شهيد المحراب مفسراً

motmar1

بحث شارك في المؤتمر الأول لإحياء التراث الفكري والعملي للشهيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم 

الباحث: أياد محمد علي 

مدرس مساعد في كلية التربية (ابن رشد) / جامعة بغداد

شهيد المحراب مفسراً

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطيبين الطاهرين، وسلّم تسليماً كثيراً. أمّا بعد:

فإنّ التفسير لغة: مصدر قياسيّ زنة (تفعيل) من الفعل الثلاثي المضعّف العين (فسّر).

قال الراغب: الفَسر والسَفر تتقاربا في المعنى كتقارب لفظيهما, لكن جعل الفَسر لإظهار المعنى المعقول, والسَفر لإبراز الأعيان للأبصار. يقال: سفرت المرأة عن وجهها وأسفرت، وأسفر الصبح، وقال تعالى: (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (الفرقان: 33)، أي بياناً وتفصيلاً[1].

يقول آية الله معرفة: وكانت صياغته من باب (التفعيل) نظراً للمبالغة في محاولة استنباط المعنى، كما كان في (كشف) و(اكتشف) فإنّ في الثاني إفادة زيادة المحاولة في الكشف، فكان أخصّ من المجرّد؛ وذلك بناءً على أنّ زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني[2].

أمّا في الاصطلاح فقد عرّفه الزركشي (ت 794) هـ بقوله: التفسير علم يفهم به كتاب الله المنزل على نبيّه محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه، واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو والتصريف، وعلم البيان، وأصول الفقه، والقراءات، ويحتاج لمعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ[3].

وقد أشار شهيد المحراب إلى ما أشار إليه الزركشيّ من مباحث علم التفسير، وزاد عليه: الأبحاث التي تتناول تأثير القرآن الكريم في حياة البشريّة بشكل عام والمسلمين بشكل خاص، هذه البحوث التي توضّح ما قام به القرآن من دور في بناء الإنسان، وتكوين الأمّة الوسط، ومردّ هذا التأثير إلى فعّالية القرآن الكريم بوصفه كلاماً ذا معنى، لا بوصفه مجرّد حروف تُكتب أو أصوات تُقرأ[4].

هذه الزيادة في مباحث علم التفسير تعكس رؤيته (قدس سره) إلى القرآن الكريم بوصفه أطروحة تغيير كبرى تدكّ أسس الصرح الجاهلي الفاسد قديماً وحديثاً، وتطرح الرؤية البديل لمجتمع التوحيد والعدل والإخاء.

الحاجة إلى التفسير

يميّز السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر (قدس سره) بين قسمين من التفسير هما:

1 ـ تفسير اللفظ.

2 ـ تفسير المعنى.

وتفسير اللفظ: عبارة عن (بيان معناه لغة).

وأمّا تفسير المعنى فهو: تحديد مصداقه الخارجي الذي ينطبق عليه ذلك المعنى… وأمثلة ذلك من القرآن الكريم كثيرة، فنحن نلاحظ في القرآن أنّ الله سبحانه يوصف بالحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، ونواجه بالنسبة إلى هذه الكلمات بحثين:

(أحدهما): البحث عن مفاهيم هذه الكلمات من الناحية اللغويّة.

(والآخر): البحث عن تعيين مصداق تلك المفاهيم بالنسبة إلى الله تعالى.

فكيف يسمع سبحانه؟ وهل يسمع بجارحة أو لا؟ وكيف يعلم؟ وهل يعلم بصورة زائدة؟

والأوّل: يمثّل التفسير اللفظي للآية أو تفسير اللفظ، والثاني يمثّل التفسير المعنوي أو تفسير المعنى.

ومن أمثلة ذلك أيضاًُ قوله تعالى: (وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ…) (الأنعام: 92) وقوله: (..وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) (الحديد: 25), وقوله: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ…) (المؤمنون: 18) فنحن نجد هذه الآيات تتحدّث عن أشياء قد أنزلت من قبيل: (الكتاب) (الحديد) (الماء).

وتفسير اللفظ يعني ـ بصدد هذه الآيات ـ أن نشرح معنى (النزول) لغة، ونحدّد مفهوم كلمة «أنزلنا» الواردة في الآيات الثلاث، ونعرف أنّها تستبطن معنى: (الهبوط من جهة عالية مرتفعة).

وتفسير المعنى هو: أن ندرس حقيقة هذا الإنزال، ونوع تلك (الجهة العالية) التي هبط منها الكتاب والحديد والماء، وهل هي جهة ماديّة أو معنويّة؟[5].

ويبدو أنّ شهيد المحراب يوافق أستاذه الصدر تمام الموافقة فيما ذهب إليه؛ إذ أورد المبحث كاملاً في كتابه علوم القرآن[6].

ولكن أيكون ذكر المعنى الظاهر تفسيراً أم يقتصر التفسير على المعاني الخفيّة؟ يرى شهيد المحراب: إنّ ذكر المعنى الظاهر قد يكون في بعض الحالات تفسيراً أيضاً، وإظهار لأمر خفي، كما أنّه في بعض الحالات الأخرى قد لا يكون تفسيراً؛ لأنّّ المعنى يكون واضحاً، وليس فيه خفاء أو غموض، وقد اصطُلح على الظهور الأوّل (بالظهور المعقّد) وعلى الثاني (بالظهور البسيط)…

فالظهور البسيط هو: الظهور الواحد المستقل المنفصل عن سائر الظواهر الأخرى، كظهور جملة (أذهب إلى البحر كلّ يوم), ولا يعتبر إبراز المعنى على أساس هذا الظهور تفسيراً.

