الإمامة في فكر السيّد محمد باقر الحكيم

motmar3

أ. م. د رؤوف الشمري

كلية الفقه / جامعة الكوفة

عام 2008 م

شارك البحث في المؤتمر الفكري الثالث الذي عقدته مؤسسة تراث الشهيد الحكيم (قدس سره) في النجف الأشرف عام 2008م تحت عنوان: (فكر الشهيد الحكيم ودمه الزاكي يضيئان الطريق أمام وحدة العراق ونهضته العلمية).

تعريف الإمامة

 يرى المتكلمون أنّ الإمامة تجري في اللغة على معنى الإتباع والاقتداء، والإجمال حاصل على هذه الجملة، يعني أنّ الإمام مقتدىً به[1] وهذا المعنى أشار إليه السيد الحكيم (قدس سره) حين ذكر أنّ الإمامة هي القيادة للمسيرة في مواجهة الإلهة المزيفة أو المحرّفة، وهي تكون موجودة مع النبوة وبعدها إذا كانت المعركة قائمة أو متوقعة[2] وتعد من الأسس والعناصر الرئيسية في الوحدة الدينية الخاتمة[3].

النبوة والإمامة

 يرى السيد الحكيم أن الإمامة تشترك مع النبوة في المهمات الأساسية التي تتحملها النبوة الخاتمة التي أشار إليها القرآن الكريم، وهي: (تلاوة آيات البلاغ) و(التزكية والتطهير للأمة والجماعة) و(تعليم الكتاب والحكمة) قال تعالى (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)[4].

ولاشك أن كل ذلك مما يستلزم أن يكون الرسول والإمام مستوعباً للرسالة بكاملها ومحافظاً عليها، ليكون قادراً على إبلاغها وتعليمها والتزكية والتطهير بها.

لكن النبوة تمتاز عن الإمامة في نظره الشريف في عدة أمور[5]:

1ـ إن النبي يكون حاملاً رسالة من الله تعالى، تأتيه من خلال الوحي الإلهي، أما الإمام فإنه مستودع لهذه الرسالة من قبل النبي، وإن كان معيّناً من قبل الله تعالى في ذلك.

2ـ إن إحدى الأدلة التي تثبت نبوة النبي من عند الله تعالى هي (المعجزة) أما الإمام فإنّ ما يثبت إمامته عند الناس والحجة التي له على الناس، إنما هو النص من النبي على الإمام بأمر الله تعالى.

3ـ إن منكر النبي يكون خارجاً عن الإسلام، بخلاف منكر الإمامة، فإنه لا يكون خارجاً عن الإسلام، وإنما يكون خارجاً عن الإيمان الكامل، والسبب في ذلك عند السيد الحكيم (قدس سره) هو: إن الإمامة امتداد للرسالة، وتثبيت من خلال نص النبي عليها، فهي بدرجة من الوضوح أقل من درجة النبوة.

4ـ إن الدور الأساس الذي يقوم به النبي هو إرساء وتثبيت دعائم الرسالة وإبلاغها للناس، أما الإمام الذي يأتي بعد النبي ولا يكون نبياً، فَدَوره هو الاستمرار في عملية البناء والتغيير، فَدَور النبي هو دَور التأسيس، ودَور الإمام هو دَور البناء على ذلك الأساس.

والواقع أن المتأمل في أفكار السيد الحكيم (قدس سره) المذكورة آنفا يتبين له صراحة رأيه الموافق لعلماء الإمامية كافة، والذي يذهب إلى أن الإمامة بالنص لا بالاختيار، وأنها من السماء، لا بآراء الرجال، وهذا ما سنتطرق إليه مفصلاً في طريق إثبات الإمامة.

طريق وجوب الإمامة

من المسائل المتعلقة بالإمامة، والتي تباينت فيها آراء المسلمين مسألة وجوب الإمامة، فمنهم مَن أوجبها، ومنهم مَن لم يوجبها، أما القائلون بوجوبها فمنهم مَن أوجبها عقلاً، ومنهم مَن أوجبها سمعاً، فالقائلون بوجوبها عقلاً هم الشيعة ومعتزلة بغداد، والجاحظ وأبو الحسين من معتزلة البصرة[6]، وانقسموا في الوجوب العقلي فريقين:

الأول: هم الإمامية القائلون بوجوبها عقلاً على الله تعالى من حيث كانت لطفاً[7] وبعداً عن موافقة القبائح، وبه قالت الإسماعيلية[8].

الثاني: وهم معتزلة بغداد، الذين قالوا بوجوبها على المكلفين من حيث كان في الرياسة مصالح دنيوية ودفع مضار دنيوية[9].

أما القائلون بوجوبها سمعاً فهم معتزلة البصرة، والجبائيان – أبو علي وولده أبو هشام – وجمهور أهل العامة[10].

وانفرد بالقول بعدم وجوبها النجدات من الخوارج وهشام الفوطي والأصم[11].

بعد هذا العرض نقول: إن السيد الحكيم (قدس سره) كبقية الإمامية يرى أن البيعة للإمام فرضت على كل المسلمين، ويلتزم فيها المسلم بالطاعة للإمام بصورة مطلقة في إطار الحكم الشرعي، بحيث قرنت طاعته بطاعة الله تعالى[12].

