أطروحة أهل البيت (عليهم السلام) لبناء المجتمع الإسلامي وفق رؤية الشهيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم
أطروحة أهل البيت (عليهم السلام) لبناء المجتمع الإسلامي وفق رؤية الشهيد آية الله السيّد محمّد باقر الحكيم
سماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد رياض الحكيم
استاذ بحث خارج في الحوزة العلمية
عام 2008 م
شارك البحث في المؤتمر الفكري الثالث الذي عقدته مؤسسة تراث الشهيد الحكيم (قدس سره) في النجف الأشرف عام 2008م تحت عنوان: (فكر الشهيد الحكيم ودمه الزاكي يضيئان الطريق أمام وحدة العراق ونهضته العلمية).
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
الشهيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) عالم بارز، حمل منذ بداية شبابه لواء المواجهة مع السلطات الجائرة، ثم كان أحد أبرز العلماء المجاهدين، حيث واجه أعتى طاغية عرفهُ العصر الحديث، وخاض الشهيد الحكيم (قدس سره) خلال هذه المسيرة الشائكة المعتركين الجهادي والسياسي بكل التفاصيل والمخاطر والتعقيدات، رسم خلال ذلك معالم شاخصة ميّزت شخصيته ومسيرته عما سبقها بامتيازات تستحق الدراسة والتمعن والاقتباس، وكثير منها ما زالت مغفولة في بحوث دارسيه، وكان الرافد له في هذا المخاض العسير والمعترك الشائك إيمانه بقضيته وإخلاصه وعزيمته الراسخة، ومواهبه المتنوّعة ويأتي في مقدّمتها قدرته الفائقة على التنظير والربط بين المواقف والأحداث، وجمع الأشتات المتناثرة البعيدة لتكوّن عناصر اُطروحة أو رؤية شاملة يؤصّلها بنظرته الفاحصة.
ومن أبرز تطبيقات هذه الموهبة النادرة للشهيد الحكيم (قدس سره) هو تعاطيه مع موضوع أهل البيت (عليهم السلام) حيث لم يأسره مقامهم الشامخ ولم تشغله مناقبهم عن الغور والتمحيص فيما سُجِّل من سيرتهم وحُفِظ من أحاديثهم وتوجيهاتهم المتنوّعة لاستكشاف طبيعة دورهم واستراتيجيتهم واقتناص الرابط بين عناصر اُطروحتهم الجامعة.
وسوف اقتبس رؤية الشهيد الحكيم (قدس سره) لاُطروحة أهل البيت (عليهم السلام) في بناء المجتمع الإسلامي – بالدرجة الأساس – من خلال كتابه القيّم «دور أهل البيت (عليهم السلام) في بناء الجماعة الصالحة» والذي يعتبر انجازاً علمياً وبحثياً مهمّاً ومبتكراً بهذه السعة والشمولية – فيما أعلم – ورغم أن هدف الكتاب – كما ينبئ عنه عنوانه – هو تبيين دور أهل البيت (عليهم السلام) في بناء وإغناء وتوجيه أصحابهم وشيعتهم، إلاّ أنه من خلاله يمكن استكشاف اُطروحتهم في بناء المجتمع الإسلامي العام بسبب وفرة النقاط المشتركة بين الدَّورين وتداخل الهدفين.
وسيلاحظ القارئ أو المستمع قدرة الشهيد الحكيم (قدس سره) الفائقة في التنظير والربط بين شتات السيرة والروايات لتتكوّن منها اُطروحة شاملة ومتكاملة، وسوف اقتصر في هذا البحث – مراعياً ظروف المؤتمر الموقر – على محورين:
الأوّل: مسؤولية المجتمع الإسلامي وفق رؤية أهل البيت (عليه السلام).
الثاني: معالم أو سمات المجتمع الإسلامي وفق رؤية أهل البيت (عليه السلام).
تاركاً البحث التفصيلي في باقي المحاور إلى فرصة أخرى إن شاء الله تعالى.
المحور الأوّل
مسؤولية المجتمع الإسلامي
حيث يشير الشهيد الحكيم (قدس سره) إلى ست نقاط تمثل مسؤولية المجتمع الإسلامي:
1 – الالتزام الديني والأخلاقي
أما البُعد الأول، فباعتبار أن المجتمع المسلم تحمّل مسؤولية حمل شعلة الحق فمن الطبيعي أن تكون في مقدمة مسؤولياته التزامه بتعاليم دينه بأبعاده العقيدية والفقهية، ففي الحديث عن المثنى عن أبي بصير قال: «دخلت على أم حميدة – جارية الإمام الصادق (عليه السلام) – أعزيها بأبي عبد الله (عليه السلام) فبكت وبكيت لبكائها، ثم قالت: يا أبا محمد لو رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) عند الموت لرأيت عجباً! فتح عينيه ثم قال: اجمعوا كل من بيني وبينه قرابة، قالت: فما تركنا أحداً إلا جمعناه، فنظر إليهم ثم قال: إن شفاعتنا لا تنال مستخفا بالصلاة»[1].
