ملامح المشروع الوحدوي عند الشهيد الحكيم (قدس سره)

tt

بحث شارك في المؤتمر الثاني لإحياء التراث الفكري والعملي للشهيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم 

الباحث: سماحة السيد حسين الحكيم

باحث واستاذ في الحوزة العلمية النجف الاشرف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

قال سبحانه وتعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً)[1].

المقدّمة

كان المشروع الوحدوي للشهيد الحكيم (رضوان الله تعالى عليه) له ملامح رئيسية يمتاز بها، هي:

الأول: التمسك بالثوابت

كان مشروعه يمتاز أولاً وقبل كل شئ بالالتزام بالثوابت والضروريات، فلا يمكن أن تكون هذه الثوابت والضروريات بأي حال من الأحوال ضحية أي شعار من شعارات الوحدة، فالوحدة عنده في خدمة الثوابت، وليست الثوابت في خدمة الوحدة.

الثاني: الانفتاح

كان يتسم مشروعه الوحدوي بدرجة كبيرة من الانفتاح على الآخر، وبالحوار مع الآخر، واحترام الآخر في محاولة استيعاب الآخر، وتقديم الخصوصية للآخر، وإزالة الركام الذي يحدث في كثير من الأحيان بسبب التباعد.

فقد كان (قدس سره) بارعاً في تفهّم وتفهيم الآخر في ذات الوقت.

الثالث: العمل على القواسم المشتركة

كان يعمل بصدق وبروح وحدوية على القواسم المشتركة.

فالشهيد الحكيم لا تقف الوحدة عنده كشعار، ولم يتخذ الوحدة كذريعة لتحقيق بعض المآرب والمكاسب، وإنما كان يعمل بطريقة وحدويّة، فكان يصدّق فعله قولَه في نفسه الوحدوي.

محاور تفعيل المشروع

لقد فعّل الشهيد الحكيم (قدس سره) مشروعه الوحدوي من خلال ثلاثة محاور، هي:

الأول: المحور الاسلامي العام.

الثاني: المحور المذهبي، أي: في إطار أتباع أهل البيت (عليهم السلام).

الثالث: المحور الوطني.

إذن، نحن أمام ثلاثة ملامح للمشروع الوحدوي نحتاج أن نتلمسها في المحاور الثلاثة.

المحور الأول: المحور الإسلامي العام

لقد كان الشهيد الحكيم (قدس سره) من رواد وقادة الوحدة الإسلامية في هذا العصر؛ إذ كان رئيس المجلس الأعلى للتقريب بين المذاهب الإسلامية، ورغم ذلك لم يسجل عليﻫ بحمد اللﻫ أي تنازل عن شي من ثوابت الدين، بل كان يمثل موقعاً ومركزا لضبط حركة بعض المشاريع الوحدوية وللاتزان وحفظ الثوابت وعدم التنازل عنها.

لأنه لو صار البناء عندنا على التنازل من بعض الثوابت لأجل الوحدة، فهذا ـ في الحقيقة ـ سوف لا يكون مشروعاً وحدوياً، وإنما سيكون مشروعاً من شأنه أن يضيف للأمة تقسيماً جديداً زائداً على تقسيماتها القائمة، لأن الأمة بشكل طبيعي لا تتنازل عن ثوابتها، وفي تنازلنا عن بعض الثوابت من أجل الوحدة نكون قد أوقعنا تقسيماً داخلياً أخطر من التقسيم الذي نعاني منه، في الوقت الذي نفترض فيه أننا نحاول تجاوزه من خلال المشروع الوحدوي.