وأمّا الظهور المتكوّن نتيجة لمجموعة من الظواهر المتفاعلة كظهور جملة
(اذهب إلى البحر في كلّ يوم، وأستمع إلى حديثه) فلجملة (اذهب إلى البحر في كلّ يوم) ظهور خاص بها، ولجملة (وأستمع إلى حديثه) ظهور خاص بها، قد يبدو أنّه لا يناسب الأوّل؛ إذ لا يوجد للبحر حديث، ولابدّ من دراسة تفاعل هذين الظهورين فيما بينهما، واستحصال الظهور الناتج من هذا التفاعل، وهو المعنى الذي يريده المتكلّم الذي هو (الذهاب إلى العالم المتبحّر في العلم والاستماع إلى حديثه).

ونتيجة لهذا التعقيد في التركيب أصبح للكلام درجة من الغموض والخفاء جديرة بالكشف والإبانة، ولهذا صحّ اعتبار إبراز المعنى على أساس هذا الظهور تفسيراً.

وعلى هذا فإنّ التفسير وفق هذا الاتجاه الثاني يشتمل على:

أ ـ بيان المعنى في موارد الظهور المعقّد.

ب ـ إظهار أحد محتملات اللفظ وإثبات أنّه هو المعنى المراد.

ت ـ إظهار المعنى الخفي غير المتبادر، وإثبات أنّه هو المعنى المراد، بدلاً من الظاهر المتبادر…وبناءً على الاتجاه المذكور، نعرف أنّ التفسير معنى (إضافي) لأنّه بيان للمعنى وتوضيحه حتّى في موارد ظهور اللفظ.

وعندئذ فالمعنى الظاهر قد يكون بحاجة إلى بيان وكشف لشخص دون آخر، فهو تفسير بإضافته للأوّل، ولا يكون تفسيراً بإضافته للثاني[7].

ومن خلال إمعان النظر في النص السابق يتّضح أنّ الحاجة إلى تفسير القرآن الكريم تنبع ممّا يأتي:

1 ـ سعة النص القرآني، وشموله لقضايا الكون عامّة.

2 ـ الفروق الفرديّة واختلاف المؤهلات العلميّة بين الأفراد.

3 ـ تطوّر الحياة البشريّة، وما تفرضه من ضرورة استنطاق النصّ القرآني المتجدد في قضايا الحياة ومشاكل البشر.

وقد حثّ القرآن الكريم الناس على ضرورة تدبّر آياته، فقال ربّنا سبحانه: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) (ص: 29)، وقال سبحانه: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) (النساء: 82)، وقال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا). (محمد: 24).

شروط التفسير

يعرّف شهيد المحراب شروط التفسير الصحيح، فيقول: نقصد بشروط التفسير الأسس والمتبنيات الفكرية والعقائديّة التي لابدّ أن يقوم عليها التفسير، من أجل أن يكون تفسيرا صحيحا للقرآن الكريم[8].

ويشترط في التفسير ما يأتي[9]:

1 ـ الذهنيّة الإسلامية، يعرّفها بأنّها: مجموعة من التصوّرات الأساسيّة، يعتمد عليها الإسلام، وترتبط بالقرآن الكريم، وتشكّل الإطار العام للتفسير الذي من خلاله يتمكّن المفسّر من الوصول إلى نتائج صحيحة في عمله التفسيريّ، وأحد هذه التصورات الأساسيّة ـ مثلاً ـ هو أن يكون معتقداً بأنّ القرآن هو وحي إلهي، وليس نتاجاً بشرياً[10].

2 ـ امتلاك رؤية في وحدة النص القرآنيّ، وشهادة بعضه على بعض، وأنّ في القرآن الكريم ناسخاً ومنسوخاً، ومطلقاً ومقيّداً، ومحكماً ومتشابهاً.

3 ـ العقيدة الصحيحة المستنبطة من القرآن الكريم.

أمّا شروط المفسّر فيعني بها: المواصفات الروحيّة والنفسيّة والأخلاقيّة والعلميّة التي يجب أن يتّصف بها المفسّر[11]، ويوضّح ما يريده بالجانب الروحيّ والأخلاقيّ فيقول: فإنّ الحالة الروحيّة الأخلاقيّة، كالتقوى، والورع، وحالة الطهارة، والإخلاص في التعامل مع النصّ القرآنيّ، لها تأثير كبير في عملية فهم القرآن؛ لأنّ الإنسان مهما كانت لديه من قدرات ومعلومات يبقى محدوداً ومعرّضاً للخطأ. أمّا عندما تكون عنده حالة التقوى والإخلاص والطهارة والنقاء إضافة إلى ذلك، فإنّه يكون في موضع التأييد والرعاية الإلهيّة، ومن ثمّ يكون في موقع التوفيق في الوصول إلى الحقّ والرشد[12]، أمّا العلوم التي يشترط في المفسّر امتلاك ناصيتها، فثلاثة أنواع هي:

1 ـ علوم اللغة العربية، من نحو، وصرف، ومعان، وبديع، وبيان، ولغة.