وأما البُعد الثاني، فقد أكد عليه أهل البيت (عليهم السلام) في وصاياهم وتوجيهاتهم الكثيرة، ففي الحديث عن زيد الشحام قال: «قال لي ابو عبد الله (عليه السلام): اقرأ على من ترى أن يطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام، وأوصيكم بتقوى الله (عزّ وجل) والورع في دينكم والاجتهاد لله، وصدق الحديث وأداء الأمانة وطول السجود وحسن الجوار فبهذا جاء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأدّوا الأمانة إلى من أئتمنكم عليها براً أو فاجراً، فان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط»[2].
وسيأتي الحديث حول الموضوع في باب سمات المجتمع الإسلامي.
2 – الاستقامة والمحافظة على شعلة الحق
إن من أشد آفات المجتمعات الدينية السابقة هو عجزها عن المحافظة على شعلة الحق، فلم تلبث أن انحرفت بمجرد غياب أنبيائها عنها، ويلاحظ أن الانحراف تعدى التعاليم الثانوية حتى شمل أساس هذه الأديان السماوية والتي ضحى من أجله الأنبياء والمرسلون وأتباعهم وهو موضوع التوحيد. حيث شابها عندهم الإبهام، بل الانحراف والتشويه.
وكان لابد لأهل البيت (عليهم السلام) – وهم يتحملون مسؤولية رعاية الأمة بعد رحيل النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) – أن يعالجوا هذه الآفة الخطيرة من خلال آليّة فاعلة تصون الأمة من الانحراف، ونظراً إلى أن منشأ الانحراف في الأمم ينبع عادة من انحراف قياداتهم الروحية فقد عالجوا هذا الموضوع – كما أشار إلى ذلك الشهيد الحكيم (قدس سره) – من خلال تثبيت الضوابط الموضوعية المعتبرة في القيادات والمرجعيات الدينية – في غياب القيادة المعصومة – وفي مقدمة هذه الضوابط التميّز العلمي والعدالة، باعتبارهما الركيزتين الأساسيتين، لضمان سلامة مسيرة الأمة واستقامتها، فالعمق العلمي وفتح باب الاجتهاد هو الوسيلة المنطقية للتطور والعمق وتلاقح الأفكار، كما أن العدالة هي الوسيلة الوحيدة لضمان عدم استغلال العالم لعلمه وإيثار مصلحته، كما أكد عليه أهل البيت (عليهم السلام) في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): «فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه مخالفا لهواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه، وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا كلهم»[3].
وقد انعكس هذا التوجه بشكل واضح لدى أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، حيث استطاعوا مواجهة الفتن المتنوعة والمخاضات العسيرة بفضل النخبة الصالحة من العلماء، وكان لهذا التوجيه جذوره العميقة في إستراتيجية أهل البيت (عليهم السلام) تجاه تلامذتهم وأصحابهم، ففي الحديث عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنه قال: «لما حضرت أبي (عليه السلام) الوفاة قال: يا جعفر أوصيك بأصحابي خيرا، قلت: جعلت فداك والله لأدعنَّهم والرجل منهم يكون في المصر فلا يسأل أحدا»[4].
3 – التكافل الاجتماعي ومحاربة الفقر
لقد بحث الشهيد الحكيم (قدس سره) مواقف أهل البيت (عليهم السلام) المرتبطة بالجانب الاقتصادي، ومسؤولية المجتمع الإسلامي في نظرهم في محاربة الفقر ومساعدة الفقراء وإيجاد العدالة والرخاء الاقتصادي مستشهداً بمجموعة من النصوص الواردة في هذا المضمار منها:
ما رواه زرارة بن اعين ومحمد بن مسلم عن الإمام الصادق (عليه السلام) – في حديث – قال: «إن الله فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم، ولو علم أن ذلك لا يسعهم لزادهم، إنهم لم يؤتَوا من قِبَلِ فريضة الله(عزّ وجل) ولكن اوتوا مِن منْعِ مَنْ منعَهم حقَّهم، لا مما فرض الله لهم، فلو ان الناس أدَّوا حقوقهم لكانوا عائشين بخير»[5] ونلاحظ في النص أن الإمام (عليه السلام) يحمّل المجتمع الإسلامي وبالأخص أغنياءه مسؤولية محاربة الفقر من خلال أداء الضرائب المالية التي تساهم في إنعاش الاقتصاد ودعم الفقراء.
ومن زاوية أخرى حثّوا الأمة على العمل والنشاط الاقتصادي وحذّروهم من الكسل والتواكل ففي الحديث عن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) قال: «قال أبي لبعض ولده: إياك والكسل والضجر فإنهما يمنعانك من حظك من الدنيا والآخرة»[6]وفي حديث آخر عن أيوب قال: كنا جلوساً عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذ اقبل العلاء بن كامل، فجلس قدام أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: «ادع الله أن يرزقني في دعة. فقال: لا أدعو لك، اطلب كما أمرك الله (عزّ وجل)»[7].