لكن في نفس الوقت نجد هذا الرجل (قدس سره) الثابت الذي يعتمد وينطلق بشكل أساسي من ثوابته ويستحضرها دائماً، قد قال في خطابه الكبير والشهير والاستثنائي في اليوم الذي لاقى جده أمير المؤمنين (عليه السلام) في النجف الأشرف[2]: «يوحدنا الاسلام، يوحدنا رسول الله، يوحدنا القرآن، يوحدنا الثقل الثاني أهل البيت، يوحدنا المراجع، يوحدنا الحسين في شعائره، يوحدنا هذا المسير، ويوحدنا أعداؤنا» فهذه هي الوحدة في رؤية الشهيد الحكيم، وهكذا كان يعي الأمور ويفهمها، فهو يرى أن أعداءنا هم أيضاً منطلق من منطلقات الوحدة، ومع كل هذا الاصرار على الثوابت كان (قدس سره) يمتلك حالة كبيرة من الانفتاح على الآخر، فهو ذو علاقات واسعة مع علماء ومفكري العالم الاسلامي، وله معهم حوارات وزيارات وتأثير في العالم الاسلامي، مع أن السيد الشهيد الحكيم كان يعيش حصاراً استثنائياً لما يحمله من خصوصية عراقية أيام ذلك الحصار المتراكم على العراق، من الحصار الداخلي، والحصار الاقليمي، والحصار العربي، والحصار الاسلامي، والحصار الدولي الذي كان يعيشه العراق، وقد كان السيد الحكيم رمزاً من رموز العراق، فمن الطبيعي جداً أن يكون تحت ضغط ذلك الحصار، لكن مع ذلك ـ و لم تكن الفرصة مؤاتية له كما هي مؤاتية للبعض ـ كان يمتلك قدرة واسعة وعلاقات واسعة للحوار مع الآخر وتفهّم وإفهام الآخر.

إذن، مشروعه الوحدوي في بعده الإسلامي كان متميزاً بالانفتاح على الآخر، بالرغم من اتسامه بالحفاظ على الثوابت.

واضافة الى ذلك كان يساهم بشكل كبير في المؤتمرات التي تعقد للوحدة الاسلامية، للعمل على القواسم المشتركة بين كل اطراف العالم الاسلامي، بل كان يسعى دوما لمواجهة إثارات التطرف والتوتر في الاوساط الاسلامية، فمثلا حينما إنطلق برنامج (الحوار الصريح بعد التراويح) في قناة المستقلة، لم يكن هدف البرنامج واضحا للكثيرين، الذين انساقوا معه من الشيعة والسنة، لكنه منذ اوائل أيام بثّ البرنامج شخّص واعلن عن رفضه وتحريمه لهذا البرنامج، واشار ـ وهو في زيارة الى دولة الكويت ـ الى الآثار الخطيرة التي يمكن أن تترتب على هذا البرنامج الذي يفجر الخلافات بين المسلمين، ويثير بعضهم ضد البعض الاخر.

المحور الثاني: المحور المذهبي

كان للشهيد الحكيم (رضوان الله تعالى عليه) مشروع وحدة في أطار شيعة وأتباع أهل البيت (عليهم السلام)، وفي هذا المجال حديث واسع جداً، لكن نركز هنا على البعد السياسي، حيث إن السياسة في الكثير من الاحيان يكون لها دور تخريبي في تفرقة الصف، فكيف كان الشهيد الحكيم يفعّل مشروعه الوحدوي في الجانب السياسي؟!

في هذا المجال الحديث واسع جدا، لكن هنا نذكر مفردة واحدة وجانباً واحداً يعتبر من اهم الجوانب السياسية، وهو أن الشهيد الحكيم كان في مشروعه الوحدوي، في أطار أتباع أهل البيت يلتزم بالثابت الاول بعد الثوابت المقدسة المعصومة، ألا وهو المرجعية الدينية. فإننا نلاحظ أن الكثير من الاصلاحيين أو المصلحين الذين يمتلكون رؤى معينة، ويرون أنفسهم على حق، نجدهم في كثير من الاحيان يخطئون التقدير، وتكون مشاريعهم الاصلاحية سبباً في تفريق الصف مما يؤدي الى إرباكات كبيرة في واقع الامة، إلاّ أن الشهيد الحكيم مع أنّه كان يمتلك رؤية اصلاحية، وكان صاحب مشروع تغييري كبير، وكانت له آلياته، وله قاعدته الشعبية المليونية في داخل وخارج العراق، بحيث يمكن له أن ينطلق من ادعاءات عريضة، كما هو الحال ـ مع الاسف ـ عند البعض الذي عندما ينبغ ويبرز في جانب من الجوانب يبادر الى ادعاءات عريضة قد يتطاول ـ في كثير من الاحيان ـ على نفس مقام المرجعية، امّا السيد الشهيد الحكيم الذي كان في أوج تألّقة وأوج شعبيته وأوج لقائه مع جماهيره وفي ذلك الاستقبال المليوني الذي خرج به أهل الجنوب، ابتداءً من البصرة ـ قاعدة العراق الاولى والكبرى ـ حتى مرقد جده أمير المؤمنين (عليه السلام) في النجف، كان يكرر قوله: «أنا أقبّل ايادي جميع المراجع العظام».

