العرفان العملي مقاربات في البُعد الأخلاقي لخطاب شهيد المحراب (قدس سره) المعرفي

motmar1

 

بحث شارك في المؤتمر الأول لإحياء التراث الفكري والعملي للشهيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم

الباحث: د. مشتاق عبّا معن

قسم طرائق تدريس القرآن الكيم والتربية الإسلامية كلية التربية انن رشد جامعة بغداد

العرفان العملي

بسم الله الرحمن الرحيم

ديباجة

(علم الأخلاق) من العلوم التي يتوجب على كل إنسان الإلمام به؛ لأنه يمثل البوصلة الحقيقية لجسّ مستوى إنسانيته، فهو بها سُمّي إنساناً، وإلاّ لما فرق عن الحيوان في شيء… فالفارق بينهما ليس العقل فقط، بل مقدار المنظومة المبدئية التي يستند إليها في تنظيم سلوكه اليومي مع المعبود والعباد.

تصوَّر فرداً لا يعتمد على منهج في صنع دولاب خشب؛ إذ تجده يتخبط في جمع المواد اللازمة لصنع ذلك الشيء، ويفتقد إلى كيفية البدء، مما يؤدي إلى هدر الوقت، وعدم التوفيق في إنجاز ما أراد إنجازه، فكيف به إن أراد تنظيم سلوكه لبناء هيكل كبير من العلاقات القائمة على شبكة متفرعة من القرابة سواء أكانت قرابة رحمية أم عملية أم غير ذلك … فما ينظم تلك الشبكة المتفرعة داخل الهيكل الكبير من العلاقات، هي: منظومة المبادئ الأخلاقية التي يكتنزها في مكنون نفسه …

وقد يعترض بعض الناس على صعوبة الالتزام بجميع ما شرّعه الله علينا من عبادات، ولاسيما العبادات المندوبة، فتجدهم يكتفون بأداء الواجبات ويتقاعسون عن المندوبات على الرغم مما فيها من فوائد، ففي الحديث القدسي المشهور جاء ما نصه: «ما زال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته، وإن سكت ابتدأته»[1].

وفي حقيقة الأمر لا يأتي أمر التكاسل ذاك عن قصور في إمكانيات الخلق التحملية للانظباط بمنهج أخلاقي دقيق وصارم، فالمولى ـ جلّت قدرته ـ خلقنا فأحسن خلقنا، وساوى بيننا بالإمكانيات، لكن الفارق ينبع من أن بعضنا ترك استعمال الإمكانيات واستثارتها فانتابها الضمور والنحول، في حين دأب بعضنا الآخر على استغلالها الاستغلال الأمثل فتجده أكثر حيوية وأكثر نشاطاً في الالتزام وتزكية النفس؛ لـ «أن الله جلّ ثناؤه لما أراد أن يجعل في الأرض خليفة له من البشر؛ ليكون العالم السفلي ـ الذي هو دون فلك القمر ـ عامراً بكون الناس مملوءاً من المصنوعات العجيبة على أيديهم محفوظاً على النظام والترتيب بالسياسات الناموسية والملكوتية والفلسفية، ليكون العالم باقياً على أتمّ حالاته وأكمل غاياته، ثم أيد نفسه بقوى روحانية، وممكناً له قبول جميع سائر الأخلاق، وتعلم جميع العلوم والآداب والرياضيات والمعارف والسياسات وجميع الصنائع البشرية»[2].