 وجوب البيعة عند السيد الحكيم (قدس سره) يعني: التعهد والالتزام بالطاعة والامتثال «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»، «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية»[13] والسيد الحكيم – بوصفه قائداً سياسياً وروحياً في آن واحد – يشير هنا إلى أن الحديث عن الإمامة والطاعة للإمام يجرنا للحديث عن فروع الدولة الإسلامية، الذي يعد من أهم خصائص الرسالة الإسلامية الخاتمة، سواء في المحتوى والمضمون أم في مجال التطبيق العملي الخارجي، كما أنه في الوقت نفسه يعدّ من أهم عناصر تحقيق الوحدة الخاتمة، وتقليص دائرة الخلافات فيها.

ولذا نلاحظ أن الرسالة الإسلامية – كما يقول (قدس سره) – تمكنت بإذن الله من دون بقية الرسالات من إقامة الحكم الإسلامي في عصر صاحب الرسالة، وبقي هذا الحكم قائماً إلى زماننا هذا، وسوف يبقى حقيقة قائمة في وسط المسلمين روحياً ومعنوياً إلى أن تتحقق مرحلة ظهور الحجة المهدي القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في تحقيق الوحدة الحقيقية الخارجية الكاملة.

كما أن هذا الحكم كان له تأثير كبير في نشر الرسالة الإسلامية وتوطيد دعائمها[14].

عناصر التغيير الرسالي

 ولكي يتحقق ما يهدف إليه الدين والأنبياء والأئمة (عليهم السلام) معاً، من إيجاد التغيير الجذري والثورة الواقعية واستعادة الجماعة الصالحة لدورها الحقيقي في الخلافة الصالحة على الأرض، يرى السيد الحكيم (قدس سره) أن الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) قد دعوا أتباعهم والناس بصورة عامة إلى عدة أمور أساسية لخصها (قدس سره) بأربعة[15]:

1ـ الدين: بمعنى الشريعة، ذلك من أجل معرفة معالم الهدى والحق والعدل الإلهي لمواكبة تطور المجتمع الإنساني، وتصحيح ما تعرض له من تحريف أثناء فترات الاختلاف.

2ـ الإنسان المعصوم، نبياً كان أو إماماً جنباً إلى جنب مع الدين، من اجل قيادة عملية التغيير والثورة.

3ـ الجهاد الأكبر: وهو جهاد النفس وتزكيتها، والأمر بالتقوى، وتقوية الإرادة للالتزام بها، من اجل أن يكون الإنسان مؤهلاً للقيام بدور إقامة الحق والعدل ووراثة الأرض وحمل الأمانة، كما وعد الله سبحانه وتعالى.

4ـ الجهاد الأصغر: ببذل كل الجهود، ومنها: القتال في سبيل الله من أجل إزالة الطاغوت أو أي عائق آخر يقف أمام حركة إحقاق الحق وإقامة مجتمع العدل.

إن هذه الأركان التي يتم من خلالها إقامة المجتمع الموحد على أساس الشريعة وبقيادة الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) هي – في نظر السيد الحكيم – عناصر مترابطة فيما بينها يكمل بعضها بعضاً، وتشكل نظرية متكاملة تبين النظرية الإسلامية في إيجاد عملية التغيير الاجتماعي من ناحية، كما تبين طبيعة الموقف الذي يجب أن يتخذه الإنسان تجاه مجتمعه وتجاه حركة التأريخ من جهة أخرى[16].

طريق إثبات الإمامة

يذهب علماء الإمامية إلى أن الإمامة بالنص[17]، بخلاف بقية الفرق الإسلامية التي ترى أنها بالشورى – الاختيار –[18].

يقول السيد الحكيم (قدس سره) في هذا المقام: «وأما بعد الأنبياء فمذهب الشيعة الإمامية ألاثني عشرية، أن الحكم للائمة ألاثني عشر (عليهم السلام) بالنص النبوي على ذلك بأمر من الله تعالى، وأن الإمام يتحمل المسؤوليات نفسها التي يتحملها النبي، كما أن له الصلاحيات نفسها، مع فوارق بين النبي والإمام»[19].

وفي نص آخر يؤكد السيد الحكيم «أن النبي يتحدد بالقرار الإلهي؛ لأن الله هو الذي يختار النبي ويصطفيه، وكذلك (الربانيون) الذين يمثلون الإحياء في حركة الأنبياء، فإنه يتم تعينهم من قبل الله تعالى، وهذان الصنفان يكونان على درجة عالية من العدالة»[20].

ولكي يبين السيد الحكيم فلسفة كون الإمامة بالنص لا بالشورى، تراه يقدم لنا تحليلاً طالما ذكره أسلافه من علماء الأمامية – أمثال :المفيد، والمرتضى، والطوسي، والعلامة الحلي، وغيرهم في هذا المقام – مفاده: إن كل قائد يقرر عملية التغيير لا يمكن أن يكون – هذا القائد – قد تربى أو تم إعداده نفسياً أو عرف الحقيقة من خلال هذا المجتمع المنحرف؛ لأنه حينئذ إما أن يكون مستكبراً يحاول الحصول على المزيد من المصالح والإمكانيات، أو مستضعفاً يريد الانتقام لنفسه، أو مضللاً لا يهتدي إلى الحق سبيلاً، وهؤلاء لا يتحركون باتجاه الحق ومن اجله، ولا يصلحون للقيام بعملية التغيير المنشود، لكل هذا وجب أن يكون القائد لهذه العملية التغييرية (نبياً) أو (إماماً) قد تربى من خلال الاصطفاء، وبُني بناءً ربانياً في إرادته، وعرف الهداية من ربه لمعرفة طريقه (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)[21]، مما يجعله قادراً على تربية مجتمعه وقيادته وهدايته، لتحقيق مجتمع الحق والعدل[22] والظاهر أن الإمامية استمدوا القول بفكرة النص من عدة موارد، منها: أقوال أئمتهم (عليهم السلام) في هذا المجال؛ فقد ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: «الإمام واحد دهره لا يدانيه أحد، ولا يعادله عالم، ولا يوجد منه بدل، ولا له مثل ولا نظير… بل اختصاص من المفضل الوهاب، فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه اختياره»[23].