4 – مواجهة الإلحاد والبدع لمنع تطمس هوية الأمة
سواء منها الوافدة من المجتمعات الأخرى أم التي يبتدعها المنحرفون داخل المجتمع الإسلامي، كما ظهر جلياً من خلال مواقف أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من الزنادقة والمنحرفين في عصورهم وتوجيه أصحابهم لمواجهتهم. بل تضمنت بعض الروايات أنهم (عليهم السلام) كانوا ينتقون من بين أصحابهم من يتصدى للمناقشة العملية ويمنعون غير المؤهل لذلك، حيث يروى أن محمد بن علي بن النعمان – الملقب بمؤمن الطاق – كان له مجلس للمناظرة، فدنا منه شخص آخر من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) وقال له: «إن الإمام نهانا عن المناظرة، فقال له مؤمن الطاق: أَوَ أمرك أن تقول لي؟ قال: لا، ولكنه أمرني أن لا اُكلّم أحداً. قال اذهب فأطعه فيما أمرك»[8].
5 – إقامة العدل ومقارعة الظلم
حيث ضرب أهل البيت (عليهم السلام) مثالاً حياً للمجتمع الإسلامي في الدعوة لإقامة الحق ومقارعة الظلم، فأعلنوا ذلك مبدأ، وقدّموا في سبيله التضحيات الجسام بكل غالٍ ونفيس ابتداءً من الإمام علي (عليه السلام) الذي يقول: «والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت»[9].
وكذلك الإمام الحسين (عليه السلام) الذي ضحى بنفسه واُسرته وأطفاله وأصحابه وسبي عائلته – مخدرات الرسالة – معلّلاً كل ذلك بقوله: «والله ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)»[10]. وكذلك باقي الأئمة (عليه السلام).
وقد بلغ من تحذير أهل البيت (عليهم السلام) من الركون إلى الظالم ودعمه بما ورد عن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) في خطابه لزياد بن أبي سلمة: «… إن أهون ما يصنع الله جلّ وعزّ بمن تولى لهم عملاً أن يضرب عليه سرادق من نار إلى أن يفرغ الله من حساب الخلائق..»[11].
6 – الدفاع عن كيان الأمة وبلاد المسلمين
حيث أكد أهل البيت (عليهم السلام) على تحمل المسلمين مسؤولية الدفاع عن بلادهم وكيانهم، وهو ما يصطلح عليه الفقهاء بالجهاد الدفاعي والدفاع عن بيضة الإسلام أي: كيان الإسلام، وقد نص الفقهاء على أن هذا واجب يشمل الجميع كلاًّ حسب قدرته، لا يستثنى منه مريض ولا شيخ كبير ولا امرأة.
وكان موقف الإمام علي (عليه السلام) وسكوته عن حقه المشروع ومداراته لمن عاصرهم من الخلفاء رعاية لمصلحة الإسلام العليا خير شاهد على نهج أهل البيت (عليهم السلام) ورؤاهم في هذا المضمار، وقد قال (عليه السلام) في ضمن عهده إلى مالك الاشتر: «فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوتِ ولايتكم.. فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدين وتَنهنه»[12].
7 – الوئام ووحدة الصف الإسلامي
أكد أهل البيت (عليهم السلام) على وحدة الصف الإسلامي وتجنب ما يوجب الفوضى الأمنية والاجتماعية وتمزيق الأمة.
وتتجلى رؤية أهل البيت (عليهم السلام) من خلال توجيهاتهم الحثيثة على التواصل والترابط بين أبناء الأمة رغم اختلاف المذاهب والاجتهادات الفكرية والعقيدية, وقد استشهد (قدس سره) بما جاء في الحديث الصحيح عن معاويةَ بن وهب قال: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف ينبغي لنا أن نصنعَ فيما بيننا وبين قومنا, وفيما بيننا وبين خلطائنا من الناس؟ قال: فقال: تؤدّون الأمانة إليهم, وتقيمون الشهادة لهم وعليهم, وتعودون مرضاهم وتشهدون جنائزهم».
علّق الشهيد الحكيم (قدس سره) على ذلك قائلاً: «فالمطلوب هو التعايش والانسجام مع عموم المسلمين والتعاون والتناصر والتكامل في الأمور المشتركة ذات العلاقة بمصلحة الأمة كلها والعقيدة الإسلامية»[13].