وتأسيساً على ما مرّ، يمكن القول: بأن الله سبحانه وتعالى حينما خلق الخلق جعلهم مؤهلين لأن يكونوا عارفين بالجملة، لكنّ سلوكية العبد نفسه وتعامله مع إنسانيته وطاقاته هي التي تتحكم بحيازة ذلك المؤهل أم لا؟! … فمن العبث أن نخالف هذا المعتقد ؛ لأنه ينسب الظلم لله ـ حاشاه ـ إذ كيف يجعل ـ سبحانه وتعالى ـ قدرات الخلق متفاوتة في تزكية النفس، ويحاسب بعد ذلك ضعيفي القدرة؟؟؟!!! … فالقدرات في أصل التكوين واحدة، لكن تنميتها واستثارتها تعتمد على العبد نفسه ؛ لذا قال جل جلاله: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (الإنسان / 3) وقوله: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس / 8) … وتبعاً لذلك يمكن للخلق جميعاً أن يكونوا عرفاء، إن التزموا بمنهج زكوي واحد يرقى بهم نحو استكشاف عوالم الحقيقة الكبرى … وهو أمر أكده أغلب العرفاء الربانيين، ومنهم: الشيخ محمد البهاري الهمداني في وصاياه الأربعين ؛ إذ قال في وصيته السادسة والثلاثين المعنونة بـ «التكامل للجميع» ما نصّه: «إن من الخطأ الفادح أن نحصر السعي المركز لحيازة رتب العبادة العالية بفئة من الناس.. فإن الحق المتعال وعد بعدم تضييع عمل عامل من ذكر أو أنثى، فالمهم أن يكون العبد عاملاً لا خاملاً، والشريعة إنما جاءت لتكامل الجميع، فالتلقين النفسي: إن العبد دون مستوى حتى التفكير بهذه الأمور، من السبل الشيطانية لتثبيط العبد.. والتاريخ يعرض لنا صوراً بليغة من التكامل، سواءً في مجال النساء أم الرجال، الأحرار أم العبيد»[3]، وعليه يجب أن نلغي الفكرة السائدة بين الناس: بأن «التمسك بالدين والالتزام بالأحكام الشرعية من شأن علماء الدين وطلاب العلوم الدينية فحسب. وهذه الفكرة تمثل ظاهرة خطيرة … تفوق في خطورتها ظاهرة التواكل في العمل، وفي الحياة الاجتماعية، ومن هنا فقد كرّس هذا الكتاب ـ والحديث لمؤلف كتاب كيمياء المحبة: لمحات من حياة المرحوم الشيخ رجب علي الخياط الطهراني ـ لدحض هذه الفكرة؛ فهو يقدّم للقارئ نموذجاً لإنسان عادي، وهب نفسه لله فوهبه الله ما أراد، وأطاع الله فطوّع الله له بإرادته ما أراد … وخلاصة القول هي: إن التمسك بالدين كفيل بأن ترتقي بالإنسان العادي إلى مراتب رفيعة من المقدرة الروحية»[4]؛ لذا وضع أهل البيت (عليهم السلام) المنهج الأمثل لبلوغ مرحلة الكمال الإنساني الذي به يصبح الإنسان الكائن الحقيقي الذي أراده الله، فالعارف بالله هو: «العارف شخصه مع الخلق وقلبه مع الله، ولو سها قلبه عن الله طرفة عين لمات شوقاً إليه. والعارف أمين ودائع الله، وكنز أسراره، ومعدن نوره، ودليل رحمته على خلقه، ومطيّة علومه، وميزان فضله وعدله، قد غني عن الخلق والمراد والدنيا، ولا مؤنس له سوى الله، ولا منطق ولا إشارة ولا نَفَسَ إلاّ بالله لله من الله مع الله. فهو في رياض قدسه متردّد، ومن لطائف فضله إليه متزود، والمعرفة أصل وفرعه الإيمان»[5].

وقد بيّن الله جل جلاله من خلال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) أهمية العرفان والسلوك إليه، ففي الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «لو علم الناس ما في فضل معرفة الله، ما مدّوا أعينهم إلى ما متّع الله به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعمتها، وكانت دنياهم عندهم أقلّ مما يطؤونه بأرجلهم،ولتنعموا بمعرفة الله تعالى، وتلذذوا بها، من لم يزل في روضات الجنات مع أولياء الله. إن معرفة الله أُنس من كل وحشة، وصاحب من كل وحدة، ونور من كل ظلمة، وقوة من كل ضعف، وشفاء من كل سقم»[6].

فالعرفان إذن، «ظاهرة عريقة في الحياة الإسلامية، مرّت بأطوار من الازدهار والخمود، وتركت ـ وما زالت ـ بصمات بارزة في تاريخ الإسلام وآدابه.

وقد تعددت الآراء وتباينت الأقوال بشأن ماهية العرفان بين قادح ومادح: فالقادح يرى العرفان: ظاهرة دخيلة على الإسلام، أو أنها بدعة، وفدت علينا من أديان أو مسالك تطغى عليها هذه النزعة … أما الرأي الآخر وهو الرأي المادح: فيذهب إلى القول: بأن ظاهرة العرفان ظاهرة إسلامية أصيلة في جذورها ومنطلقاتها، ألقى بذورها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بين أتباعه، وتمسك بها الكثير من الصحابة، حتى أصبحت هي الطابع الغالب على حياتهم، وبها عرفوا واشتهروا، وأفضل دليل على ذلك هو كثرة الأحاديث التي تحثّ على الزهد في الحياة والاستزادة من الغذاء الروحي، وتحث المؤمن على الزهد والتقوى … والحقيقة هي: إن هذه الظاهرة لها جذور موغلة في قدمها مع قدم الإسلام، وتبرز معالمها واضحة للعيان في الخطب والروايات الشريفة، وفي الأحاديث القدسية، ولا شك في أن التمسك بما ورد فيها من إرشادات ومضامين، كفيل بأن يجعل المرء على درجة عالية من التقوى، ويصوغ شخصيته صياغة روحية، ويجعله قادراً على تطويع عالم المادة لعالم الروح»[7].

لذا توقف أغلب العلماء عند التفريق بين المنهاج الصحيح للسلوك إلى تزكية النفس ومعرفة الله، وبين المنهاج غير الصحيح النابع من منافذ مبتدعة ألصقت نفسها بخط بيت النبوة عليهم أفضل الصلاة والسلام.