2 ـ علوم القرآن الكريم، كأسباب النزول، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والمكي والمدني.

3 ـ علوم الشريعة، ومنها: علم الأصول، فيقول: فالنص القرآني وإن كان متواتراً وثابتاً لدينا، إلاّ أنّ كشف المعنى القرآني عن طريق ظهوره ليس كشفاً قطعياً، بل هو كشف ظنّي، ولابدّ من إثبات حجيّة هذا الظنّ من خلال البحوث المتعلّقة بـ (حجيّة الظهور) في علم الأصول[13].

نلحظ على شروط التفسير والمفسّر ما يأتي:

1 ـ انطلاقها من حقيقة واقعيّة ترى أنّ دارس النصّ لابدّ أن يسقِّط معتقداته وتوجهاته على فهم النص وتفسيره؛ لذا لابدّ من ضمان صفاء هذه التوجهات والاعتقادات.

2 ـ وحدة النظريّة الإسلامية، ومحورها القرآن الكريم، في الكون والحياة، فلا يمكن فهم جزء منها مستقلّاً عن الأجزاء الأخرى.

3 ـ ليست عمليّة التفسير نشاطاً عقليّاً فقط، بل هي نشاط روحي عقلي، فكلّما كان المفسّر أطهر قلباً، وأسمى روحاً، كان أقرب إلى فهم النصّ.

إتجاهات التفسير

يفرّق السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر (قدس سره) بين اتجاهين في تفسير القرآن الكريم:

(الأول): الاتجاه التجزيئي: المنهج الذي يتناول المفسّر ـ ضمن إطاره ـ القرآن الكريم آية فآية، وفقاً لتسلسل تدوين الآيات في المصحف الشريف… تدرّج تاريخيا إلى أن وصل إلى مستوى الاستيعاب الشامل للقرآن الكريم بالطريقة التجزيئية[14].

ويوضّح السيّد الشهيد رؤيته قائلاً: لا نعني بالتجزيئية لمثل هذا المنهج التفسيري أنّ المفسّر يقطع نظره عن سائر الآيات، ولا يستعين بها في فهم الآية المطروحة للبحث، بل إنّه قد يستعين بآيات أخرى في هذا المجال، كما يستعين بالأحاديث والروايات، ولكن هذه الاستعانة تتم بقصد الكشف عن المدلول اللفظي الذي تحمله الآية المطروحة للبحث[15].

(الثاني): الاتجاه الموضوعيّ: لا يتناول تفسير القرآن آية فآية بالطريقة التي يمارسها التفسير التجزيئيّ، بل يحاول القيام بالدراسة القرآنية لموضوع من موضوعات الحياة العقائديّة أو الاجتماعيّة أو الكونيّة، فيبيّن ويبحث ويدرس مثلاً: عقيدة التوحيد في القرآن، أو يبحث عن النبوّة في القرآن، أو عن المذهب الاقتصاديّ في القرآن، أو عن سنن التاريخ في القرآن، أو عن السماوات والأرض في القرآن الكريم وهكذا.

ويستهدف التفسير التوحيديّ الموضوعيّ من القيام بهذه الدراسات تحديد موقف نظريّ للقرآن الكريم، وبالتالي للرسالة الإسلامية من ذلك الموضوع من موضوعات الحياة أو الكون[16]، ويعلل الشهيد الصدر شيوع الاتجاه التجزيئي للتفسير باتصاف المفسرين روائية حديثية، فضلا عن المعلومات اللغوية والتاريخية[17] ويرجّح الشهيد الصدر الاتجاه الموضوعي على الاتجاه الترتيبي، معللا:

1 ـ دور المفسّر في الاتجاه الترتيبي سلبيّ، إذ يتناول النصّ القرآنيّ ساعياً لكشف مدلوله في ضوء القرائن المتصلة والمنفصلة، وكأنّ دور النصّ فيها دور المتحدّث، ودور المفسّر هو الإصغاء والتفهّم، أمّا في الاتجاه الموضوعي فالمفسّر يبدأ عمله من واقع الحياة، إذ يركّز في موضوع عقائدي أو اجتماعي أو كونيّ، ثمّ يتناول النصّ القرآنيّ بالحوار والتساؤل.

المفسّر يسأل والقرآن يجيب، لذا ارتبطت نتائج التفسير الموضوعيّ بتيار التجربة البشريّة، ومن هنا تبقى للقرآن قدرته على القيمومة والعطاء المستجدّ[18].

ويخالف شهيد المحراب (قدس سره) أستاذه الصدر في عدّ هذا مرجحاً للتفسير الموضوعي ويعلل فيقول: لأنّ هذا المرجح قائم وموجود في منهج التفسير التجزيئيّ أيضاً. وبمراجعة كتب التفسير لمختلف العصور, نجد أنّ هذه المعالجة للواقع الموضوعيّ، الخارجيّ في التفسير قائمة وموجودة، وغاية ما في الأمر أنّ مستوى هذه المعالجة قد يختلف باختلاف المفسّر والإثارات التي يثيرها الواقع الموضوعيّ، وقدرة المفسّر على معالجة الموضوعات والقضايا المختلفة[19].

