت تلك الفترة فعلا فترة قيام المرجع بالقيادة مع أن المطلوب هو فحص الوضع ميدانيا من الناحية السياسية وإفراز القيادات المساندة للمرجع ممن لهم خلفية في العمل السياسي، وهذا ما كانت تفتقر إليه تلك الفترة التي عشتها شخصيا من أول لحظة لإطلاق رصاصة ضد أزلام صدام.

إن السيد الخوئي (رحمه الله) يرى: أن الظاهر هو عدم سقوط وجوب الجهاد في عصر الغيبة وثبوته في كافة العصور لدى توفر شرائطه، وهو في الغيبة منوط بتشخيص المسلمين من ذوي الخبرة في الموضوع أن الجهاد معهم مصلحة للإسلام[58] وقد قرب الإمام الخوئي هذا الشرط بقوله: «وبما أن هذا الأمر بحاجة إلى قائد وآمر يرى المسلمون نفوذ أمره عليهم فلا محالة يتعين ذلك في الفقيه الجامع للشرائط فانه يتصدى لتنفيذ هذا الأمر المهم من باب الحسبة»[59].

ويجدر بالذكر هنا تسجيل كون الإمام الخوئي هو احد الناصحين للسيد الحكيم أبان حكم الطاغية صدام بالسفر إلى إيران لان البقاء في العراق فيه خشية على حياته[60].

4 – الإمام الخميني (رحمه الله)

أ – إن الإمام الخميني تمكن أن يشخص للمسلمين طبيعة المعركة التي يخوضونها، بل لكل الناس والتي تدور رحاها اليوم بين الاستكبار والاستضعاف، وهذه المعركة ممتدة عبر التاريخ[61].

ب – كان في بياناته وأحاديثه ومواقفه يركز دائما على قضية عوائل الشهداء والأسرى والمؤمنين والمحرومين والمستضعفين كقضية أساسية[62].

ج – بالغ في اهتمامه بالعراقيين، فعندما قدم السيد الشهيد مطالب للإمام وتأخر تنفيذها عبر قائلا: «كيف يكون السيد محمد باقر الحكيم ضيفي وضيف الجمهورية الإسلامية ويقدم مطالباً في قضايا العراقيين ولا تحل؟!»[63].

د – لأول مرة في العصور المتأخرة يكون مرجعا دينيا هو القائد العام للقوات المسلحة في الجمهورية الإسلامية، وهو مركز يدل على شجاعة الإمام وقدرته على إدارة المعركة.

ﻫ – أفتى الإمام الخميني برفع شعار سقوط الشاه في المسيرة المليونية يومي التاسع والعاشر من محرم سنة (1399ﻫ) رغم تهديد الشاه لهم بضربهم بالرصاص، وكان الحسم بهذه الفتوى من باريس، وفعلا هتفت الملايين بسقوط الشاه وهوى عرشه بعد نحو شهرين تقريباً.

و – عندما كان الإمام في النجف وقرر النظام العفلقي تسفير كل الأجانب بادر الإمام واتخذ قرار تعطيل الحوزة العلمية احتجاجا على قرار الحكومة إلى حين تراجعها عن موقفها.

ز – اهتمام الإمام بالقضية الإسلامية في العراق، حيث أولاها رعاية وأهمية خاصة؛ لأنه يعرف الكثير عن ظروفها عن قرب بسبب وجوده في العراق ورؤيته لمجمل الأحداث السياسية فيه. ومع ذلك فقد التزم بسياسة عدم التدخل المباشر في القضية العراقية والاكتفاء بإعطاء التوجيه العام لها.

ح – خصوصية خطاب الإمام للشعب، حيث إنه مرجع ويتحدث للناس من خلال أبحاث تهمهم وتهم المنطقة، فيتحدث معهم عن دور أمريكا في المنطقة ودور المستشارين في إيران ويحث المترفين والمستضعفين، حيث أثر ذلك في الناس لكونه يحدث الناس بما يهمهم في حياتهم وحياة دولتهم.

ط – جسد الإمام الخميني قضية الولاية عملياً وخارجياً وأقام دولة الفقيه العادل والتي لم يعشها الشيعة لقرون من الزمن نتيجة لحرمانهم وإقصائهم عن موقعهم الطبيعي في حركة الإسلام والمجتمع الإسلامي فاحدث نقلة في إقامة ولاية الفقيه العادل الصالح[64].

الاستنتاجات

1 – لا يمكن تأسيس نظام سياسي في العراق الجديد يتجاهل دور المرجعية من اتخاذ القرارات ذات الطابع الاستراتيجي والعام الذي يهم الأمة ككل.

2 – يكون دور المرجعية موجهاً للقيادة السياسية، ومطالباً بحقوق الجماهير، حافظا لوحدة البلد عند الضرورة وانحراف القيادة السياسية عن الخط العام للإسلام والعدالة، فلها – المرجعية – القيادة العليا للجماهير بتوجيههم لدعم من تراه مناسباً لتولي أمور البلد عبر الانتخابات.

3 – إن استمرارية تثقيف الجماهير نحو المرجعية كقيادة يلتف حولها الجميع، وملاذ حينما يتهدد البلد بالتفكيك والحروب الداخلية هو ضرورة هامة جداً في هذا العصر، وخصوصاً أن المرجعية في العراق طالما طالبت بحقوق كل العراقيين من كل الأطياف والأديان والمذاهب والقوميات.

وهذا يكون من الإطارين الداخلي على مستوى المذهب الشيعي، ووطني على مستوى الشعب العراقي بكافة فئاته، وهذا التثقيف هو مسؤولية الجميع كل في مجال اختصاصه.