وترتكز الطرائق الصحيحة أو التي أثبتت صحتها في السلوك على جملة مرتكزات، يأتي الحب في صدارتها ؛ فهو أساس العمل السلوكي، ومن دونه لا يمكن للعارف أن يتخطى عقبات المقامات والسفر في منازل الرحيل إلى الله؛ لذا توقف شهيد المحراب (قدس سره) عند هذه المفردة المهمة، وبيّن مفاصل الانحراف فيها بقوله: «وجدت في هذا المجال اتجاهات انحرافية، حيث ترى أن الحب هو عملية مجردة عن السلوك والعمل، منها ـ هذه الاتجاهات ـ: الصوفية التي استقطبت الشارع الإسلامي من مختلف مناطق العالم الإسلامي، فلذا كانوا يعقدون مجالس الذكر تعبيراً عن حبهم، حتى تصل بهم الحالة إلى الصراع وفقدان الشعور بادعاء الارتباط العشقي بالله تعالى، بينما في ممارساتهم الشخصية قد يشربون الخمر، ويتهاونون في العبادات، وحتى بعض شيوخ هذه الطرق يتحدثون عن موضوع الحب، ويركزون عليه من خلال النظرية والفكرة؛ فلذلك تجد بعض أتباعهم يعتبر شاذاً في مختلف أنواع السلوك»[8].

وقد طرح علماء المنهج الصحيح للسلوك جملة طرائق، يرونها موصلة لمعرفة النفس، ومن ثم معرفة الله، وسجلت طروحات متنوعة في هذا الميدان، ومن بينها ما يسمى بـ (العرفان العملي)، وقد ورد ذكره عند الأستاذ العلامة الشيخ حسن حسن زاده آملي في المفصل الذي خصّصه لمذكراته مع العلاّمة الطباطبائي ـ صاحب الميزان ـ وعنونه بـ: «منزلة العلامة الطباطبائي في العرفان العملي» وجاء فيه: «لقد كانت مكانة العلامة الطباطبائي (رضوان الله عليه) في العرفان العملي أنه وجد ووصل إلى يقين (إِنَّ ﻫذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)، فهذا هو الطريق ولا يوجد سواه، فكان سلوكه وقوله وسكوته وقلمه دقيقاً بهذا الاتجاه، وحتى آثاره الوجودية كلها كانت حاكية عن نزاهته وعظمة ذخائره العلمية والعملية. وعندما يزور الإنسان العلامة الطباطبائي فإنه يتذكر ذلك الحديث الشريف الذي نقله الكليني عن الإمام الصادق (عليه السلام) في كتاب فضل العلم الكافي: «من تعلم وعمل به، وعلّم لله دعي في ملكوت السماوات عظيماً، فقيل: تعلّم لله، وعمل لله، وعلّم لله» … لأن للإنسان واردات وصادرات، ولابد أن يكون مراقباً لنفسه بشدة، فوارداته تصنعه، وصادراته تخبر عن باطنه، فكلام كل شخص دليل على شخصيته … فهذا هو الإنسان الحقيقي، وهذه هي الحقيقة التي كانت واضحة بأحسن وأكمل وجه ممكن في حضرة العلامة الطباطبائي»[9].

وبمراجعة مضمون العرفان العملي في خطاب شهيد المحراب نجده يتسم بالسعة عن المضمون الذي سلف ذكره، بحيث أراد الشهيد أن يسهم العارف في الحياة السياسية أيضاً؛ ليتسنى له الإسهام في الحركة التغييرية للأمة، لا عبر النصائح والإرشادات؛ بوصفه واعظاً فحسب، بل يغير ـ من موقعه القيادي ـ سياسياً، ناهيك عن موقعه القيادي دينياً … وهو بهذا المنهج يكون قد انضم إلى الثلة القليلة التي طالبت مرتادي العرفان أن ينزلوا إلى ساحة العمل الحقيقية، إن لم يكن انفرد بتوجهه هذا ….

العرفان من وجهة نظر شهيد المحراب

حاول شهيد المحراب أن يقدّم منهجية متكاملة لتنظيم حياة المسلم؛ بغية إيصاله إلى طريق المعرفة الحقة، من خلال تنفيذ مطاليب النظرية الإسلامية، إذ لا تكاد تفتقد هذا المصطلح ـ أعني «النظرية الإسلامية» ـ في معظم صفحات مؤلفات شهيد المحراب؛ ذلك أنه حاول ترتيبها، بحيث تستوعب مرافق الحياة عامة؛ لذا لا تجده يفرد للعرفان دراسة مستقلة، فهو مذاب في فقرات وعبارات كتبه ودراساته[10]، ويمكننا أن نقول: إن كتاباته كلها حاولت أن تقدّم للإنسان منهاجاً عرفانياً من نوع جديد، يقوم على مبدأ الإسهام الفعّال بالعملية التغييرية التي يريدها المولى ـ جلّت قدرته ـ فـ(إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد / 11)، من خلال:

ـ التصحيح في الانحراف الذي انتاب مسيرة الأمة من خلال الصفوة العادلة الحاكمة وفقاً لشرع الله.