هكذا يقدم الإمامية خطابهم العقائدي بخصوص هذه المسألة، معلنين ضرورة أن تكون الإمامة في أهل البيت (عليهم السلام) لأنهم المؤهلون لها دون غيرهم لعدة أسباب وعوامل أساسية تقتضيها شروط الإمامة ومحتواها على حد تعبير السيد الحكيم[24].

ضرورة الإمامة

يطرح السيد الحكيم تساؤلاً مهماً مفاده: لماذا كان من الضروري أن تستمر الرسالة الإسلامية من خلال الإمامة، مع أن هذه الرسالة خاتمة؟ ثم لماذا لم يكن هذا الاستمرار بهذه الصورة في الرسالات السابقة، بل كان من خلال النبوات التابعة؟

والجواب على ذلك هو: إن سبب عدم الاستمرار من خلال النبوات التابعة، هو أن الاستمرار للنبوة في الرسالات السابقة كان أمراً طبيعياً للوصول بالرسالة والإنسانية إلى مرحلة التكامل الرسالي والإنساني، فكان من الضروري أن يأتي أنبياء تابعون للرسالة الإلهية التي يرسل الله تعالى بها نبياً من أنبياء أولي العزم؛ لأن الرسالات الإلهية كانت تتعرض إلى التحريف لدرجة تفقدها دورها الرسالي المطلوب من ناحية، كما أن الرسالات لم تبلغ التكامل الرسالي المفروض الذي بلغته في الرسالة الخاتمة من ناحية أخرى، والإنسانية لم تبلغ مرحلة التكامل الرسالي في ثبات الأصول والمبادئ الأساسية للرسالات الإلهية في مسيرتها من ناحية ثالثة، فنحتاج إلى هذه النبوات التابعة التي قد يندمج فيها دور النبوة والإمامة في بعض الأحيان، وقد ينفصل حسب طبيعة المرحلة والزمان، فنشاهد أنبياء دون إمامة لإبلاغ الرسالة وبيان أو كشف ما تعرضت له من تحريف، أو أوصياء دون نبوة ليكون دورهم هو مواصلة دور النبوة السابقة المحدودة[25].

وأما لماذا هذا الاستمرار من خلال خط الإمامة في الرسالة الخاتمة؟

فالسبب في ذلك – على حد تعبيره (قدس سره) – هو أن هذه الرسالة وإن أصبحت من حيث مضمونها ومحتواها الرسالي رسالة خاتمة وكاملة، ولا تحتاج عندئذ إلى متابعة على مستوى الأنبياء لبيان أصل الرسالة وتثبيت الأصول لان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أكملها في بلاغها، وعرضها على الناس وقد صرح القران الكريم بذلك: (…الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا…)[26]

إذاً، فالرسالة الخاتمة من هذه الناحية لا تحتاج إلى إكمال على مستوى البلاغ، والتبشير، والإنذار، الذي يتحمله الأنبياء عادة لمعالجة الانحرافات وتثبيت الأصول والأسس.

 نعم، قد تحتاج إلى إكمال بيان بعض التفاصيل، لكن ذلك وحده لا يحتاج إلى الإمامة ودورها الكبير في النظرية الإسلامية. (فما هو الحاجة إلى الإمامة؟)

التدابير النبوية عنوان في صيانة الرسالة

يرى السيد الحكيم أن هذه التدابير تمثلت في ثلاث خطوط رئيسية:

1ـ تأكيد ولاية علي (عليه السلام)، وأن علياً هو خليفته من بعده بلا فصل. ونلاحظ أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قام بهذا الأمر منذ اليوم الأول لإعلانه الرسالة والنبوة[27].

2ـ التركيز على شخصية علي (عليه السلام)، ويبرز ذلك في الحديث عن شخصية علي (عليه السلام) كشخصية أولى في كل أبعادها، سواء كانت الأبعاد العلمية لعلي (عليه السلام) أم الأبعاد الروحية له (عليه السلام) بإخلاصه وشجاعته وتفانيه وتضحياته، وغير ذلك مما كان يتحدث عنه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في وصف علي (عليه السلام) أم في شخصيته الأخلاقية في الجوانب المعنوية والتكاملية[28].

3ـ التأكيد العملي لولاية علي (عليه السلام)، هنا يُلفت السيد الحكيم أنظارنا إلى أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ في السنوات الثلاث الأخيرة لحياته يقوم بعمل من اجل أن يأخذ علي (عليه السلام) هذا الموقع بصورة خارجية وميدانية، وليس مجرد بيان حق علي في الخلافة، وأصل كونه خليفة وبيان فضائله، وإنما اتخذ تدابير عملية خارجية من أجل أن يصل علي (عليه السلام) إلى هذا الموقع[29].

ومن مصاديق هذه التدابير:

أ) استخلاف علي (عليه السلام) على المدينة المنورة عندما أراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يذهب إلى قتال الروم في غزوة تبوك[30].