وأضاف (قدس سره): «وقد التزم أتباع أهل البيت (عليهم السلام) بهذه التوصيات ومارسوها من موقع القوة والقدرة, كما التزموا بها في مواضع الضعف والمطاردة, ولذلك لم يعرف عن شيعة أهل البيت (عليهم السلام) أنهم مارسوا عمليات القمع والاستئصال ضد أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى, حتى في الحالات التي كانوا يمسكون فيها بأزمّة الأمور, وإنما كانوا دائماً يتمسكون بنهج الدفاع عن النفس عندما يتعرضون للعدوان في أشدّ الحالات, وقد يتمسكون بالصبر والسكوت وتحمّل ألوان الأذى والهضم لحقوقهم الطبيعية تأثراً بهذا النهج»[14].
أقول: إن ما جرى في العراق شاهد حي على ما ذكره الشهيد الحكيم (قدس سره) حيث نلاحظ مدى الشعور بالمسؤولية الأخلاقية والدينية والوطنية التي انعكس على ممارسة شيعة أهل البيت (عليهم السلام) في تعاملهم مع جزّاريهم وأذنابهم إبان حكم نظام البعث البائد وبعد سقوطه ليتضح الفارق الشاسع بين النهجين كما قال الشاعر:
فحسبكم هذا التفاوت بيننا ****** وكل إناء بالذي فيه ينضح
المحور الثاني
سمات المجتمع الإسلامي في أطروحة أهل البيت (عليهم السلام)
1 – تطبيق التعاليم والأحكام الإسلامية
إن المجتمع الذي تبنّى هذا الدين وانتسب للإسلام من الطبيعي أن يثبت مصداقية انتسابه المذكور من خلال انعكاس ذلك على الواقع الخارجي، فتسود فيه تعاليم الدين وقيمه، ولا يقتصر على الانتساب اللفظي والرسمي للإسلام، وفي هذا المضمار – كما يقول الشهيد الحكيم (قدس سره) – فرّقت مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) بين الإسلام والإيمان، وربطت بين الإيمان والتطبيق العملي لتعاليم الإسلام، وأن كمال الدين مرتبط بمدى انعكاسه على ممارسة الشخص وسلوكه.
يقول الشهيد الحكيم (عليهم السلام) – بعد أن أشار إلى اختلاف علماء المسلمين في حقيقة الإيمان ـ: «وكان مذهب أهل البيت (عليهم السلام) يتأثر الإيمان إلى حدّ كبير – صعوداً ونزولاً – بالممارسات العملية، فكلّما مارس العبد هذا الالتزام القلبي عملياً وجسّده في سلوكه خارجياً تصاعدت درجة هذا الإيمان والالتزام من ناحية وثبت في قلبه ووجدانه من ناحية أخرى»[15].
واستشهد (قدس سره) بما جاء في رواية حماد بن عمرو النصيبي عن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام): «قلت: أخبرني عن الإيمان أقَوْل وعمل أم قول بلا عمل؟ قال: الإيمان عمل كلّه، والقول بعض ذلك العمل.. قلت: وإنْ الإيمان ليتُمّ ويزيد وينقص؟ قال: نعم. قلت: وكيف ذلك؟ قال: إن الله تبارك وتعالى فرض الإيمان على جوارح بني آدم وقسّمه عليها وفرّقه عليها، فليس من جوارحهم جارحة إلاّ وهي موكلّه من الإيمان بغير ما وُكِّلت به أختها..»[16].
ويلاحظ في النص الربط الوثيق بين الإيمان والجوارح التي تمثل التطبيق والسلوك العملي.
ولم يكتفِ الشهيد الحكيم (قدس سره) بالتأكيد على البُعد الفردي للالتزام الديني، بل كان يرى ضرورة انعكاسه على النشاط الاجتماعي والسياسي، وهو ما كان يسميه بالتقوى السياسية. وقد انعكس ذلك الالتزام بشكل واضح في سلوكه (قدس سره) وتعامله مع خصومه السياسيين، فلم يقابلهم بأسلوب الطعن والتسقيط متميّزاً بذلك عن كثير من المتصدين للشأن العام من شخصيات وحركات وأحزاب سياسية، بل حتى في جلساتنا الخاصة معه كان ينعتهم بالإخوة متجنّباً نبزهم والطعن فيهم.
2 – الالتزام بالمعايير الأخلاقية بكل أبعادها ومجالاتها
إنّ مِن أولويات الإسلام ورموزه التأكيد على مكارم الأخلاق حتى ورد عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «انما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» وقد حثّ أهل البيت (عليهم السلام) على إشاعة المحبة والإحسان داخل المجتمع، ففي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «اصنع المعروف إلى من هو أهله والى من ليس من أهله، فان لم يكن هو أهله فكن أنت من أهله»[17].
وينطلق الشهيد الحكيم (قدس سره) إلى أبعد من ذلك، حيث يؤكد على دور الأخلاق في صياغة النظام والحكم الشرعي للمجتمع، مضيفاً أنه وفق رؤية أهل البيت (عليهم السلام) لا يكون الحكم الشرعي مجرّد إلزام أو إقرار يمارس فيه الله تعالى ولايته المطلقة على الإنسان، بل هو – إلى جانب ذلك – يمثل العدل والحكمة الإلهيين، والغنى المطلق منه تعالى عن أفعال هذا الإنسان، فهو يعبّر عن المصالح والمفاسد المرتبطة بحياة الإنسان ومسيرته التكاملية في الحياة، فهو ذو بُعدٍ ومحتوىً أخلاقي.