2 ـ يكتفي التفسير التجزيئي بإبراز المدلولات التفصيلية للآيات الكريمة، في حين يسعى الاتجاه الموضوعيّ للحصول على نظرية قرآنية في موضوع معين، كالنبوة، أو السنن التاريخية، أو الذي تتمّ خلاله محاولة فهم المضمون الكليّ لهذه الآية أو ذلك المذهب الاقتصادي[20]. ويوافق شهيد المحراب أستاذه الصدر في هذا الترجيح، ويصفه: بأنّه مرجّح ايجابي، وصحيح لصالح المنهج الموضوعيّ في التفسير[21]، ويلتفت التفاتة لطيفة، فيقول: ولابدّ أن نشير هنا إلى أنّه وإن كان بالإمكان استخلاص بعض النظريات القرآنيّة من خلال آية واحدة أو مقطع قرآنيّ، إلاّ أن هذا لا يعني أن المنهج المتّبع هنا هو منهج تجزيئي، بل هو منهج موضوعي؛ وذلك لأنّ المنهج الموضوعيّ هو منهج استخلاص النظريّة الكليّة ذات الحالة الشموليّة، والتي تمثّل القاعدة الأساسيّة، وأمّا المنهج التجزيئيّ فهو المنهج دون استخلاص النظريّة الشموليّة منها [22].

ويعلّل شهيد المحراب (قدس سره) شيوع الاتجاه التجزيئي في التفسير بين المفسّرين بأمرين:

(أحدهما): قدسيّة النصّ القرآنيّ آيات وترتيباً.

(والآخر): إنّ الحاجة الاجتماعية إلى التفسير الموضوعي قد استجدت في العصر الحديث؛ لأنّ المسلمين كانوا قد عاشوا النظريّات الإسلامية سابقاّ من خلال التطبيق، وقد كانت موجودة بينهم بشكل إجماليّ وعام، وعلى هذا الأساس لم يكونوا يشعرون بأهمية البحث الموضوعيّ، خصوصاً في القضايا الاجتماعيّة[23].

ويرجّح شهيد المحراب (قدس سره) الاتجاه التجزيئيّ على الاتجاه الموضوعيّ معلّلا بأنّ الاتجاه الموضوعي يمثل تفسير النخبة والعلماء والمحققين الذين يبتغون استكشاف النظريات القرآنية، في حين ينسجم الاتجاه التجزيئي مع الحاجات الاجتماعية المعاصرة، من خلال بيان المعالجات الميدانية للمشاكل الروحيّة والسياسيّة وتربية الإنسان المسلم تربية قرآنيّة، لكنّ شهيد المحراب (قدس سره) يستدرك فيقول قبل تفسيره سورة الفاتحة: على أنّنا سوف نحاول أن نتناول (الموضوعات المهمّة) وفق المنهج الموضوعيّ بشكل مختصر إتماماً للفائدة واستطراداً، وسنجمع بذلك وبقدر ما بين المنهجين[24].

منهج التفسير

نعني به: كيفيّة كشف معاني الآيات القرآنيّة ومقاصدها باستخدام الوسائل والمصادر الخاصّة في تفسير القرآن، بوصف التفسير كشفاً عن الإبهام في النصّ القرآنيّ، وإيضاح مقاصده، والمراد الاستعماليّ من آياته[25]. ويقسّم بعض الدارسين المناهج التفسيرية على قسمين:

أ) المناهج التفسيرية الناقصة

1 ـ منهج تفسير القرآن بالقرآن.

2 ـ منهج التفسير الروائي (التفسير على أساس السنّة).

3 ـ منهج التفسير العلمي (باستخدام العلوم التجريبيّة في فهم القرآن).

4 ـ منهج التفسير الإشاريّ (العرفانيّ، الصوفيّ، الباطنيّ، الرمزيّ، الشهوديّ)

5 ـ منهج التفسير العقليّ والاجتهاديّ.

6 ـ منهج التفسير بالرأي (المنهج الممنوع في تفسير القرآن).

ب) المنهج الكامل في التفسير

المقصود بذلك هو المنهج الذي يستفيد من جميع هذه الطرق (المناهج المذكورة سابقاً)، لكي يتبيّن مقصود الآيات بصورة كاملة من جميع الجوانب[26].

ويشخّص شهيد المحراب (قدس سره) معالم منهجه المختار بما يأتي:

1 ـ تناول الموضوعات القرآنية المختلفة بالبحث في القرآن نفسه.

2 ـ العناية بالواقع الموضوعي المعاش، ومحاولة معالجة قضايا الحياة من خلال المفاهيم القرآنيّة.

3 ـ إتخاذ روح القرآن الكريم العامة أصلا في فهم النص القرآني، فهو الأصل الذي تعرض عليه النصوص المأثورة عن المعصومين (عليهم السلام).

4 ـ مراعاة اشتمال النصّ القرآنيّ على نوعي الظهور: البسيط والمعقّد، والاهتمام بتفسير الظهور المعقد خاصّة.

5 ـ ضرورة الانتباه إلى مستويين من التفسير، هما: تفسير اللفظ ببيان مفهومه اللغويّ العام، وتفسير المعنى ببيان المصاديق والمفردات المشخّصة المقصودة من اللفظ. ففي قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ) (النحل: 43).

وردت الروايات عن المعصومين بأنّ أهل الذكر هم أهل البيت (عليهم السلام)، فعن الصادق (عليه السلام)، قال: الذكر محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونحن أهله المسؤلون… ونحن المسؤلون[27].