ب) إرساله علياً (عليه السلام) بسورة براءة[31]

ج) تأمير علي (عليه السلام) على المجموعات القتالية، كتأميرهِ على غزوة بني زبيد وغزوة السلسة[32].

د) بعث علي (عليه السلام) إلى اليمن[33].

ﻫ) تجهيز وبعث جيش أسامة[34].

الإمامة في أهل البيت (عليهم السلام)

إذا سلمنا بضرورة استمرار خط الإمامة بعد الرسالة الخاتمة، فلماذا كان خط الإمامة مستمراً في خصوص أهل البيت (عليهم السلام)؟

يرى السيد الحكيم أن مقتضيات جعل هذا الأمر في أهل هذا البيت الشريف تنطلق من أبعاد معينة:

البعد الأول: التكريم والتشريف

 إذ نلاحظ من خلال القرآن الكريم ومسيرة التأريخ الرسالي لكل الرسالات الإلهية، أن الله تعالى شاء بلطفه وكرمه وفضله على أنبيائه، بأن يجعل من ذريتهم أئمة وهداة يقومون بهذا الواجب الإلهي، تكريماً لهم، ونعمة منه تعالى عليهم، وكان هذا التكريم في الوقت نفسه رغبة وأمنية من أمنيات الأنبياء أنفسهم، تعبر عن حالة فطرية في الإنسان الكامل، هي الاتجاه والرغبة إلى البقاء والاستمرار من خلال ذريته[35].

البعد الثاني: الإمامة في الذرية سنة

 هنا يصرح السيد الحكيم بأننا في دراستنا لتأريخ الأنبياء والمرسلين، نجد أن هذا التكريم قد تحول إلى سنة من السنن الواضحة في التأريخ الرسالي، وذلك عندما نرجع إلى القرآن الكريم ومفاهيمه وآياته وتصوره لحركة الرسالات الإلهية والأنبياء، ومن ذلك قوله تعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) فعندها نجد أن القرآن الكريم يتحدث عن إبراهيم (عليه السلام) وكيف جعل الله تعالى في ذريته النبوة، ويذكر مجموعة من أسماء الأنبياء من ذريته بدون ترتيب زماني.

 ثم يشير إلى أمرين يمكن أن نفهم منهما هذه السنة التأريخية:

أحدهما: الانتقال بالإشارة إلى نوح (عليه السلام) (وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ) ليربط هذا التأريخ بما قبل إبراهيم (عليه السلام).

ثانياً: تعميم النعمة على الآباء والذريات والإخوان، مما يفهم منه القانون العام (وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ)[36].

البعد الثالث: حكمة الإمامة في الذرية

 الذي يمكن أن يشار إليه بهذا الصدد هو أن قضية التشخيص في أهل البيت (عليهم السلام) ليست مجرد عملية تكريم وتشريف وفضل ونعمة أنعمها الله تعالى على أنبيائه، بل إن وراء ذلك أموراً أخرى، يمكن أن نلاحظها عندما نريد أن ندرس هذه الظاهرة، وهي ذات أبعاد غيبية، وتأريخية، ورسالية، وإنسانية[37].

الأئمة الإثنا عشر (العدد: الأدلة والتفسير)

وقد يثار سؤال مفاده أنه: إذا كان استمرار الإمامة في أهل البيت (عليهم السلام) ضرورياً، فماذا عن تحديد عدد الأئمة الهداة في ألاثني عشر إماماً فقط، دون أن يكون باب الإمامة مفتوحاً في أهل البيت بصورة عامة؟

والإجابة على هذا السؤال يرى السيد الحكيم أن هناك أدلة تقود إلى العدد المذكور وهناك تفسيراً له، أما الأدلة فهي:

أولاً: هناك نصوص عديدة يجمع عليها المسلمون وردت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تؤكد أن الخلفاء بعد رسول الله، هم هذا العدد، أي: أثنا عشر خليفة، وهذه النصوص يمكن أن يستدل بها على ثبوت هذه الحقيقة[38].

ثانياً: إن هناك نصوصاً أخرى – أيضاً – وردت عن أهل البيت (عليهم السلام) تؤكد هذه الحقيقة (وأهل البيت (عليهم السلام) أدرى بما فيه)، أي: أن علياً (عليه السلام) لا يشك احد من المسلمين في صدقه ومعرفته، وهكذا بالنسبة إلى فاطمة، والحسن، والحسين (عليهم السلام)، لا يشك أحد من المسلمين في صدقهم، وعملهم، ومعرفتهم، فعندما ترد النصوص عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تجدها موضع الاحترام والتصديق المطلق من قبل المسلمين، وهي تؤكد – أيضاً – هذه الحقيقة، وهذا يمكن – أيضاً – أن يشكل قرينة ودليلاً وبرهاناً على صحتها[39].

ثالثاً: يؤكد ذلك – أيضاً – شخصية أئمة أهل البيت (عليهم السلام) التي تتميز بمواصفات لا نعرف لها نظرياً في التأريخ الإسلامي، في خصائصها ومواصفتها، والحديث في هذا الموضوع -كما قلت- له مجاله الخاص، وسوف نشير إلى هذه الخصائص والمواصفات، بحيث يتبين بصورة واضحة أن هؤلاء الأئمة ألاثني عشر يتصفون بمواصفات وخصائص لا يشبههم فيها أحد من الناس[40].