ـ السيطرة على منافذ القرار لتمرير ما يريده الشارع المقدّس عبر قنوات السلطة والقانون.

فقد عانى أغلب أصحاب العرفان من مسألة العزلة من وجهتين:

1 ـ وجهة قسرية: لكونهم منبوذين وسط مجتمع لم يرقَ لمستوى المؤمن الحقيقي الذي يتفهم ممارسات العارفين، كما يُروى عن أسوة العرفاء السيد الميرزا علي آقا القاضي، إذ ينقل صادق حسن زادة في فقرة «محنة العرفان» ما نصّه: «يقول آية الله السيد عبد الكريم الكشميري: «كان السيد القاضي مشهوراً بالعرفان في النجف، ولذا كان تلاميذه يحذرون من التردد على بيت أستاذهم خوفاً من ألسنة المعاندين، فكانوا لا يدخلون داره إلى أن يفرغ الزقاق من المارّة، يقول السيد عبد الكريم الكشميري أيضاً: كنت يوماً واقفاً مع السيد القاضي في صحن مرقد أمير المؤمنين (عليه السلام) فرآني أحد فضلاء الحوزة، وأخذ يهزّ رأسه أسفاً على وقوفي مع السيد القاضي. وكان آية الله علي محمد البروجردي يقرّر درس السيد القاضي، فمنعه أحد علماء النجف المعروفين من حضور درس القاضي، وقال له: لا تذهب إلى هذه المجالس فتتخلّف عن الحصول على درجة الاجتهاد في علوم الحوزة في الفقه والأصول. فكان يأتي سرّاً، ويحضر درس أستاذه»[11].

2 ـ وجهة إرادية: يرى بعض العرفاء ضرورة العزلة والابتعاد عن الخلق ؛ حفاظاً على سلامة النفس من التلوث بقاذورات المذنبين من المحيطين بهم في المجتمع، ومن ذلك ما رآه السيد كاظم الحسيني الرشتي في منهاجه السلوكي نحو معرفة الخالق: «فإن كنت طالباً لعلم التوحيد والمعرفة؛ … فاعتزل عن الخلق ما استطعت؛ فإن الناس داء دفين لا دواء لهم، وأهل الدنيا معاشرتهم سم قاتل، لا يسلم منهم أحد إلاّ من خصه الله بتوفيق الاعتزال عنهم ظاهراً وباطناً، والمطلوب هو الاعتزال بالقلب، لكن في هذا الزمان سيما أصحاب التلوين الذين ما وصلوا مقام التمكين والاطمئنان، والتسلط على النفس، والاعتزال القلبي مع المعاشرات البدنية مشكل جداً، ولذا لا بد من الاعتزال الظاهري مهما أمكن من باب المقدمة ؛ ولذا قال (عليه السلام): «إن استطعت أن تكون على قمة جبل فافعل». وقال (عليه السلام): «فرّ من الناس فرارك من الأسد»؛ لأن الناس أهل الدنيا وأهل الهوى، والمعصية نجاسة، ولا يخلوا أحد من أبناء الدنيا من الانهماك فيها فيتنجسون، وإذا باشرت المتنجس تتنجس، سيما مع بقاء عين النجاسة، هذا إذا كانت المباشرة بالرطوبة، وهي عبارة عن الميل إليهم، وميلهم إليك المقتضيان للسيلان، وأما إذا باشرتهم باليبوسة – بعدم الميل القلبي- فلا بأس، إلاّ أنه ترك للأكمل، أو أنه عندك ماء طاهر تغتسل دون ما يصيبك منهم في الفور، إلاّ أن تكون النجاسة نجاسة الميت ؛ فإنها عينية وإن كان موضع الملاقاة يابساً، والأموات هم الكفرة الفجرة الصوفية …»[12].

لكن منهجية العرفان العملي لشهيد المحراب تأبى العزلة، وتضع علاجاً للوجهة الأولى من حيث قرارة العرفاء في منصة السلطة، بحيث لا يستطيع عوام الناس مخالفتهم أو التقوّل عليهم؛ فطبيعة الخلق الانقياد للسلطة، والإذعان لمن بيده مواثيق القانون، فيستطيع العرفاء من خلال السيطرة على ذلك المنفذ إبعاد استهجان الناس لهم وابتعادهم عنهم.