فهذا الأمر كان ينطلق فيه من رؤية، وليست هي مسألة مصالح، أو مسألة أن البعض يثيرون الغبار في وجه المرجعية في ظروف حصار المرجعية ثم إذا وجدوا أن في المرجعية سلّماً يصلون به الى مواقع في السلطة يبدؤون يهتفون للمرجعية ويدّعون الانتماء لها، فهذا ليس شأن ولا دأب السيد الحكيم (رضي الله عنه).

فالشهيد الحكيم (قدس سره) كان صاحب نظرية المرجعية الدينية السياسية [3]، وكان يحاول أن يملأ بها فراغاً، ولابد من الحذر من الوقوع في سوء فهم وافتراض أنها شيء آخر في مقابل المرجعية العامة، بل الحق أن المرجعية العامة هي الأساس وهي الأصل، فإذا صادفت ظرفاً استثنائياً حال دون أن تنهض المرجعية ببيان الأحكام الشرعية السياسية، أي: كان لديها ـ وبالاصطلاح الحوزوي ـ احتياط وجوبي في مقام الفتوى، أي: لا توجد فتوى لدى المرجعية، ففي هذه الحالة يجوز الرجوع إلى الغير.

أما فيما عدا ذلك فحتى لو اختلف في الرأي مع المرجعية ـ وأقول ذلك عن بصيرة ـ كان يجد أن عليه طاعة المرجعية والالتزام بفتوى المرجعية الدينية العليا.

ومن نبوغات السيد الشهيد الفقهية أنه (قدس سره) كان يستدل لهذا الأمر بما في كتاب الكافي ـ الجزء الأول ـ في باب ما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنصيحة لأئمة المسلمين ولزوم جماعتهم، وهي أكثر من رواية صحيحة، بل لها اكثر من طريق صحيح، ونذكر هنا هذه الرواية:

عدة من اصحابنا، عن أحمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن نصر، عن أبان بن عثمان، عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام): «أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خطب الناس في مسجد الخيف، فقال نظّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلّغها من لم يسمعها، فربّ حامل فقه غير فقيه، وربّ حامل فقه الى من هو أفقه منه، ثلاثة لا يغل عليها قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لأئمة المسلمين، واللزوم لجماعتهم..» الى آخر الحديث.

فإذا كان البعض في هذا الزمان يتحدث عن الديمقراطية والانتخابات وما شابه ذلك وكأنها موضة أو موديل من موديلات العصر، فإن هذا الأمر له منطلقاته الفقهية وليس وليد هذه الايام، بل هو نتيجة التفكير بعقل فقهي اسلامي، وليس مجرد تقليد أو متابعة للآخرين.

فالسيد الحكيم كان يرى أن المرجعية العامة إذا كان لها موقف قد وجد صداه في وسط الامة، فلا يجوز شرعاً مخالفة هذا الموقف وإن رأى في قناعته الاولية أن هذا الأمر ليس صحيحاً ـ لانه أمر اجتهادي، وباب الاجتهاد مفتوح، والاختلاف في الرأي أمر طبيعي، ولا يدّعي أحد العصمة للمرجعية الدينية ـ.

فعلى صعيد الموقف حينما يكون هناك رأي وموقف عام تابع للمرجعية الدينية فلابد من الالتزام به، ولو بالعنوان الثانوي بشكل خاص، مثل ذلك بعض الامور التي نراها محلّلة، لكن إذا لزم منها أمر محرم ـ مثل عقوق الوالدين ـ فإننا نقول عنها بأنها محرمة؛ لأنها يلزم منها أمر محرم، فهنا أيضاً يوجد عنوان فقهي يجب الالتزام به، وهو اللزوم لجماعة المسلمين. وهنا انبثق بحث واسع كان الشهيد الحكيم قد اهتم به وهو: ما المراد من جماعة المسلمين؟ فبعض الروايات تقول: «أهل الحق وإن قلّوا»[4]وهذا يحق له تفصيلاته.