رابعاً: إن دراسة الجماعة الصالحة – التي التزمت بهذه العقيدة وآمنت بها – في خصائصها، ومواصفاتها، وطبيعة حركتها، ونموها، وتطورها المستمر في خطها البياني يؤكد – أيضاً – هذه الحقيقة[41].

أما تفسير العدد المحدود، فيرى السيد الحكيم انه لابد أن نشير إلى أمرين:

الأمر الأول: العامل الغيبي

 الرسالة الإسلامية وكل الرسالات الإلهية هي ظواهر غيبية مرتبطة بعالم الغيب، وحياة الإنسان الذي أرسلت إليه فيها جانب غيبي، لان الله تعالى وإن كان قد خلق الإنسان من طين لازب، ومن ثم فيه هذا العنصر المادي، فهو لحم، وعظم، ودم، وغير ذلك مما يتمثل فيه الجانب المادي في الإنسان، ولكن الله تعالى قد خص الإنسان بخصوصية دون غيره من المخلوقات المنظورة، وهو أنه نفخ فيه من روحه، وهذه الخصوصية لا نراها في أي موجود آخر يتحدث عنه القران الكريم، وقد تكون موجودة في مخلوقات عالم الغيب التي لا نعرفها، وهي خارج النظام الكوني المشهود.

كما أن حياة الإنسان ليست مختصة بالحياة المادية وهي الحياة الدنيا، وإنما الحياة الحقيقية الدائمة الأبدية هي الحياة الآخرة وهي حياة غيبية.

إذاً، فالرسالة غيبية – كما يقول (قدس سره) والإنسان نفسه فيه جانب غيبي، وحياته – أيضاً – فيها جانب أعظم وأهم، وهو الجانب الغيبي، فعنصر الغيب لابد أن ننظر إليه دائماً عندما نريد أن نفسر الظواهر ذات العلاقة بالإنسان وحركته، ولا يمكن أن نفسر الظواهر ذات العلاقة بحركة الإنسان بالتفسيرات المادية المحضة، أو المدركة والمشهودة وحدها، وإنما يمكن أن يكون وراء الكثير من الظواهر القائمة في حياة الإنسان أسباب وعناصر غيبية، لا يمكن للإنسان أن يعرف كل أبعادها وخصوصياتها[42].

الأمر الثاني: العامل التأريخي

 هذا الأمر له بعد مادي، هذا البعد يتمثل في فهم حركة التأريخ وتفسير هذه الحركة، وذلك بافتراض أن المدة الاعتيادية، لهؤلاء الأئمة ألاثني عشر الذين تحدث عنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هي بين (350 – 400) سنة، إذا كانت أعمارهم أعماراً اعتيادية بالنسبة إلى الظروف التي كان يعيشها الناس في الآباء والأبناء.

وإذا كان الأمر كذلك، فيمكن أن نقول: إن هذه المدة تمثل الدورة الزمنية التي يمكن أن يتم فيها إعداد الأمة الخاتمة إعداداً كاملاً في جميع أبعادها، بحيث تصبح أمة مؤهلة لاستلام الخلافة الإلهية كأمة وجماعة، وذلك عندما تصبح أمة متكاملة اجتماعياً، بدرجة يكون التكامل فيها كصفة ثابتة، وتنتقل بذلك – حينئذ – إدارة الحياة الاجتماعية من الأشخاص المنتجبين الأصفياء الذين كانوا ينتخبون لها كأنبياء وأئمة للقيام بدور الخلافة والحكم إلى الأمة أو الجماعة، أي: عندما تبلغ الأمة مرحلة دور الوحدة الإنسانية الكاملة في تطبيق الرسالة الإلهية، ودور تجسيد إرادة المستخلف – الذي هو الله – الذي يؤهلها لهذه الخلافة الإلهية، بعد أن كانت البشرية قد مرت بأدوار الوحدة الفطرية، والاختلاف في العبادة، والاختلاف في الرسالة، ويبقى دور الإمامة فيها – عندئذ – دور المحافظة على هذا التكامل، والشهادة، والرقابة على مسيرة الأمة، وإقامة الحجة على الناس، وكذلك المحافظة على العلاقة والرابطة بين السماء والأرض، في حفظ النظام والحياة إلى غير ذلك من الخصوصيات الأخرى التي أشارت إليها النصوص الشريفة[43].

أدلة الولاية من القرآن الكريم

 استدل السيد الحكيم على أن الولاية الإلهية بعد النبي منحصرة بأهل البيت (عليهم السلام)، بآيات عديدة سبقه إلى الاستدلال بها متكلمو الإمامية[44] كافة ومن هذه الآيات:

1ـ قوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)[45] فالولاية – كما يقول السيد (قدس سره)ـ ذكرت في القرآن الكريم على أساس أنها ولاية رسول الله تنطبق على ولاية الأمر[46].

تجدر الإشارة إلى أن ترتيب الاستدلال بهذه الآية عند الإمامية، هو أنه قد ثبت أن المراد بلفظة (وليكم) المذكورة في الآية: من كان متحققا بتدبيركم والقيام بأموركم وتجب طاعته عليكم، وثبت أن المعنى بـ(الذين آمنوا) أمير المؤمنين (عليه السلام)، وفي ثبوت هذين الوصفين دلالة على كونه إماماً لنا[47]، وهذا هو المستفاد من تفسير الإمام الصادق (عليه السلام) للآية[48].

2ـ وكذلك قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ) فتعتبر «أولي الأمر» – كما يقول (قدس سره)ـ ذكر في سياق الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والرد إليه (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً)[49].