أما الوجهة الثانية، فمنهجيته ترفضها أيضاً؛ لأن الانخراط بالعمل التغييري والسعي للمشاركة بالحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ينافي العزلة، فهو يسعى إلى تكميل دأب أهل بيت النبوة (عليهم السلام) في تأسيس «الجماعة الصالحة» التي يجب أن تتصف «بالدرجات العالية من الكمالات الإنسانية، (إذ تشكّل) هذه المزية، مضافاً إلى كونها هدفاً إسلامياً للإنسان المسلم، تمثّل في نظر أهل البيت (عليهم السلام) شرطاً ضرورياً لا بدّ لهذه الجماعة الصالحة أن تتصف به، حتى تتمكن من القيام بدورها في التاريخ الإنساني؛ حيث إن هذه الدرجة العالية هي التي تكون قادرة على التأثير في حركة التاريخ الإنساني، وعلى استنزال النصر والخيرات والبركات الإلهية على المجتمع: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ). ولذا نجد أن أهل البيت (عليهم السلام) يؤكدون هذه المزية ليس في مقام تربيتهم لشيعتهم فحسب، وإنما في مقام التعريف بهوية هؤلاء الشيعة وشخصيتهم أيضاً. فقد ورد عن الإمام الرضا عن أمير المؤمنين عن رسول الله (صلوات الله عليهم) قال: «يا علي، طوبي لمن أحبك وصدّق بك، وويل لمن بغضك، وكذّب بك. محبوك معروفون في السماء السابعة والأرض السابعة السفلى، وما بين ذلك هم أهل الدين والورع والسمت الحسن والتواضع لله عز وجل، خاشعة أبصارهم، وجلة قلوبهم لذكر الله عز وجل، وقد عرفوا حق ولايتك» وفي هذا المجال تمّ التأكيد في الروايات على عدة خصوصيات ومعالم أساسية (منها):

  • العبادة والزهد…
  • الإيمان بالولاية والعمل…
  • الإخلاص لله في القلب والعمل…
  • تجسيد القدوة الحسنة…
  • القدرة على الصمود…
  • الكيان المتكامل المحكم…
  • الولاء للمؤمنين …
  • الشعور بالمسؤلية العامة[13].

وعلى هذا الأساس تكون «الجماعة الصالحة» التي يدعو إلى تأسيسها شهيد المحراب تأسياً بنهج أهل بيت النبوة (عليهم السلام) «بعيدة عن التأثر بردود الفعل النفسية والروحية التي انتهت ببعض الجماعات إلى العزلة عن الحياة والانكفاء على النفس، كما يلاحظ ذلك في بعض مذاهب التصوف والباطنية»[14].

وإذا تحقّق لنا تأسيس تلك الجماعة فإننا سنكون قد خلقنا بذرة من بذور زراعة المجتمع المثالي الذي ينهض على أساس التواد والتراحم، ذلك الأساس الذي يعبر عنه: بالحبّ، ويؤكد شهيد المحراب على هذه المسألة من خلال عرض منهجية الوصول إلى المجتمع المثالي، الذي تتمحور علاقاته «في مسألة حب المؤمن للمؤمن؛ ولهذا نجد الروايات الشريفة ـ التي وردت عن أهل البيت (عليهم السلام) ـ تضع الحبّ كحق من الحقوق الأساسية التي يجب أن يلتزم بها الإنسان المؤمن تجاه أخيه المؤمن، فأحياناً الأئمة يعبرون عنه بأنه: أول الحقوق، وأخرى أنه أعظم الحقوق، بل في بعض الأحيان يتوقفون عن بيان حقوق المؤمنين لخوفهم عليهم من شدة ثقل الالتزامات الموجودة بها، لكن مع إصرار أصحابهم يبينوها لهم. فقد روى الكليني رضوان الله تعالى عليه، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ست خصال من كن فيه كان بين يدي الله عز وجل وعن يمين الله. فقال ابن أبي يعفور: وما هن جعلت فداك؟ قال: يحب المرء المسلم لأخيه ما يحب لأعز أهله ويكره المرء المسلم لأخيه ما يكره لأعز أهله» وفي رواية أخرى عن المعلى عن الإمام الصادق (عليه السلام): «قلت له ما حق المسلم على المسلم؟ قال: له سبعة حقوق واجبات، ما منهن حق إلاّ وهو عليه واجب، إن ضيع منها شيئاً خرج من ولاية الله وطاعته ولم يكن لله فيه من نصيب. قلت له: جعلت فداك وما هي؟ قال: يا معلى أني عليك شفيق أخاف أن تضيع ولا تحفظ وتعلم ولا تعمل، قلت: قلت له: لا قوة إلا بالله، قال: أيسر حق منها أن تحب له ما تحب لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك…»[15].