إذن، كان (قدس سره) يرى لزوم الوحدة بين المسلمين وبين أهل الحق وبين اتباع اهل البيت (عليهم السلام)، لأنها وحدة المسلمين الحقيقية، كما حددها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما شّرع الالتزام بمحورية أهل البيت (عليهم السلام) بقوله: «أهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف»[5] وهذا هو محور الوحدة الحقيقي.

وكان يرى (قدس سره) ضرورة الالتزام بالمرجعية الدينية العليا وبموقفها.

وأما على الصعيد العملي، أي: على مستوى الفعل والسلوك، فإن السيد الحكيم حينما أراد أن يقيم صلاة الجمعة ـ التي ضرّج شهيداً في أعتابها ـ أرسلني شخصياً إلى المراجع العظام في النجف الأشرف لأعرض عليهم هذا الأمر واُطلب منهم أن ينظروا إلى هذه الجمعة ويعتبرونها مشروعهم كلهم لا أنها مشروع السيد محمد باقر الحكيم، فقلت له: إنه لشيء رائع أن يتصدى أي أحد من المراجع للصلاة، فقال: لا، فقد يكون لديهم ظروفهم الخاصة التي تمنعهم من ذلك، بل أي أحد يرشحه المراجع فليتفضل ونتشرف به. هذا هو الأساس الذي تأسست عليه صلاة الجمعة في النجف الأشرف.

فالأمر لم يقتصر على صعيد النظرية والخطاب السياسي وتقبيل الأيدي، علماً أن السيد الحكيم لم يكن بحاجة للتصنع في هذا الأمر، فقد قال له سماحة آية الله العظمى المرجع الشيخ الوحيد الخراساني في قم أثناء زيارته الرمضانية له وكنت معه: العراقيون لا يجدون ملجأ ومرجعاً سواك، فهو (قدس سره) ليس بالشخص العادي الذي يحاول أن يتمسك أو يتمسح بأثواب المرجعية ليحقق موقعاً له في المجتمع أو ليغطي نقصاً.. بل هي مسألة مبدأ، وهو أصل من الاصول التي تجعل من الشهيد رمزاً يحفظ لنا ثوابتنا؛ خصوصاً ونحن نمر بمرحلة عسرة في مسيرة تأريخ اتباع أهل البيت في العراق وخارجه، فهناك ضرورة لوعي هذه الحقائق ولاتخاذها منهجاً لدى الجميع.

بالإضافة إلى كل ذلك كان الشهيد الحكيم ـ على صعيد الاطار المذهبي ـ يحمل إصراراً بالغاً للانفتاح على الحركات والاحزاب والجهات السياسية الأخرى، ففي أيام مؤتمر لندن ـ وهذا غيض من فيض ـ حينما كان هناك موقف افضل ما نعبّر عنه أنه متريّث من قبل بعض الاحزاب الاسلامية في المشاركة أو عدمها، وفي الانكفاء والانعزال عن العملية السياسية، أو المشاركة في العملية كانوا يخشون أنها قد تكون خاسرة، كان حينها الشهيد الحكيم يصر على وجوب أن يكتب ميثاق بين الاسلاميين، فاختلفوا على تفاصيل الميثاق، فقال (قدس سره): لدينا كلمة (بسم الله الرحمن الرحيم) متفق عليها ولا يختلف فيها اثنان، فلنكتب (بسم الله الرحمن الرحيم) ونوقع كلنا تحتها كوثيقة، فإن نفس اجتماعنا على شيء هو أمر فيه مصلحة، وهو سبب من أسباب النصر.

فتلخص أن الشهيد الحكيم في مشروعه الوحدوي في اطار أتباع أهل البيت (عليهم السلام) كان:

1 ـ يحافظ على الثوابت.

2 ـ ينفتح على الآخرين.

3 ـ يعمل على القواسم المشتركة.

4 ـ يضحي في كثير من الأحيان من أجل المحافظة على القواسم المشتركة.