 ومعنى ذلك أن الولاية – على ما يشير القرآن الكريم – هي العاصم لجماعة المسلمين من إتباع الطريق الآخر، وهو طريق الشيطان. فالقران الكريم يذكر هذه الصيغة، وهي الرجوع إلى الرسول والى أولي الأمر في حال الأمن أو الخوف، وهذا الرجوع والاستنباط للحكم والموقف الشرعي يمكن أن يعصم المسلمين، ولولا هذا الفضل والهدى والطريق الذي خطه الله سبحانه وتعالى للمؤمنين لأتبعوا الشيطان، يقول تعالى: (لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً). فلو ترك الأمر في حركة الإنسان لإتباع رأيه واجتهاده الشخصي، فسوف تكون نتيجة حركته هي إتباع الشيطان إلا قليلا[50].

وفضلاً عن دلالة سياق الآيات المتقدمة على أن صلاحيات ولي الأمر هي صلاحيات الرسول لكنه يمكن أن نستنبط – كما يقول السيد الحكيم – أموراً أساسية أخرى، لان كل آية تحدثت عن أمر، ومن هذه الأمور:

الأمر الأول: الولاء السياسي العام، الوارد في قوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ…) هنا يرى السيد الحكيم: أن ألقرآن الكريم يطرح ولاية ولي الأمر – وهو المؤمن – على أنها ولاية الله ورسوله، وهذا الولي يكون محوراً للولاء السياسي في الجماعة المسلمة والمجتمع الإسلامي، ويكون محور التناصر والتراحم والمحبة والمودة في الولاء السياسي هو الولي[51].

الأمر الثاني: الذي تشير إليه الآية الكريمة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ) أن ولي الأمر – كما يقول (قدس سره) – هو الذي يرجع إليه في الاختلاف والنزاع، فعندما يكون هناك نزاع في المجتمع الإنساني والإسلامي، يكون فصل النزاع والخلاف إلى ولي الأمر. وهذا النزاع يمكن أن نتصوره على أشكال، منها ما يكون على المستوى الشخصي، ومنها ما يكون في الأمور العامة، أي: عندما يتنازع الناس في القضايا المختلفة التي يواجهونها في حركتهم الاجتماعية، ويختلفون في تشخيص الموقف تجاهها[52].

يرى أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) أن صفات الإمام مستمدة من صفات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طالما أن الإمامة هي لطف من الله، وأن تنصيب الإمام واجب على الله تعالى عقلاً، وعليه فهي عندهم على ضربين:

أحدهما: يجب أن يكون الإمام عليها من حيث كان إماماً، مثل: كونه معصوماً، وأفضل الخلق.

والثاني: يجب أن يكون عليها الشيء يرجع إلى ما يتولاه، مثل: كونه عالماً بالسياسة وبجميع أحكام الشريعة، وكونه حجة فيها، وكونه أشجع الخلق، وجميع هذه الصفات توجب كونه منصوصاً عليه[53].

وهذه الصفات متفق عليها بين الإمامية[54]، وهم يرون أن اختصاص الإمام بها لا سبيل إلى العلم به إلا من جهة النص[55].

ولو تتبعنا مؤلفات السيد الحكيم (قدس سره) لوجدناه يركز على صفات يعتبرها أمراً حتمياً لابد من توافره في شخصية الإمام ألا وهي: العصمة، والاعلمية، والعدالة، فضلاً عن أن يكون أشجع أهل زمانه وأفضلهم.

أولا: العصمة

ويعرفها السيد الحكيم (قدس سره) بقوله: «هي عبارة عن هذا الشعور العالي الواعي الراسخ في الإنسان، بحيث يعصمه عن الأخطاء أو الانحراف أو الضعف أمام الضغوط الداخلية والخارجية»[56].

وهذا يعني أن القائد الذي يقود عملية التغيير لا يمكن أن يكون قد تربى أو تم إعداده نفسياً أو عرف الحقيقة من خلال هذا المجتمع المنحرف؛ لأنه حينئذ – كما يقول السيد الحكيم – أما أن يكون مستكبراَ يحاول الحصول على المزيد من المصالح والإمكانيات، أو مستضعفاً يريد الانتقام لنفسه، أو مضللاً لا يهتدي إلى الحق سبيلاً، وهؤلاء لا يتحركون باتجاه الحق ومن اجله، ولا يصلحون للقيام بعلمية التغيير المنشود، بكل هذا وجب أن يكون القائد لهذه العملية التغييرية (نبياً) أو (إماما)، قد تربى من خلال الاصطفاء، وبني بناء ربانياً في إرادته، وعرف الهداية، من هنا اشترط السيد الحكيم (قدس سره) العصمة والعلم الإلهي الكامل في الأئمة (عليهم السلام)؛ وذلك لأن النبي هو حامل رسالة الهدى من السماء، والإنسان المعد ربانياً لكي يبني للثورة قواعدها الإنسانية والمعنوية الصالحة، ويعيد للجماعة الشروط الحقيقية لاستعادة دورها الخلافي الصالح؛ ولان الأئمة (عليهم السلام) هم أولئك الأشخاص الذين يقودون المجتمع قيادة ربانية نحو الحق والعدل، وهم يمثلون الامتداد لحركة الأنبياء[57].