ولا يتحقق ذلك المجتمع من دون رسم ملامح الأخلاق، بحيث تصبح دستوراً للمؤمن الفرد والجماعة؛ لـ «أن الخير ـ وهو أساس المجتمع المثالي ـ في أي مجتمع من المجتمعات إنما يتولد ويتحقق نتيجة لعملية اجتماعية، يقوم بها المجتمع حتى تنزل الخيرات والبركات، وكذلك الفساد والشر والأذى والظلم والاستبداد، وهو عملية اجتماعية تنشأ من حركة المجتمع الجماعية، عندما ينحرف ويتحول إلى مجتمع فاسد. من هنا تصبح قضية صلاح الفرد الآخر مسؤلية هذا الفرد؛ من أجل الدفاع عن نفسه أمام الشر، الذي ينزل بصورة جماعية ؛ ومن أجل كسب المنفعة لنفسه أمام الخير الجماعي، والقرآن الكريم يقول: … (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إذاً، فهذه العملية عملية اجتماعية»[16].

وتأسيساً على ما مرّ ذكره يتبين أن «العرفان العملي» الذي يحاول شهيد المحراب تثبيت جذوره في منظومة المعرفة الإسلامية يتلخص بأنه: تنظيم شامل لمرافق الحياة الإنسانية وفقاً للبُعد الأخلاقي الذي تلتزمه جماعة صالحة كاملة تحاول توصيله إلى المجتمع عبر قنوات الحكم لتحقيق المجتمع المثالي العارف[17].

فمنهجه يمتاز بـ:

1 ـ كونه شمولياً.

2 ـ يستند إلى مبانٍ جماعية.

3 ـ يرفض العزلة.

4 ـ يشجع على تسلم مناصب الحكم لتوصيل الدستور الأخلاقي وإخضاع العامة لتلقـيه.

ولتوضيح هذه المفردات بنحو أوسع يجب علينا الوقوف عند بعض الأمور التي يرتكز عليها منهاجه السلوكي الموصل لدكة «العرفان العملي»، ومنها:

1 ـ الجماعة الصالحة

لا يمكن لأي صاحب فكرة أن يحققها، أو ينزلها إلى حيز التطبيق، ما لم يناصره أحد، وقد بيّنها وصي الرسالة المحمدية (عليه السلام) بقوله: «لا رأي لمن لا يطاع» والطاعة لا تأتي إلاّ من باب النصرة والإيمان بمعتقدات مَنْ تناصر؛ لذا حاول أهل بيت النبوة (عليهم السلام) توصيل أفكارهم من خلال مناصريهم.

وينقل لنا التأريخ قوائم من أتباع كل فرد من أفراد بيت النبوة (عليهم السلام) بدءاً من قمته المتمثلة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وانتهاءً بآخر إمام (عليه السلام) …. وقد ذكر شهيد المحراب طائفة منهم أمثال: «مالك الأشتر، وهاشم المرقال، ومحمد بن أبي بكر، وقيس بن سعد بن عبادة، وحجر بن عدي، وصعصعة بن صوحان، وأخيه زيد، وأويس القرني، وسليمان بن صرد، وأبي الأسود الدؤلي، وعبد الله بن طلحة، وعبد الله بن جعفر، وخباب بن الأرت، وابنه عبد الله، وعدي بن حاتم الطائي، وعقيل بن أبي طالب، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وقنبر مولى علي (عليه السلام)، ومحمد بن أبي حذيفة، وذي الشهادتين خزيمة بن ثابت الأنصاري، والأصبغ بن نباتة، وميثم التمار، وكميل بن زياد، والحارث الهمداني، ورشيد الهجري، وعبد الله بن العباس، وغيرهم فضلاً عن بقايا متقدمي الصحابة، أمثال: عمار بن ياسر، وابن التيهان، وعثمان بن حنيف، وأخيه سهل، وجابر بن عبد الله، وابنه عبد الله بن جابر الأنصاري وغيرهم من أمثالهم»[18].

ولم يغب دور هذه الجماعة في عصر الغيبة الكبرى، بل نابت عنهم التجمعات الصالحة حول المرجعية…. وتطور هذا الأمر شيئاً فشيئاً في ظل التطور الهائل الذي شهده العالم في مختلف جوانب الحياة، فكان من جملة أطراف تلك الجماعة: التجمعات الحزبية الإسلامية النزيهة العاملة على محاربة البغي وتحقيق حكم الله في الأرض، لذا استغل شهيد المحراب هذا التسلسل ليجسد منه عملاً فكرياً جديداً يقوم على أساس الفهم النبوي للنظرية الإسلامية ….

عبر شهيد المحراب (قدس سره) عن تلك الجماعة التي يقترب مفهومها من مفهوم الكادر[19] في أدبيات التعامل السياسي المعاصر بمصطلحات «الصفوة» و «النخبة» و «الجماعة الصالحة»، ولعل المصطلح الأخير هو الثابت في استعمال شهيد المحراب في خطابه المعرفي، ولا سيما في مؤلفاته الأخيرة.