المحور الثالث: المحور الوطني

لقد كان له (قدس سره) ثوابت مهمة واساسية في مشروعه الوحدوي الوطني في هذا العصر، الذي هو عصر المحنة وعصر الشهداء وعصر الظلامات التي تراكمت على ظلامات، بحيث كانت تفجعنا ظلامة من الظلامات ـ وهذا يعم الكل دون تخصيص جماعة دون اخرى ـ فننسى ما قبلها من الظلامات، ثم تأتينا ظلامة أخرى تنسينا ما سبق، فالكل يتذكر أنه حدثت ظلامات في الثمانينات، ثم جاءت ظلامات انتفاضة شعبان فوجدنا ما وجدنا من ظلامات، فهذا العصر هو عصر المحنة.

وفي هذا العصر كان (قدس سره) يرى أن من أهم الثوابت التي يرى فيها المصلحة للوطن هو اجتثاث صدام والصداميين من العراق، وهذه من الثوابت التي لا يمكن للعراق أن يستقر إلاّ بها، وفي نفس الوقت من ثوابته ايضاً: عدم القبول بالاحتلال، ولكن لم يكن معنى ذلك انه يرفض الاحتلال فيصطف الى جانب صدام، كما صنع البعض عن غفلة أو تغافل. وانما كان يرى ضرورة إسقاط صدام دون القبول بالاحتلال بحال من الاحوال.

كما كان يرى ضرورة مشاركة الجميع في بناء العراق، فالعراق لكل العراقيين، فكان يدافع عن الاكراد، وكان يدافع عن المظلومين من السنة العرب، وكان يقول: إن في الاسلام نصيب حتى لابناء الاديان الاخرى[6]؛ إذ إن في عدالة الاسلام سعة يمكن أن تستوعب حتى ابناء الاديان الاخرى، ويدافع عن الصابئة والمسيحيين، ويطالب بحقوقهم، فضلاً عن الطبقات المستهدفة المظلومة بشكل استثنائي من قبيل الكرد الفيليين والتركمان وأمثالهم.

فكان يرى ضرورة مشاركة الجميع في بناء العراق؛ لانها ليست معركة يفوز بها بعض العراقيين في مرحلة من المراحل فيأخذون الأمر بقبضة من حديد ويضربون على رؤوس الآخرين ويستتب لهم الأمر لبرهة ثم تتغير الأمور ليأتي آخرون، بل كان يرى أن استقرار العراق لايتم الا من خلال مشاركة الجميع، والرجوع إلى الأمة و تحكيم وحضور الناس في الساحة، ويدل على ذلك إصراره على حضور صلاة الجمعة رغم المعلومات الواردة له حول وجود مخطط لإغتياله، لئلا ينكفئ الناس عن الحضور في الساحة.

كما أوصى (قدس سره) إلى بعض الأشخاص الذين ظلموﻫ فإن بعض الناس ظلموا السيد الحكيم نسأل الله تعالى لهم أن يتوبوا وأن يعودوا إلى الحق ـ قائلاً: أنا الآن أتعرض لأخطار معنوية ومادية كبرى، فلماذا أعرّض نفسي لذلك؟! أليس من أجل هؤلاء الناس؟ وإلاّ فمن الأفضل لي شخصياً أن أجلس في بيتي واعتزل، وأنا اعلم مقدار محبة الناس واحترامهم لي؛ إذ إن الناس ينظرون للسيد الشهيد الحكيم بأنه بضعة من السيد محسن الحكيم، وكان من أهم المناشئ التي تجعل الناس تلتف حوله هو أن الناس يحبونه لحب أبيه فإن الناس يرون أن نفس أبيه بين جنبيه، فكان (قدس سره) يقول: بإمكاني أن اعتزل وأترك هذا الأمر، ولكن أنا أريد أن أهتم بحفظ حقوق الناس من الضياع.