وفي نص جميل يلفت الأنظار، يصرح السيد الحكيم (قدس سره) أن العصمة لا يدركها إلا الله تعالى، وإنما نشترطها كصفة واجبة في الأئمة (عليهم السلام)، باعتبار الأدلة العقلية والنصوص النقلية القطعية التي وردت، مثل النصوص القرآنية كآية الإمامة في إبراهيم (عليهم السلام)، حيث يستدل بها على العصمة في العهد الإلهي، وكذلك ما ورد في آية التطهير، وغير ذلك من النصوص القرآنية، أو النصوص النبوية كحديث الثقلين أو حديث «علي مع الحق…» أو «علي مع القرآن..» أو النصوص التي أكدت وجود هذه الصفة في الأئمة (عليهم السلام)، ولكن الإنسان العادي لا يمكن أن يعرف العصمة في شخص المعصوم، وإنما يمكن معرفة هذه الأمور الظاهرية فيه[58].

ثانيا: الأعلمية

اجتمعت كلمة الإمامية على وجوب كون الإمام عالماً بجميع ما إليه الحكم فيه[59] بينما لا ترى بقية الفرق الإسلامية وجوب ذلك[60].

ويبدو أن ما ذهبت إليه الإمامية يتفق وما ورد على لسان أئمتها (عليهم السلام) في هذا المجال، فقد قال الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)[61] «إنما نحن الذين يعلمون»[62]. وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «انا أهل بيت عندنا معاقل العلم وآثار النبوة وعلم الكتاب وفصل مابين الناس»[63] وقال (عليه السلام): «والله لقد أعطينا علم الأولين والآخرين»[64].

والسيد الحكيم (قدس سره) يرى ما تراه بقية الإمامية، إذ يقول: «لابد للحاكم الإسلامي أن يكون عالماً بالحكم الشرعي، إما بصورة مباشرة عن طريق الوحي الإلهي، كالرسول، فيبلغه للناس (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ)[65] (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)[66]، أو يكون مستودعاً لهذا الحكم من قبل الله والرسول كالإمام، أو يكون مجتهداً قادراً على اكتشاف الحكم عن طريق الأدلة التفصيلية الأربعة»[67].

وفي موضع آخر يشير السيد الحكيم (قدس سره) إلى أن بعض النصوص تذكر أنواع المعارف التي لا تتوفر عادة لكل إنسان، وذلك مثل معرفته باللغات، فيتمكن أن يتكلم مع الفارسي بلغته، ومع التركي بلغته، وهكذا مع مختلف الأقوام بلغاتهم[68].

والذي يهدف من ورائه السيد الحكيم (قدس سره) في طرحه المتقدم هو: إن الإمام إمام في سائر الدين، ومتولٍ للحكم في جميعه: جليله ودقيقه، ظاهره وغامضه، وليس يجوز أن لا يكون عالماً بجميع الأحكام وهذه صفته؛ لان المتقرر عند العقلاء قبح استكفاء الأمر وتوليته من لا يعلمه[69].

ثالثا: العدالة

معلوم أن الإمامية اشترطوا العصمة في الإمام، وهي تفوق أرقى مراتب العدالة.

فاياً كانت العدالة فالعصمة تغطيها، في حين أن غير الإمامية ينطلقون في ذلك من قياسهم عدالته على عدالة الشاهد والحاكم، إذ يقولون: أما الذي يدل على وجوب كونه عدلاً فلأنه قد ثبت أن العدالة مطلوبة في الشاهد والحاكم.

والمراد بالعدالة – من وجهة نظر السيد الحكيم (قدس سره) – : أن يكون الإنسان في سلوكه وحركته إنسانا مستقيماً على جادة الشرع، ويفسر الفقهاء العدالة بأنها: ملكة وحالة نفسية وروحية ثابتة، تجعل الإنسان قادرا بصورة مستمرة على أن يمسك ويملك نفسه عند مواجهة الضغوط النفسية والخارجية، وهي من كمال الإيمان[70].

ويشير السيد (قدس سره) إلى أن العدالة على درجات، كما هو الحال في جميع الصفات النفسية، ولذا لابد أن يتصف الحاكم بدرجة عالية من العدالة تتناسب وعظم المسؤولية الملقاة على عاتقه[71].

ثم ذكر (قدس سره) جملة من الروايات الواردة في اشتراط الورع والعدالة، والتي حفلت بذكرها كتب الأمامية، منها قول علي (عليه السلام) عند مسيره إلى الشام لقتال معاوية: «فإن الرعية الصالحة تنجو بالإمام العادل، ألا وان الرعية الفاجرة تهلك بالإمام الفاجر»[72].

كما ذكر في هذا المجال رواية يستفاد منها تشدد الإمام السجاد (عليه السلام) على حد تعبيره (قدس سره) في طرق الإثبات وضرورة التأكد من وجود العدالة بدرجة عالية في الحاكم، وذلك من خلال مراقبة جميع أبعاد سلوكه وأعماله للتأكد من عدالته وتقواه واستقامته على جادة الشرع (عليه السلام)[73].

والحاكم الإلهي يتحمل مسؤولية إقامة الحق والقسط والعدل بين الناس، وذلك من خلال الالتزام بتطبيق الأحكام الشرعية التي وضعها الله تعالى من اجل إقامة الحق والعدل بين الناس، ثم أشار (قدس سره) إلى أن تحمل مسؤولية التطبيق، باعتبارها مسؤولية إلهية أريد منها أن تكون الأداة والضمانة لتطبيق الشريعة، والالتزام بها والعمل بقوانينها، سواء الثابتة منها، أم المتحركة التي تخضع لضوابط وتلتزم بأهداف الرسالة ومبادئها وقيمها[74]



[1] ظ: الشريف الرضي: الشافي في الإمامة ص65، 147.