وقد أرجع تأسيس هذه الفكرة إلى عصر النبوة وما بعده ؛ ذلك أن المرسوم للأمة أن يتولى الأئمة قيادتها بالسياسة الفعلية، لولا بعض التغيرات في مسيرتها، لذا فكّر الأئمة ببديل لذلك المرسوم، فكان تأسيس تلك الجماعة هو الحل الأنجع ؛ إذ «كان إقصاء أهل البيت (عليهم السلام) عن هذا الدور الأساسي ـ بفعل الانحراف، وسوء الاختيار أو الاجتهادات الخاطئة، والأهواء الشخصية والسياسية ـ السبب في هذا التخلّف والإحباط والأوضاع السيئة التي يعيشها المسلمون، بل تعيشها البشرية الآن وفي العهود السابقة، ويتحمل «الإنسان» المسؤلية في هذا الأمر كما يتحملها في جميع الأدوار والمواجهات وقضايا الإحباط الأخرى عبر التاريخ البشري، منذ خلق الله تعالى آدم وجعله وزوجه في الجنة، إلى المواقف الأخرى تجاه رسالات الأنبياء (عليهم السلام) عندما تخلّفت البشرية عن رسالاتهم ونداءاتهم الربانية «كان الناس أمة واحدة، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وما اختلف فيه إلاّ الذين أتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم، فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم». وقد حاول الأئمة (عليهم السلام) أن يعيدوا الحق إلى نصابه، وخططوا لتسلّم التجربة الإسلامية بعد إقصائهم عنها، عقيب وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان أحد معالم هذا التخطيط بناء الجماعة الصالحة التي يمكن أن يكون لها دور المساهمة في قيادة التجربة الإسلامية»[20].

«ففي مرحلة الأئمة الثلاثة الأوائل يمكن أن نقول: إن الهدف الأول والأهم من بناء الجماعة الصالحة هو المساهمة في عملية تسلّم قيادة التجربة الإسلامية، وهو هدف يأتي منسجماً مع الأعمال التي قام بها الأئمة (عليهم السلام) على مستوى الحفاظ على الأمة الإسلامية في بُعدها الأول، وهو إقامة الحكم الإسلامي الأصيل، سواء على مستوى الوجود الخارجي لهذا الحكم الذي تحقق على يد الأئمة مدة قصيرة، أم على المستوى النظري والطموح ؛ إذ أوجد الأئمة تياراً في الأمة يدعو لإقامة هذا الحكم، بحيث كان أحد عوامل الضغط لتصحيح مسار الحكم على مرّ التاريخ الإسلامي»[21].

ولا يمكن لهذه الجماعة أن تحقق هدفها الأسمى الذي أُسست من أجله، إلاّ بعد اتصافها بجملة سمات توصلها إلى الكمالات الإنسانية، منها: «الزهد والمواظبة على العبادة بجميع أبعادها، فقد ورد في عدة روايات تصوير النموذج الرائع لذلك، منها: عن أبي جعفر (عليه السلام) في رواية أبي المقداد قال: «يا أبا المقداد، إنما شيعة علي (عليه السلام) الشاحبون، الناحلون، الذابلون، ذابلة شفاههم، خميصة بطونهم، متغيرة ألوانهم، مصفرة وجوههم، إذا جنّهم الليل اتخذوا الأرض فراشاً واستقبلوا الأرض بجباههم، كثير سجودهم، كثيرة دموعهم، كثير دعاؤهم، كثير بكاؤهم، يفرح الناس وهم محزونون …»[22].

ويمكن تلخيص الأبعاد الوظيفية التي يبتغى حيازتها في المجتمع الإسلامي حيال تأسيس هذه الجماعة بالآتي – وفقاً لما قرّره شهيد المحراب ـ:

أ ـ الدفاع عن المجتمع الإسلامي.

ب ـ إيجاد القدوة الصالحة.

ت ـ الوحدة الإسلامية[23]

ث ـ المبدئية والمثل العليا

ج ـ الإنسانية والعالمية

ح ـ التضحية والشهادة[24]….[25]

ومن خلال ما مرّ نفهم أن الجماعة الصالحة هي امتداد للفكر النبوي الداعي إلى تصحيح مسار الأمة بالسير بها نحو التكامل عبر قنوات التطهير والتزكية للنفس والوصول إلى معرفة المعبود، إذ «لا شك في أن أحد الأهداف المهمة من وجود الأئمة (عليهم السلام) وأطروحتهم في الرسالة الخاتمة هو قيادة التجربة الإسلامية والوصول بها إلى الدرجة العالية من التكامل، … حيث كان التخطيط الرباني للرسالة الخاتمة يقضي أن تبلغ التجربة الإسلامية الدرجة التكاملية المناسبة لها خلال المدة التي تتولى فيها الحكم، القيادة المتمثلة بالأئمة المعصومين ألاثني عشر، والتي يمكن تقديرها بثلاثة قرون من الزمن على أقل تقدير، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أقل فرضية للعمر الطبيعي للأئمة الاثني عشر. وهذا التكامل يمكن أن نفترضه على جميع المستويات المعنوية والعلمية والخلقية ومستوى الحكم والعلاقات والتنظيم، والمستوى المادي في التنمية الاقتصادية والضمان والتكافل الاجتماعيين والقوة العسكرية، وانتشار الدعوة الإسلامية وثقافة الإسلام في مختلف أرجاء العالم، وغير ذلك من شؤون الحياة الإنسانية، بحيث يكون ذلك مصداقاً عملياً وواقعياً لقوله تعالى: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)[26].