وقد وقع بعض المفسرين في الاشتباه، إذ جعلوا مصداق الآية الأوحد هم أهل البيت (عليهم السلام)، في حين أنّ معنى اللفظ هو: (أهل الخبرة بالدين والكتب والرسالات) وأنّ لهذا المفهوم مصاديق متعدّدة، وإن صحّ أن أبرز مصاديق هذا المفهوم هم أهل البيت (عليهم السلام)، ولكن هذا من باب الجري والتطبيق عليهم (عليهم السلام) لا من باب اختصاصهم به دون غيرهم، وقد أشار أهل البيت (عليهم السلام) إلى هذا المعنى أيضاً.

فقد ورد عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) (الرعد: 7)، فقال: «رسول الله المنذر، وعليّ الهادي، يا أبا محمّد هل من هاد اليوم؟ قلت بلى. جعلت فداك ما زال فيكم هاد بعد هاد حتى دفعت إليك. فقال: رحمك الله يا أبا محمّد، لو كانت إذا نزلت آية على رجل ثمّ مات ذلك الرجل ماتت الآية مات الكتاب ولكنّه حيّ يجري فيمن بقي كما جرى فيمن مضى»[28] [29].

6 ـ ضرورة إبراز طريقة معالجة القرآن الكريم لقضايا الحياة والمجتمع من خلال النص القرآني، وتطبيقه على الحالات المشابهة في هذا العصر.

7 ـ ضرورة أن يكون البناء الفكريّ والعقائديّ للمفسّر سليماً، مستنبطاً من القرآن نفسه، ومستلهماً هدف القرآن في التغيير الاجتماعيّ الجذريّ [30].

الاهتمامات التفسيريّة

تنوّعت الاهتمامات التفسيريّة للمفسّرين عبر التاريخ بسبب عوامل ذاتيّة، وأخرى موضوعيّة، فقد يكتب المفسّر تفسيراً أدبيّاً بسبب تخصّصه في العلوم الأدبيّة، كالكشّاف للزمخشريّ، وقد يكون تخصّصه علم الكلام فيؤلّف تفسيراً كلاميّاً، كالتفسير الكبير للرازيّ، وقد يولع المفسّر بالعلوم التجريبيّة، فيتّسم تفسيره بالطابع التجريبيّ، مثل: الجواهر للطنطاويّ.

وتؤثّر العوامل الموضوعيّة وحاجات العصر في اهتمامات المفسّر، فيتسم تفسيره بالطابع الجهاديّ أو الأخلاقيّ أو التربويّ الأخلاقيّ، كما في تفسير (في ظلال القرآن) لسيّد قطب، و(الأمثل) لآية الله مكارم الشيرازيّ[31].

ويوفرّ علينا شهيد المحراب (قدس سره) عناء البحث، فيصرّح باهتماماته التفسيريّة الآتية:

1 ـ الجانب التربويّ والتغييريّ للقرآن الكريم، فيقول: إنّ الهدف الأساس للقرآن الكريم هو عمليّة التغيير الجذريّ للمجتمع، وبيان المنهج الصحيح، وخلق القاعدة الثوريّة لهذا التغيير.

ونحن نضع هذا الهدف أمام أعيننا في بحثنا هذا، لنتبيّن المعالم التغييريّة والتربويّة في القرآن الكريم، ومنهجه في هذه العمليّة[32].

2 ـ السياق القرآنيّ، إذ يرى شهيد المحراب أنّ ترتيب القرآن بالهيأة التي بين أيدينا يدلّ على وجود هدف مشروع وراء هذا الترتيب، وهذا السياق للقرآن الكريم، ولابدّ أن يقوم البحث التفسيريّ بمهمّة اكتشاف وإبراز هذا الهدف وتحقيقه[33].

3 ـ الظواهر القرآنيّة، وهو «أن نلاحظ ظاهرة معيّنة من خلال ملاحظة مجموعة من المفردات القرآنيّة، ثمّ نريد أن نفسّر هذه الظاهرة بعد ذلك، وأن نعرف خلفيتها وأسبابها، وذلك لما للظاهرة القرآنية من أثر في صياغة أسلوب القرآن ومضمونه، ومثال ذلك هو ظاهرة (البسملة) في القرآن الكريم، وظاهرة (الاستهلال) في بداية السور القرآنيّة (الحروف المقطّعة)»[34].

4 ـ تجريد مفردات النصّ القرآنيّ «ممّا التبس بها من تقييدات وتحديدات على مستوى تفسير المعنى… حيث كان المفسّرون يختلفون في تفسير النصّ الواحد، بأن يذكر كلّ واحد منهم مصداقاً له يختلف عن المصداق الذي يذكره الآخر»[35].

5 ـ الاهتمام بالتفسير الموضوعي من خلال تناول الموضوعات القرآنيّة الأساسيّة, وإن كان هذا الاهتمام خارجاً عن منهج التفسير التجزيئيّ المختار.

6 ـ الاهتمام بالخلافات العقائديّة والفقهيّة المتعلّقة بالآيات القرآنيّة المبحوثة.

7 ـ الإفادة من المأثور عن المعصومين (عليهم السلام) بوصفه شاهداً وقرينة على فهم النصّ.