[2] ظ: الحكيم، محمد باقر: المجتمع الإنساني في القرآن ن الكريم ص307

[3] ظ: ن.م ص403

[4] سورة الجمعة: 2

[5] الحكيم: المجتمع الإنساني في القرآن الكريم ص403 – 404.

[6] ظ: الشيخ الطوسي: تلخيص الشافي 1/68، ابن أبي الحديد: شرح النهج 2/308.

[7] ظ: المحقق الطوسي: تحرير العقائد ص93، العلامة الحلي: كشف المراد ص225.

[8] ظ: الإيجي: المواقف 8/345.

[9] ظ: ابن أبي الحديد: شرح النهج 2/308.

[10] ظ:القاضي عبد الجبار: المغني 20/ق1/16، البغدادي: أصول الدين ص271.

[11] رأي النجدات (ظ) الملل والنحل 4/87، ورأي هشام الفوطي (ظ) البغدادي: أصول الدين ص271.

[12] ظ: الحكيم: المجتمع الإنساني في القرآن الكريم ص407.

[13] الحكيم: المجتمع الإنساني في القرآن الكريم ص421 -422

[14] المصدر السابق ص408 – 409.

[15] الحكيم: المجتمع الإنساني في القرآن الكريم ص245.

[16] المصدر السابق: ص245.

[17] المفيد: أوائل المقالات ص44.

[18] القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة ص753 – 754.

[19] الحكيم: المجتمع الإنساني في القرآن الكريم ص415.

[20] المصدر السابق: ص428.

[21] الضحى: 7.

[22] ظ: الحكيم: المجتمع الإنساني في القرآن الكريم ص241.

[23] الصدوق: عيون الأخبار 1/ 173، البحراني: تحف العقول ص 328.

[24] الحكيم: المجتمع الإنساني في القرآن الكريم ص406.

[25] الحكيم: المنهاج الثقافي السياسي الاجتماعي ص79.

[26] المصدر السابق: ص80 – 81.

[27] الحكيم: الحجة والولاية من منظور الثقلين ص256.

[28] المصدر السابق: ص257.

[29] المصدر السابق: ص258.

[30] المصدر السابق: ص259.

[31] المصدر السابق: ص263.

[32] المصدر السابق: ص 269.

[33] المصدر السابق: ص275.

[34] المصدر السابق: ص286.

[35] الحكيم: المنهاج الثقافي السياسي الاجتماعي ص 99-100.

[36] المصدر السابق: ص101 – 102.

[37] المصدر السابق: ص101.

[38] الحكيم: المنهاج الثقافي السياسي الاجتماعي ص127- 128.

[39] المصدر السابق: ص127 – 128.

[40] المصدر السابق: ص127 – 128.

[41] المصدر السابق: ص127 – 128.

[42] المصدر السابق: ص130.

[43] ن.م: ص133- 134.

[44] كالشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي، والعلامة الحلي وغيرهم.

[45] سورة المائدة: 55.

[46] الحكيم: الحجة والولاية من منظور الثقلين ص213.

[47] ظ: الشريف المرتضى: الشافي ص 122- 134

[48] ظ: الكليني: الكافي 1/188.

[49] سورة النساء: 83.

[50] الحكيم: الحجة والولاية من منظور الثقلين ص214.

[51] المصدر السابق: ص215.

[52] المصدر السابق: ص216.

[53] الشيخ الطوسي: تلخيص الشافي 1/89.

[54] راجع كتبهم الكلامية كالاقتصاد ص305 – 313 للشيخ الطوسي، وكشف المراد ص227 -229 وإحقاق الحق 1/197 – 202، والالفين ص34، 51، 56، 135 للعلامة الحلي.

[55] الشريف المرتضى: الشافي ص83، 198.

[56] الحكيم: المجتمع الإنساني في القرآن الكريم: 303، وورد أيضاً في كتابه: الحجة والولاية من منظور الثقلين:93 بهذا المعنى.

[57] الحكيم: المجمع الإنساني في القرآن الكريم:242.

[58] الحكيم: الحجة والولاية من منظور الثقلين ص 94-95.

[59] الشيخ الطوسي: الاقتصاد ص310، المحقق الطوسي: تجريد العقايد ص100، العلامة الحلي: الألفين ص124.

[60] ظ: القاضي عبد الجبار: المغني 20/1/199، البغدادي: اصول الدين ص277.

[61] سورة الزمر: 9.

[62] الكليني: الكافي 1/212.

[63] المفيد: الاختصاص ص303.

[64] ابن شهر اشوب: المناقب 3/374.

[65] الجمعة:2

[66] النور: 54.

[67] الحكيم: المجتمع الإنساني في القرآن الكريم ص417.

[68] الحكيم: الحجة والولاية من منظور الثقلين ص91.

[69] د. رؤوف الشمري: الشريف المرتضى متكلماً ص164.

[70] الحكيم: المجتمع الإنساني في القرآن الكريم ص432.

[71] المصدر السابق: ص 432  -433.

[72] المصدر السابق: ص433.

[73] المصدر السابق: ص433.

[74] الحكيم: المجتمع الإنساني في القرآن الكريم ص471.

اكتب تعليق

كافة الحقوق محفوظة لمؤسسة تراث الشهيد الحكيم، ولا يجوز الاستفادة من المحتويات دون إذن خطي.

الصعود لأعلى