الفيدرالية في المشروع الوحدوي

إن المعركة ما زالت مستمرة، واليوم يمر العراق بأزمة كبرى من أجل التعديلات الدستورية التي ترسم مستقبل العراق، فنحن على أعتاب تحديات خطيرة وكبيرة، منها مشروع الفيدرالية، وهنا لابد من بيان الموقف من الفيدرالية من قبل السيد الشهيد الحكيم ومن قبل من ورث الجانب السياسي منه في الائتلاف العراقي الموحد، والذي لم يواجه باعتراض من قبل المرجعية، فلا نقول: إن المرجعية الدينية تتبنى هذا الموقف، بل نقول ـ وهنا كلام دقيق ـ: لم يواجه باعتراض من قبل المرجعية، مع أن المرجعية على علم تام بالأمر.

الموقف من الفيدرالية هو كالآتي:

إن الذي يوحّد العراق و الشعب العراقي هو النظر إليه بنظرة واحدة متساوية، دون أن يكون هناك تمييز بين مكونات الشعب العراقي ولا بين محافظات العراق، هذا هو الذي يوحد الشعب العراقي، وليس الإصرار على تطبيق أو رفض الفيدرالية.

الفيدرالية حق لأي محافظة من المحافظات، فيمكنها أن تطلب أن تكون فيدرالية، وهذا الطلب يكون بطريقتين:

الطريقة الأولى: أن يكتب نصف أعضاء مجلس المحافظة طلباً بأن تتحول المحافظة إلى فيدرالية، ثم بعد ذلك يصوت الناس على هذا الأمر، فلا يفرض أحد الفيدرالية على أحد، إنما هي باختيار الناس، فإذا اختاروا فان اختيارهم مقبول ومحترم.

الطريقة الثانية: أن يطالب عُشر سكان تلك المحافظة بالفيدرالية، وهنا أيضاً يصوّت الناس، فإذا كانت النتيجة أن الأغلبية مع الفيدرالية فذلك حقهم.

فالمهم، إن الفيدرالية حق لا ينبغي أن ينتزع من أهله، فإن هناك حقوقاً استثنائية خاصة تترتب على كون هذه المنطقة فيدرالية أو اقليماً من الأقاليم، فالأقاليم لها حقوقها، فإن أي محافظة تريد هي أو مع غيرها من المحافظات ـ حيث لا يوجد سقف لعدد المحافظات ـ أن تكوّن فيدرالية فذلك حقها.

ونحن نؤمن بأن محافظات الوسط والجنوب هي مجموعة محافظات تكون المشتركات فيما بينها هي الطاغية وهي القائمة، فلا نرى هناك مصلحة في أن تتجزأ هذه المنطقة الى فيدراليات متعددة، وهذا أمر لا بأس به، بل نتمنى أن يكون العراق كله فيدرالية واحدة.

فالشيء الذي اُتفق عليه تقريباً ولم يجد رفضاً ـ إلا من قبل المقاطعين، أي: الذين يحلو لهم أن يسموا بالمقاطعين، قطع الله دابر الفتنة ـ هو أن أي محافظة من المحافظات تتمكن مع غيرها من المحافظات أن تلتحم في إقليم من الأقاليم فذلك حق لها، وهذا الحق إذا لم يفصّل في الدستور يمكن أن يأتي يوم ويندم عليه الشعب العراقي، أو بعض قطاعات الشعب العراقي، فإن هذا الحق لا يصح أن يعطى للبعض ويسلب من البعض.

إذ إنه لابد من النظر الى العراق بنظرة واحدة، وهذه هي النظرة الحكيمة التي كان يتمتع بها الشهيد الحكيم، وتتمتع بها المرجعية الدينية، ويتمتع بها عموم أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، فأنهم في المسائل الوطنية لا يقدمون مشاريع خاصة، فالعراق عراق علي والحسين، والعراق عراق أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، فنحن ليست لدينا مشاريع خاصة للشيعة فقط في مقابل مشاريع اخرى، قد يفعل بعض الأخوه لسبب أو لآخر، وقد يتكلمون و يتقدمون بمشاريع خاصة للجهة الفلانية أو الحركة الفلانية، أما لو لاحظنا المرجعية الدينية أو الشهيد الحكيم وعموم الحركات السياسية الناضجة في العراق فأنها لا تتقدم بمشاريع خاصة، وإنما تتقدم بمشاريع عامة للعراق.