وبعد أن استعرضنا الملامح النظريّة للرؤية الشاملة لشهيد المحراب في تفسير النصّ القرآنيّ، وصفاً، وطريقة، ومنهجاً، واهتمامات، سنحاول في الصفحات القادمة دراسة آثار هذه الرؤية تطبيقياً في سورة الفاتحة.

تفسير (الفاتحة) أنموذجاً

تضمّن تفسير شهيد المحراب (قدس سره) للسورة الشريفة مقدّمة وثلاثة فصول، تناول في المقدّمة أسماء السورة ونزولها وفضلها، وخصّص الفصل الأوّل للبسملة، والفصل الثاني لبقية السورة الشريفة.

تناول في الفصل الأوّل البسملة من جهات أربع:

الأولى: كون البسملة آية من القرآن أو لا؟ وعرض آراء المدارس الإسلامية في المسألة، وعلّل اختلاف الآراء.

الثانية: معاني المفردات.

الثالثة: تفسير ظاهرة تكرارها.

الرابعة: دور الشعار وأثره في النظريّة الإسلامية.

وخصّص الفصل الثاني لتفسير بقية السورة، مقسّماً الفصل على قسمين:

الأوّل: تفسير المفردات.

الثاني: المعنى الإجمالي، وقد قسّم السورة الشريفة ما عدا البسملة على ثلاثة مقاطع.

الأوّل: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، والثاني: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

الثالث: (أهدنا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ).

وخصّص الفصل الثالث لأربعة موضوعات ترتبط بالسورة الشريفة، هي: قراءة الفاتحة في الصلاة، والابتلاء والرحمة الإلهية، والعبادة والاستعانة، والصراط المستقيم.

أوّلا: موقفه من قضايا لغويّة

1) الترادف

يقول شهيد المحراب (قدس سره) في معنى (الرحمن والرحيم): لو قلنا: إنّ لا فرق بين معنى اللفظين باعتبار وحدة المادة بينهما، ووحدة مدلول صيغة الاشتقاق، وإن اختلافا في الوزن الاشتقاقي، فستكون لفظة (رحيم) حينئذ تكرارا للفظة (الرحمن) لتأكيد المعنى مع التفنّن في التعبير لاختلاف الوزن.

وإذا قلنا: باختلاف المعنى بينهما، كما ذهب إلى ذلك بعض المفسّرين… فما نرجّحه إذن هو أن يكون للفظة (الرحمن) معنى مغاير للفظة (الرحيم) وإنّ إحداهما ليست تكرارا للأخرى؛ إذ تدلّ الأولى على سعة رحمة الله تبارك وتعالى، بينما تدلّ الثانية على استمرار هذه الرحمة واستقرارها[36] وبهذا يتضح أنّ شهيد المحراب لا ينفي مبدأ وجود الترادف في اللغة وفي القرآن، وإن كان قد رجّح في المقام عدم الترادف.

2) الاشتراك اللفظي

أورد شهيد المحراب خمسة معان لمعنى كلمة (الدين) ذكرها الطبرسيّ[37]، هي: الجزاء، والحساب، والطاعة، والعادة، والقهر.

ثمّ قال: «وما نرجّحه هو أنّ الأصل في (الدين) لغة: هو القهر والإلزام، وأمّا ما يذكر من معان أخرى له سواء ما ورد منها في كتب اللغة، أم في القرآن الكريم، فهي لوازم وآثار مترتبة على القهر، ويكون التعريف بها تعريفا للملزوم باللازم. وهذا المعنى المختار يناسب ما ورد في القرآن الكريم من حديث ووصف ليوم القيامة»[38].

وبهذا يتّضح أنّ شهيد المحراب (قدس سره) لا ينفي مبدأ تعدّد معنى اللفظ الواحد (الاشتراك اللفظي).

3) الميل إلى الدلالة الحسيّة

يقول شهيد المحراب (قدس سره): وقد وقع الكلام في مصداق الذين أنعم الله عليهم. فقال بعضهم: بأنّ المقصود بهم هم الأنبياء والصدّيقون والشهداء والصالحون، بقرينة قوله تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً) (النساء: 69)…واختار عبد القاهر الجرجاني قولا آخر، قال: «إنّ حقّ اللفظ في أن يكون خرج مخرج الجنس… فلا تريد أنّها هنا قوماً بأعيانهم قد اختصوا بهذه الصفة… وهذا الاحتمال وإن كان وجيهاً في نفسه إلا أن الصورة التي تتبادر إلى الذهن، وتكون أكثر تجسيداً إنّما هي الصورة التي تشير إلى واقع محسوس وموجود في حياة الإنسانية، بعد تشخّص المسيرة الإلهية في مصاديق عبر التاريخ الإنساني والرسالات السماوية»[39].

ثانياً: مخالفته لعلماء

1 ) مخالفته لوالده

ناقش شهيد المحراب (قدس سره) دلالة الرسم القرآني على جزئية البسملة من سور القرآن الكريم، فقال: «وناقش هذا الدليل سيّدنا الوالد (قدس سره) من هذا الرسم لا دلالة له على جزئية البسملة لا للفاتحة ولا للسور الأخرى؛ وذلك لأنّ الرسم أعم من الجزئية، إذ قد يكون تثبيت البسملة باعتبار أهميتها، وتمثيلها لأحد شعارات المسلمين المهمة، وكونها بركة لما يكتب ولما يبتدأ به، ومن ثمّ قد يكون التزامهم بكتابتها لسبب آخر غير الجزئية، واستشهد على هذا بأنّ أكثر المسلمين – من المذاهب الأخرى غير الإماميّة – من الذين رسموا القرآن الكريم، وثبّتوا البسملة فيه بهذا الشكل لا يعتقدون بجزئيتها»[40].