وأضاف (قدس سره): «وبهذا يمكن أن نفهم أهمية المعركة الكلامية التي خاضها أهل البيت (عليهم السلام) وحدّدوا فيها البعد الأخلاقي في الأحكام الشرعية من خلال قضية الحسن والقبح في الإرادة الإنسانية.. (و) أنّ أهل البيت (عليهم السلام) عندما وجّهوا أتباعهم إلى التزام هذا الاعتقاد، وأصبح أحدُ أصول مذهبهم هو الالتزامَ بالعدل الإلهي، أرادوا بذلك أن يؤسّسوا القاعدة الأخلاقية في البناء الروحي والمعنوي لأتباعهم, ويوجدوا نوعاً من الحصانة النفسية والروحية عن الوقوع في الانحرافات الأخلاقية الكبرى, كالظلم والعدوان أو مناصرتهما أو السكوت عنهما على الأقل»[18].
أقول: إن مما ينقص الأمة الإسلامية اليوم هو إدراك هذه العلاقة والترابط بين الحكم الشرعي والمعايير الأخلاقية السامية, وقد انعكس غياب هذا الإدراك على أخلاقية الكثير من التيارات والجماعات التي انتهجت التطرّف والعنف وصارت تمارس أبشع أنواع الجرائم المروّعة التي تندى لها جبين الإنسانية باسم الدين على أساس المسؤولية الشرعية المزعومة, جاهلين أو متجاهلين ذلك الترابط المحكم بين الأحكام الشرعية والمعايير الأخلاقية النبيلة، الذي أشار إليه شهيدنا الغالي (قدس سره)، فكان هؤلاء من أبرز مصاديق من أشار إليهم قوله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)[19]. حيث شوهت ممارساتهم الإجرامية تلك الصورة المشرقة للإسلام ولنبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي بعث لتوطيد وإتمام مكارم الأخلاق.
وكان (قدس سره) يحذّر دائماً من هذا الخط المنحرف ومن ويلاته ويؤكد على مسؤولية الأمة في مواجهته وتعريته، وأتذكر أني سألته – في التسعينيات – عن الجهة المسؤولة بالدرجة الأساس والمباشرة للمجازر البشعة بحق المدنيين الأبرياء في الجزائر. فقال: إنهم السلفيون المتطرفون الذي يكفّرون جلّ المسلمين ولا يرون لهم حرمة، فهم يمارسون هذه الجرائم البشعة بحقهم لمجرّد إرباك الوضع الأمني في البلد. بينما كانت بعض القيادات الإسلامية الأخرى ووسائل إعلامهم تبرّئ المتطرفين الإسلاميين من تلك المجازر.
وشاءت الأقدار أن يكون الشهيد الحكيم (قدس سره) احد ضحايا الحلف المشبوه بين هذا التيار الظلامي وأزلام الطاغية الذين امتهنوا القمع والإجرام وجرّوا الويلات والخراب والدمار على العراق والمنطقة.
3 – الشعور بالمسؤولية
يؤكد الشهيد الحكيم على أهمية شعور الأمة بالمسؤولية الثقيلة الملقاة على عاتقها وفق رؤية أهل البيت (عليهم السلام) وذلك من خلال تأكيدهم (عليهم السلام) «لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله لمقاومة الظلم والبغي والانحراف, ومبدأ النصرة للمسلمين, وكذلك مبدأ التعاون فيما بينهم، ومبدأ الاهتمام بأمورهم, ومبدأ النصيحة لهم, ومبدأ الإخوة بينهم, وحرمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم, ومبدأ التعايش مع الناس من المسلمين, وغيرها من المبادئ التي تشكل بمجموعها قاعدة قوية ومنهجاً متكاملاً لهذا الشعور والإحساس»[20].
ولأجل دعم موقف الأمة وقدرتها على تحمل المسؤولية الثقيلة الملقاة على عاتقها أكد أهل البيت (عليهم السلام) على عنصرين رئيسيين في هذا المضمار:
أ – الصبر ومقاومة التحديات
قال الشهيد الحكيم (قدس سره): «لا شك أنّ روح المقاومة والصمود والتحمّل والصبر على المكاره والآلام والمحن من أهم الصفات المعنوية التي تؤهل الجماعة للبقاء والاستمرار من ناحية, وللقيادة والريادة للجماعات الإسلامية الأخرى في المواجهة العامة التي تمرّ بها الأمة من ناحية ثانية, والى تحقيق النصر والغلبة على الأعداء من ناحية ثالثة»[21] خاصة مع ملاحظة أن الحياة ساحة للصراع الدائم بين الحق والباطل والخير والشر، فمن الطبيعي أن يواجِه المجتمعُ الإسلامي الذي رفع شعلةَ الحق الكثيرَ من المصاعب والتحديات، ولابدّ أن تسود بين أبنائه ثقافة الصبر وتحمّل الصعاب والاستعداد للتضحية والفداء، وهو ما أكده أهل البيت (عليهم السلام) كثيراً.