[1] أسلمة الدولة والنظرة الغربية (د. رياض حسين أبو سعيدة) بحث القي ضمن المؤتمر الأول لإحياء التراث الفكري والعلمي للشهيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم (رحمه الله).

[2] الحكم الإسلامي بين النظرية والتطبيق: 39، السيد الشهيد الحكيم (رحمه الله).

[3] موسوعة الحوزة والمرجعية: ج1، الحوزة العلمية: 30، السيد الشهيد الحكيم (رحمه الله).

[4] آل عمران: 15.

[5] الأعراف: 32.

[6] الأصالة والمعاصرة: 19، السيد الشهيد (رحمه الله).

[7] المصدر السابق: 34

[8] الكافي1: 58، باب البدع والرأي والمقاييس.

[9] الخطاب الإعلامي وسر النجاح: 42  – 43، السيد الشهيد الحكيم (قدس سره).

[10] الأنفال: 60.

[11] وبشر الصابرين: 50 – 51، السيد الشهيد الحكيم (قدس سره).

[12] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 25  – 37، السيد الشهيد الحكيم (قدس سره).

[13] الحب في الله: 8، السيد الشهيد الحكيم (قدس سره).

[14] دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي: 54 – 55، السيد الشهيد الحكيم (قدس سره).

[15] موسوعة الحوزة والمرجعية: ج1، الحوزة العلمية: 64، السيد الشهيد الحكيم (قدس سره).

[16] شيعة العراق تاريخ ومواقف: 13 – 14، السيد الشهيد الحكيم (رحمه الله).

[17] موسوعة الحوزة والمرجعية: ج1، الحوزة العلمية: 355، السيد الشهيد الحكيم (رحمه الله).

[18] رجال النجاشي: 39.

[19] موسوعة الحوزة المرجعية: ج1، الحوزة العلمية: 41، السيد الشهيد الحكيم (رحمه الله).

[20] موسوعة الحوزة المرجعية: ج1، الحوزة العلمية: 48، السيد الشهيد الحكيم (رحمه الله).

[21] موسوعة الحوزة والمرجعية: ج1، الحوزة العلمية: 218 وما بعدها، فصل الحوزة العلمية والعمل السياسي.

[22] الكافي 2: 20.

[23] موسوعة الحوزة والمرجعية: ج1، الحوزة العلمية: 224 – 228، فصل الحوزة العلمية والعمل السياسي.

[24] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 63  – 64، السيد الشهيد الحكيم (رحمه الله) بتصرف.

[25] المائدة: 54.

[26] بحار الأنوار 65: 169، ح30.

[27] بحار الأنوار: ح23.

[28] دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة2: 47، السيد الشهيد الحكيم (قدس سره).

[29] نفس المصدر: 53 – 79.

[30] التوبة: 63، السيد الشهيد الحكيم (رحمه الله).

[31] دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة2: 57 وما بعدها، السيد الشهيد الحكيم (رحمه الله).

[32] موسوعة الحوزة والمرجعية: 2، المرجعية الدينية: 263، السيد الشهيد الحكيم (قدس سره).

[33] المصدر السابق: 270.

[34] الحب في الله: 7، السيد الشهيد الحكيم (قدس سره).

[35] موسوعة الحوزة والمرجعية 2: المرجعية الدينية: 179، السيد الشهيد الحكيم (رحمه الله).

[36] المصدر السابق: 270.

[37] المصدر السابق: 297

[38] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 69، السيد شهيد المحراب (رحمه الله).

[39] تهذيب الأحكام 6: 145: باب قتال أهل البغي: ج7.

[40] النحل: 43.

[41] كمال الدين وتمام النعمة: 484، باب 45 التوقيعات.

[42] دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة 2: 11 – 12، السيد شهيد المحراب (رحمه الله)، ق2، ف12.

[43] موسوعة الحوزة والمرجعية 5: 111، الإمام الخميني، السيد الشهيد الحكيم (قدس سره).

[44] الوحدة الإسلامية من منظور الثقلين: 154، السيد الشهيد الحكيم (قدس سره).

[45] موسوعة الحوزة والمرجعية1، الحوزة العلمية: 297.

[46] من النجف إلى النجف: 34، وفاء الجياشي.

[47] الإمام السيد محمد باقر الصدر في ذاكرة العراق: 380، صلاح الخرسان.

[48] موسوعة الحوزة والمرجعية 3: 198، الإمام الحكيم، الشهيد الحكيم.

[49] المصدر السابق: 246.

[50] موسوعة الحوزة والمرجعية 4: 184، الشهيد الصدر، الشهيد الحكيم.

[51] المصدر السابق: 192.

[52] موسوعة الحوزة والمرجعية 4: 195، الشهيد الصدر، الشهيد الحكيم.

[53] المصدر السابق: 199.

[54] المصدر السابق: 218.

[55] المصدر السابق: 218.

[56] موسوعة الحوزة والمرجعية 4: 219، الشهيد الصدر، الشهيد الحكيم.

[57] موسوعة الحوزة والمرجعية 1: 298، الحوزة العلمية، الشهيد الحكيم.

[58] منهاج الصالحين، الإمام الخوئي 1: 365.

[59] المصدر السابق: 366.

[60] من النجف إلى النجف: 161، وفاء الجياشي.

[61] موسوعة الحوزة والمرجعية5: 15، الإمام الخميني، السيد الشهيد الحكيم (رحمه الله).

[62] المصدر السابق: 19

[63] المصدر السابق: 25.

[64] موسوعة الحوزة والمرجعية 5: 73، الإمام الخميني، السيد الشهيد الحكيم (رحمه الله).

تعليقات (1)

اكتب تعليق

كافة الحقوق محفوظة لمؤسسة تراث الشهيد الحكيم، ولا يجوز الاستفادة من المحتويات دون إذن خطي.

الصعود لأعلى