وعلّق شهيد المحراب (قدس سره) على كلام والده فقال: «إلا أنّ هذه المناقشة لا تثبت أمام النقد، فلا يمكن الإلتزام بها؛ لأنّنا عندما نستدلّ بالرسم القرآني لا نريد أن نثبت من الالتزام بكتابة البسملة في المصحف إنّ جميع الذين أثبتوها يعتقدون بجزئيتها، حيث تكون هذه المناقشة صحيحة… وإنّما نريد أن نعرف من الرسم القرآني أنّ خصوص الأوائل الذين عاصروا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو سمعوا منه كانوا يعتقدون بجزئية البسملة للقرآن الكريم. بدليل أنّهم أثبتوها بنفس الطريقة التي أثبتوا بها الآيات القرآنية الأخرى ؛ وذلك لأنّ إجماعهم يكشف لنا عن موقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن ثمّ يكشف عن نظر الوحي في شأنها»[41].

وإذ نسجّل إكبارنا للروح العلمية لشهيد المحراب التي جعلته لا يتردّد في مناقشته رأي والده، نسجّل موافقتنا له في ما ذهب إليه.

2) مخالفته للعلّامة الطباطبائيّ

تناول شهيد المحراب رأي العلامة الطباطبائي بترجيح أن يكون تقدير متعلّق البسملة المحذوف هو مادّة الابتداء؛ لأنّ تقديره بمادّة الاستعانة المذكورة في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة: 5) يؤدّي إلى تكرار المضمون مرتين في سورة واحدة[42]. فقال: «هذا الترجيح ترجيح في حدود سورة الحمد وحدها، دون غيرها من السور التي لا تشتمل على معنى الاستعانة، مع أنّ البسملة هي جزء من كلّ سورة حسب المختار عنده وعندنا»[43]، إلاّ أنّ شهيد المحراب رجّح ما ذهب إليه العلاّمة من دليل آخر، هو قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «كلّ أمر ذي بال لم يبتدئ فيه باسم الله فهو أبتر»[44]. فقال: «فللحديث دلالة على ما هو مقدّر في هذه الآية المباركة، إذ ورد فيه أنّ الابتداء بالبسملة يكون مكمّلاً لكلّ أمر ذي بال، وأنّ للابتداء باسم الله خصوصية تكميل المبتور والمقطوع»[45].

وإنّنا إذ نوافق العلاّمة الطباطبائي وشهيد المحراب فيما ذهبا إليه نزيد عليه دليلاً آخر هو افتتاح السور جميعا بالبسملة إلا (براءة)، فيمكن الاستدلال على دلالتها من موقعها.

وخالف شهيد المحراب العلاّمة الطباطبائي في ترجيحه أن يكون المراد بـ(عالمين) في قوله تعالى: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة: 2) العوالم الموجودة في الوجود كلّه[46]، ورجّح أن يكون المراد منها عالمي الإنس والجن، مستدلاً بالسياق فذكر (الرحمن الرحيم) يفهم منه أنّ الحديث هو عمّن يكون في موضع التكليف والرحمة والعقاب، كما استدلّ بما يفيده معنى العالمين في موارد الاستعمال القرآني[47].

ويبدو للباحث أنّ الاستعمال القرآنيّ يرجّح ما ذهب إليه شهيد المحراب، وإن كانت ربوبيّة الله لكلّ ما في الوجود أمر مسلّم به.

3) تتبّع دلالة اللفظ في الاستعمال القرآنيّ

دأب شهيد المحراب على تتبّع موارد استعمال اللفظ في القرآن الكريم، لتبّين دلالته في مواضع عديدة[48]، من ذلك إشارته إلى إفادة كلمة (الرحيم) معنى أن تكون علاقة التكامل والتطوّر بين الله والإنسان علاقة رحمة، فيقول: «ويؤكّد هذا الفهم للعلاقة أنّ كلمة (الرحيم) قد قرنت في (62) مورداً من أصل (95) مورداً بكلمة (الغفور)، وفي أكثر الموارد المتبقّية بمفهوم (الرأفة) و(الودّ)، وفي موارد قليلة بـ(العزيز) ـ والله العالم ـ وإشعار الإنسان بأنّ هذه الرحمة ليست عن ضعف أو عجز، وإنّما هي عن قدرة وقوّة»[49].

وهذا يدلّ على رؤيته للقرآن بوصفه منظومة فكريّة مترابطة يفسّر بعضه بعضاً ويشهد بعضه على بعض.

4) العناية بالواقع المعاش

تجسّد ذلك من خلال تعرّض شهيد المحراب (قدس سره) للمداليل التربوية والسياسية والاجتماعية والإعلامية لاتخاذ البسملة شعاراً إسلاميّاً، فكلامه وإن اتسم بالطابع النظريّ إلاّ أنّ معالجاته ومفرداته اتّسمت بالواقعيّة[50].