وقد استشهد الشهيد الحكيم (قدس سره) بالعديد من الروايات الواردة عنهم (عليهم السلام) ومن ضمنها حديث طويل لحفص بن أبي غياث عن الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) جاء في بعض فقراته قال: «عليك بالصبر في جميع أمورك, فان الله عزّ وجلّ بعث محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمره بالصبر والرفق فقال: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا)[22] فصبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في جميع أحواله (و) قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد… ويُختتَم الحديث بقول الإمام الصادق (عليه السلام) فمن صبر واحتسب لم يخرج من الدنيا حتى يُقرّ (الله) له عينه في أعدائه مع ما يدّخر له في الآخرة»[23].
ب – إذكاء شعلة الأمل التي لا تنطفئ
إن أية أُمة تروم البقاء والتقدم والنجاح في تحقيق أهدافها لابد لها من أن تعيش الأمل والتفاؤل لتنبض فيها الحيوية والروح الوثابة ومواجهة التحديات.
قال الشهيد الحكيم (قدس سره): «وقد عالج أهل البيت (عليهم السلام) هذا الجانب بأساليب متعددة إلاّ أن أهم نقطة… هي قضية الانتظار لظهور الإمام القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف) حيث لم يكتفِ الأئمة (عليهم السلام) في الحديث عنه لمجرّد طرح هذه الحقيقة وطلب الإيمان بها… بل كانوا يسعون دائماً إلى أن يجعلوا شيعتهم يعيشون حالة الانتظار الحقيقي للظهور»[24].
إن إحياء قضية الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في نفوس الأمة لا ينبع من رؤية مذهبية, لأنها من الحقائق الإسلامية التي أذعن لها جلّ المسلمين – على اختلاف مذاهبهم – وإن اختلفوا في تفاصيلها, إلاّ أن عدم انسهم بثقافة أهل البيت (عليهم السلام) وتوجيهاتهم أبعدهم عن معايشتها، حتى تحوّلت إلى قضية ثانوية وهامشية عندهم رغم أهميتها.
4 – توثيق الارتباط الروحي بعالم الغيب
وتأتي أهمية هذا العنصر باعتبار أن فلسفة الإسلام وباقي الأديان السماوية تعتمد على الإيمان بالغيب وأن الله سبحانه جعل الحياة مختبراً للإنسان باعتبارها قنطرة الآخرة ومزرعتها, وأن ما يزرعه الإنسان فيها يحصده في آخرته – كما أشارت إليه النصوص – وكما قال تعالى: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[25].
وكلّما قوي ارتباط الأمة الروحي والمعنوي بالخالق تعالى قويت شكيمتهم واستقامت مسيرتهم وتطوّر أداؤهم، وقد أكد أهل البيت (عليهم السلام) على هذا الجانب وأثرَوا التراث الإسلامي بأدوات هذا الارتباط الروحي من الصلوات المستحبة والأدعية والمناجاة.
قال الشهيد الحكيم (قدس سره): «حيث يلاحظ هذا الاهتمام العظيم في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) بقضية الدعاء وهذه الثروة الغنية والكنوز الثمينة من الأدعية الشريفة، سواء في أعقاب الصلوات، أم في تفاصيل اليوم والليلة، أم في الأيام المختلفة من السنة، أم المواسم الدينية الإسلامية كشهر رمضان، وشعبان، ورجب، وذي الحجة، والأيام الشريفة مثل: الأعياد الإسلامية، أو المناسبات الأخرى، أم الصلوات المختلفة ذات المناسبات أو الأبعاد، بحيث نجد في تراثهم كتباً واسعة معروفة ومتداولة في جميع العصور.
مضافاً إلى الأدعية الواسعة والكبيرة ذات الطبيعة التربوية والثقافية أمثال: دعاء الإمام علي (عليه السلام) الذي يرويه كميل بن زياد النخعي، ودعاء الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عرفة، ودعاء الإمام زين العابدين الذي يرويه أبو حمزة الثمالي، ودعاء الجوشن وأدعية الصحيفة السجادية وغيرها كثير.
وهذه الأدعية والصلوات مضافاً إلى جانبها الثقافي الذي أشرنا إليه، تمثل بُعداً روحياً عظيماً في بناء قاعدة الارتباط بالله تعالى والتقوى والخوف والرجاء في نفس الإنسان المتعبِّد»[26].