والفيدرالية مشروع عام؛ إذ إن كل العراقيين من حقهم أن يكون لهم فيدرالية، وتكون الأمة ـ أو الشعب ـ إذا أرادت أن تستفيد من هذا الحق فذلك لهم، وإن لم يريدوا ذلك فلهم الخيار.

إنما المهم هو أن هذا الحق لابدّ أن يبقى محفوظاً للجميع ولا ينتزع من أحد..

الخاتمة

تلخص مما سبق أن المشروع الوحدوي عند الشهيد الحكيم (قدس سره) يحمل بين طياته ثلاثة ملامح رئيسية يتسم بها كل محور من محاور التفعيل والتطبيق لهذا المشروع؛ إذ إن المشروع الوحدوي هذا لم يختلف على صعيد النظرية عنه على صعيد التطبيق والعمل، وكان (قدس سره) يحمله بين جنبيه مبدأ يؤمن به، ولم يتخذه وسيله يتزلف بها إلى أهداف صعبة المنال، وكانت محاور التفعيل هي على أطر ثلاثة، هي:

1 ـ الإطار الإسلامي:

وهو الذي ظهر ـ جلياً ـ فيه هذه الملامح:

أ. الالتزام بالمبادئ، وعدم التخلي عنها، فكان المحور في هذا المشروع هو القرآن، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومحورية أهل البيت (عليهم السلام).

ب. الانفتاح على الشخصيات والرموز الإسلامية بسعة كبيرة رغم ظروف الحصار القاهر الذي عانى منه السيد الحكيم كرمز من رموز العراق.

ج. العمل على إيجاد العوامل المشتركة والبحث عنها، ولو بحضور كل المؤتمرات التي تنعقد تحت شعار الوحدة.

2 ـ الاطار المذهبي

قد تبين أن المشروع في هذا الاطار يحمل نفس الملامح المبدئية الثلاث، وهي:

أ ـ الالتزام بالمبادئ وعدم التنازل عنها من خلال التمسك بمبدأ المرجعية الدينية العليا، وعدم مخالفتها رغم كونه صاحب نظرية خاصة، ولكنه جعل نظريته في خدمة المبدأ، وكان يرى أن الديمقراطية هي رأي الأمة المستند للمرجعية العليا.

ب ـ الانفتاح بإصرار على كل الحركات والأحزاب والجهات السياسية رغم الخلافات والظلامات التي وقعت عليه.

ج ـ البحث عن القواسم المشتركة وإن كانت بسيطة، بل التضحية بكثير من الأمور من أجل إيجاد العوامل المشتركة والمحافظة عليها.

3 ـ الإطار الوطني

وتتجلى فيه ملامح المشروع الوحدوي من خلال:

أ) الالتزام بالثوابت وإن صعبت الموازنة بينها، وهي ضرورة إجتثاث صدام والصداميين من العراق، ورفض الاحتلال بأي حال من الأحوال.

ب) ضرورة مشاركة الجميع في العملية السياسية دون استثناء.

فقد كان يصرح بأنه إنما يضحي من أجل حفظ حقوق الناس والمحافظة على بقائهم في الساحة.

ج) القواسم المشتركة التي تدعو لمشاركة الجميع، فإن العراق للعراقيين.

واخيراً إن السيد الشهيد (قدس سره) كان يرى أن الفيدرالية هي حق لا ينبغي أن ينتزع من احد بل للكل التمسك بهذا الحق، وأنها ليست عاملاً مقسماً للعراق، بل يمكن أن تكون عاملاً موحداً لكل أطياف الشعب العراقي.

… والحمد لله رب العالمين …

[1] ال عمران: 103.

[2] خطاب السيد الشهيد الحكيم لدى عودته إلى النجف الاشرف بتأريخ 13 / 5/ 2003.

[3] انظر: موسوعة الحوزة العلمية والمرجعية 2: 175 وما بعدها.

[4] الامالي، للصدوق : 413، ح 536.

[5] ينابيع المودة 2: 443، ح219.

[6] انظر الأربع عشرة .. مناهج ورؤى: 84 ـ 85.

اكتب تعليق

كافة الحقوق محفوظة لمؤسسة تراث الشهيد الحكيم، ولا يجوز الاستفادة من المحتويات دون إذن خطي.

الصعود لأعلى