5) استحضار روح القرآن الكريم في فهم النصّ القرآنيّ

تجسّد ذلك في شرحه للمضامين الإجماليّة لمقاطع السورة الشريفة، وفي تعرّضه لمعطيات الأسلوب القرآنيّ، وفيما تضمّنته المباحث الجزئية من إشارات[51].

الخاتمة

لا أرى في بحثي هذا استقراءً شاملاً للجهود التفسيريّة لشهيد المحراب (قدس سره)، وإنّما هو خطوة في الطريق.

المصادر

1. الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، تحقيق: محمّد أبو إبراهيم، القاهرة، طبعة مصوّرة، قم، 1982م.

2. البرهان في علوم القرآن، محمّد بن عبد الله الزركشي، بيروت، دار الفكر، 1411ق.

3. بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأخيار، محمّد باقر المجلسيّ، بيروت

دار إحياء التراث العربي، 1403 ق.

4. تفسير سورة الحمد، آية الله السيّد محمّد باقر الحكيم، ط 2/1425 ﻫ ق، مطبعة ليلى.

5. التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ط 1/1418، الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية.

6. دروس في المناهج والاتجاهات التفسيريّة، محمّد عليّ الرضائيّ الإصفهانيّ ط 1 /1383مطبعة صدف، طهران.

7. علوم القرآن، آية الله السيّد محمّد باقر الحكيم، ط4 / 1425 ﻫ ق، مطبعة ليلى.

8. فهم القرآن، جواد عليّ كسّار ط1 / 1382 ـ 1424، مطبعة مؤسسة العروج.

9. مجمع البيان في تفسير القرآن، أبو عليّ الفضل بن الحسن الطبرسيّ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1323 ﻫ.

10. المدرسة القرآنية، آية الله الإمام السيّد محمّد باقر الصدر، ط/ 2 1424 ﻫ ق، مطبعة شريعت ـ قم.

11. مستمسك العروة الوثقى، السيّد محسن الحكيم،

12. مفردات ألفاظ القران للراغب الأصفهاني. تحقيق صفوان عدنان داوودي. دار القلم دمشق والدار الشامية، بيروت.

13. الميزان في تفسير القرآن، العلامة السيّد محمّد حسين الطباطبائي، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت ـ لبنان، 1391 ـ 1972م.

[1] شرح مفردات القرآن.

[2] التفسير والمفسرون: 13.

[3] البرهان في علوم القرآن 1/33، و الإتقان في علوم القرآن 4/195.

[4] تفسير سورة الحمد 21 ـ 22.

[5] المدرسة القرآنية 294 ـ 296.

[6] ينظر: علوم القرآن 217 ـ 246.

[7] تفسير سورة الحمد 16 ـ 17.

[8] تفسير سورة الحمد 32.

[9] ينظر: المصدر نفسه 33 ـ 63.

[10] المصدر نفسه: 33.

[11] المصدر نفسه: 56.

[12] تفسير سورة الحمد: 57.

[13] المصدر نفسه 60 ـ 61.

[14] المدرسة القرآنية 20 ـ 21.

[15] تفسير سورة الحمد: 22.

[16] المصدر نفسه: 23.

[17] ينظر: المدرسة القرآنية 24.

[18] ينظر: المدرسة القرآنية 28 ـ 31.

[19] تفسير سورة الحمد 99 ـ 100.

[20] ينظر: المدرسة القرآنية 34.

[21] تفسير سورة الحمد 101.

[22] تفسير سورة الحمد 101.

[23] المصدر نفسه 104.

[24] المصدر نفسه 110.

[25] ينظر: دروس في المناهج والاتجاهات التفسيرية 18.

[26] المصدر نفسه 25.

[27] الكافي 1/210، باب أهل الذكر هم الأئمة (عليهم السلام)، الحديث 2.

[28] المصدر نفسه 1/192. باب أنّ الأئمة (عليهم السلام) هم الهداة.

[29] تفسير سورة الحمد 112 ـ 113.

[30] ينظر: المصدر نفسه 110 ـ 114.

[31] ينظر: دروس في المناهج والاتجاهات التفسيرية 24.

[32] تفسير سورة الحمد 117.

[33] المصدر نفسه 119.

[34] تفسير سورة الحمد 121.

[35] المصدر نفسه 121 ـ 122.

[36] تفسير سورة الحمد 156 ـ 158.

[37] ينظر: مجمع البيان1

[38] تفسير سورة الحمد: 207

[39] تفسير سورة الحمد 222 ـ 223.

[40] ينظر مستمسك العروة الوثقى 6/177، التعليقة 1.

[41] تفسير سورة الحمد 146.

[42] ينظر: الميزان 1/17.

[43] تفسير سورة الحمد 153.

[44] بحار الأنوار 67/ 67 الباب 58 حديث1.

[45] تفسير سورة الحمد 153.

[46] الميزان 1.

[47] ينظر: تفسير سورة الحمد 169 ـ 179.

[48] ينظر: المصدر نفسه 203، 210، 225، 235، 261.

[49] المصدر نفسه 235.

[50] ينظر: المصدر نفسه 167 ـ 187.

[51] ينظر: المصدر نفسه 158، 229 ـ 241، 247، 254 ـ 264.

اكتب تعليق

كافة الحقوق محفوظة لمؤسسة تراث الشهيد الحكيم، ولا يجوز الاستفادة من المحتويات دون إذن خطي.

الصعود لأعلى