5 – نظام العلاقات العامة
وللشهيد الحكيم (قدس سره) في هذا الموضوع حديث طويل ورؤية شاملة أقتبس منه رؤاه للعلاقات من ثلاثة أبعاد..
أ – بُعد العلاقات الدولية، حيث أكد على أهمية انفتاح المجتمع الإسلامي في علاقاته الخارجية مع المجتمعات والأمم الأخرى، وعدم الانغلاق فضلاً عن إثارة ما يوجب البغض والشحناء والنفرة مع غير المسلمين.
ب – بُعد العلاقات الإسلامية ووحدة المجتمع الإسلامي والترابط بين أبنائه، حيث أكد أهل البيت (عليهم السلام) من خلال مسيرتهم وتوجيهاتهم على وحدة الأمة تطبيقاً للرؤية القرآنية (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)[27] وان انعكاس هذه الوحدة لا يقتصر على الإيمان بالقواسم العقيدية المشتركة, بل لابدّ أن ينعكس ذلك على السلوك من خلال الترابط والمواصلة بين أبناء المجتمع الإسلامي الواحد رغم الاختلافات الإثنية وتنوّع المذاهب والاتجاهات الفكرية والثقافية.
ويتحدث الشهيد الحكيم (قدس سره) عن اهتمام أهل البيت (عليهم السلام) في «تحقيق الوحدة والانسجام في المجتمع الإسلامي، ولذا نجدهم يحرّضون شيعتهم على إيجاد روح التضامن والتكافل والوفاء بالعهود والمواثيق مع بقية أطراف المجتمع, ويحثّونهم على حسن المعاشرة والجوار والحضور في الجنائز والمساجد وعيادة المرضى مع تأكيد عدم إمكان الاستغناء عن الناس والحاجة إليهم»[28].
وكأنه (قدس سره) يشير إلى حديث مرازم عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنه قال: «عليكم بالصلاة في المساجد، وحسن الجوار للناس, وإقامة الشهادة, وحضور الجنائز، إنه لابدّ لكم من الناس, إنّ أحداً لا يستغني عن الناس حياتهَ. والناس لابدّ لبعضهم من بعض»[29].
وأوضح دلالة على ذلك حديث معاوية بن وهب المتقدم.
ج – بُعد العلاقات الخاصة، وسوف اقتصر – رعاية للاختصار – على خصوص العلاقة بين الأقارب والأرحام، حيث يرى الشهيد الحكيم (قدس سره) أن منشأ تأكيد الإسلام وتعاليم أهل البيت (عليهم السلام) على صلة الأرحام لا يقتصر على بُعده الإنساني، حيث يقول (قدس سره): «إن موضوع المعاملة الخاصة مع الأرحام يُعدّ بُعداً اجتماعياً تنظيمياً مهماً، يرتبط بنظرة الإسلام إلى الهيكلية العامة للمجتمع..»[30].
وأضاف (قدس سره) في بعض جلساتنا معه: بأن تقوية أواصر القربى وتماسك العشائر تساهم أيضاً في شعور المرء بالمسؤولية والرقابة الاجتماعية عليه مما يساهم إلى حدّ كبير في الانضباط السلوكي واستقامته، وأنّ هذه من الآليات المعتمدة في الإسلام لحفظ التماسك الاجتماعي والتهذيب السلوكيّ لأبناء المجتمع الإسلامي، وقد وُثّقت هذه الرابطة بالعديد من التشريعات التي تربط مصير ومصالح ذوي القربى ببعضهم، مثل: أحكام الإرث، والدية، فان شعور ذوي القربى بتحملّهم مسؤولية ممارسات بعضهم وانعكاسها عليهم يشدّد الرقابة الاجتماعية ويضفي مزيداً من الشعور بالمسؤولية لدى أفرادهم، فيساهم ذلك في الابتعاد عن الانحرافات الاجتماعية والشذوذ، كما يصون المجتمع من الاختراقات الأمنية وغيرها.
6 – الاعتدال والواقعية
حيث كان الشهيد الحكيم (قدس سره) يرى أن اُطروحة أهل البيت (عليهم السلام) ترسم النهج الاعتدالي والواقعي للمجتمع الإسلامي بعيداً عن التطرف في المواقف والانفعالية في التعاطي مع الأحداث، لأنه بالإضافة لكونه المنهج السليم لفهم وتطبيق تعاليم الإسلام، يتوقف عليه استقرار المجتمع والتعايش بين مكوّناته وكياناته المتفاوتة في اتجاهاتها الفكرية والثقافية وغيرها. وكان (قدس سره) يؤكد أن التطرف والانفعالية من الآفات الخطيرة التي يلزم تثقيف المجتمع الإسلامي على نبذها والتخلص منها.
7 – الحرية السياسية
كان الشهيد الحكيم (قدس سره) يؤكد في جلسات الحوار التي كنّا نلتقيه فيها على اعتراف مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) بالحرية السياسية لمعارضي الحاكم الإسلامي, وكان يستشهد على ذلك بموقف الإمام علي (عليه السلام) إبان فترة حكمه من معارضيه وممن رفض بيعته، فضلاً عمّن كان ناقداً ومعترضاً على مواقفه (عليه السلام) رغم أنه كان يمثل الشرعية الإسلامية بكل المقاييس، وكان الشهيد الحكيم (قدس سره) يرى في ذلك نهجاً وتشريعاً للحرية السياسية لمعارضي الحاكم الإسلامي, وانه ليس مجرد تسامح شخصي من الإمام (عليه السلام) تجاه معارضيه، وإنما جسّد الإمام (عليه السلام) بذلك شرعة الإسلام وسيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل، حيث إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) برغم معرفته بمواقف المنافقين والمرجفين «مع ذلك لم يتخذ أيّ عملٍ قمعي ضد مناوئيه، وذلك لأنه لا يوجد في النظرية الإسلامية قرار يتخذ أسلوب القمع لأي عمل، لمجرد أنه عمل سياسي، ما دام المسلم يرفع شعار الإسلام (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فله – الفرد المسلم – حرية التحرك من الناحية السياسية ما لم يرفع سيفاً، ويستخدم القوة في مقابل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى لو كان هذا العمل حراماً ومُداناً من الناحية الشرعية، ومخالفاً لطاعة الله وطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)»[31].
وهكذا كان (قدس سره) يؤكد أن المجتمع الإسلامي يسع المعارضين للحاكم, ناقداً بذلك مواقف السلطات الحاكمة في البلاد الإسلامية التي تستبيح حرمات المعارضين وتقمعهم بكل قسوة، مما ساهم في تخلّف المجتمعات الإسلامية عن ركب الحضارة الإنسانية، وتمزيقها بالصراعات الداخلية ودوامة العنف التي تلازمها.
وأكتفي من خلال ما ذكرته بطرح جوانب من رؤية الشهيد الحكيم (قدس سره) عن أطروحة أهل البيت (عليهم السلام) لبناء المجتمع الإسلامي من محوري مسؤولية المجتمع الإسلامي، وسماته ومعالمه. آملاً أن تكون منفذاً لدراسات وبحوث أوسع في هذا المجال.
رحم الله تعالى شهيد المحراب ومن استشهد معه في مجزرة الجمعة الدامية، وجميع الشهداء على مرّ العصور، خصوصاً الشهداء الأبرار بأيدي الطغيان والإرهاب الأعمى في عراقنا الجريح. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.
[1] وسائل الشيعة (الإسلامية): الحر العاملي 3 /17 باب تحريم الاستخفاف بالصلاة ح11.
[2] دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة: 1/294.
[3] وسائل الشيعة (الإسلامية): الحر العاملي: 27 / 131 باب عدم جواز تقليد غير المعصوم ح20.
[4] الكافي: الشيخ الكليني: 1/306، ح2.
[5] يراجع دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة: 1/390 نقلاً عن وسائل الشيعة: 6/143.
[6] المصدر السابق: 1/441 نقلاً عن الكافي: 5/85.
[7] المصدر السابق: 1/438 نقلاً عن الكافي: 5/110.
[8] الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، محمود الجندي/220.
[9] نهج البلاغة: خطب الإمام علي (عليه السلام): 2 /218.
[10] بحار الأنوار: العلامة المجلسي: 44/330.
[11] يراجع دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة: 1/441 نقلاً عن الكافي: 5/110.
[12] نهج البلاغة 3: 119، كتاب62.
[13] يراجع دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة: 1/269 نقلاً عن الكافي: 2/635.
[14] المصدر السابق: 1/268.
[15] دور أهل البيت (عليهم السلام) في بناء الجماعة الصالحة: 1/106.
[16] دور أهل البيت (عليهم السلام) في بناء الجماعة الصالحة: 1/107 نقلاً عن الكافي 2/38.
[17] وسائل الشيعة 11/528.
[18] دور أهل البيت (عليهم السلام) في بناء الجماعة الصالحة: 1/103.
[19] الكهف 103 – 104
[20] يراجع: دور أهل البيت (عليهم السلام) في بناء الجماعة الصالحة: 1/82.
[21] دور أهل البيت (عليهم السلام) في بناء الجماعة الصالحة: 1/187.
[22] المزمل: 10.
[23] المصدر السابق: 2/144 و145، نقلاً عن الكافي: 2/88، ح3.
[24] المصدر السابق: 1/196.
[25] العنكبوت: 64.
[26] دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة: 1/170.
[27] الأنبياء: 92.
[28] دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة: 1/46
[29] المصدر السابق: 1/47 نقلاً عن الكافي 2/ 635، ح1.
[30] المصدر السابق: 1/491.
[31] كتاب الزهراء (عليها السلام) أهداف، مواقف، نتائج: للشهيد السيد محمد باقر الحكيم: 61.