2 ـ كيمياء المحبة

يروى عن الباقر (عليه السلام) أنه قال لأبي عبيدة زياد الحذا: «يا زياد، ويحك وهل الدين إلاّ الحب؟! ألا ترى قول الله (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) أو لا ترى قول الله لمحمد (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) وقال (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ) فقال: الدين هو الحب، والحب هو الدين»[27].

فالحب وفقاً لمنطوق هذه الرواية أساس الدين ؛ لأن الحب علاقة سامية راقية، ومنزلة متقدمة من سلّم الرقي الأخلاقي في الإنسان، ولقد استند بعض العرفاء إلى هذا الأساس في بناء منهجهم في التكامل، وبلوغ مرتبة معرفة الله، ولعل مؤسس هذه المدرسة هو العارف الرباني الشيخ رجب علي الخياط الطهراني، الذي أكد أهمية خصيصة الحب في مسيرة العارف، فقد جاءه شخص يريد معرفة سبب عدم فتح الله له منافذ المعرفة الربانية على الرغم من التزامه وممارسته للرياضات الروحية المطلوبة، فأجابه الشيخ: «إنك عملت من أجل النتيجة، وهذه المدرسة ليست مدرسة النتيجة، وإنما هي مدرسة المحبة، ومدرسة طلب الله»[28].

ومن أقواله المأثورة في هذا الباب: «حب الله هو منازل العبودية، والحب فوق العشق؛ لأن العشق عارض والحب ذاتي. فقد ينصرف العاشق عن معشوقه، لكن الحب ليس كذلك، وقد يزول عشق العاشق إذا نقص محبوبه أو بعد أو فقد كمالاته، بيد أنّ الأم تحب طفلها وإن كان فيه نقص أو عاهة. وكان يقول أيضاً: «يقاس ميزان الأعمال بمدى حب العامل لله تعالى»[29].

وعلى هذا الأساس سميت طريقته تلك في السفر إلى الله بـ «كيمياء المحبة»؛ لأن «المحبة هي كيمياء بناء الذات وتهذيب النفوس، وحب الله يداوي مساوئ الأخلاق كلها دفعة واحدة، ويقدّم للمحب كل الصفات الحميدة دفعة واحدة. فكيمياء المحبة تجتذب المحب نحو حبيبه اجتذاباً يؤدي به إلى قطع جميع العلائق مع أي أحد أو أي شيء آخر. كما جاء في مناجاة المحبين المنسوبة للأمام زين العابدين (عليه السلام): «إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدلاً، ومن ذا الذي أنس بقربك فابتغى عنك حولاً» … وجاء في رواية منسوبة إلى الإمام الصادق (عليه السلام): «حبّ الله إذا أضاء على سر عبد أخلاه عن كل شاغل، وكل ذكر سوى الله ظلمة، والمحب أخلص الناس سرّاً لله تعالى، وأصدقهم قولاً، وأوفاهم عهداً»[30].

وقد أيقن شهيد المحراب أهمية هذه الركيزة في بلوغ هدف السفر إلى الله من خلال منهاجه السلوكي؛ لذا حاول تقنينها وتنظيم بلوغها من خلال:

ـ بيان مفهوم الحب وأنواعه.

ـ الابتعاد عن الحب الذاتي والزائف.

ـ جعله ركيزة من ركائز بناء المجتمع المثالي ـ كما أسلفنا بيانه ـ.

وقد علّل ارتكازه لهذه الركيزة ـ ضمن الركائز الأخرى ـ في منهاجه الروحي بأنه «كفيل لتحقيق … المبادئ والقيم المقدسة لتوهج الدرب للسالكين به نحو الكمال؛ لأنهم فطروا منذ الأزل للبحث عما يشبع حاجاتهم وتطلعاتهم للحصول على تفسير لهذا الوجود الغامض»[31].

ويأتي الحبّ لديه مقروناً بمفاهيم إسلامية رئيسة، بحيث لا يكون انفصالها أمراً طبيعياً، بل يأتي على سبيل النقص ومخالفة الناموس الحقيقي للمؤمن، ومن هذه القرائن:

أ ـ الحب = الإيمان: قال شهيد المحراب: «يبدو من القرآن والحديث الشريف: أن الإيمان هو الحب، وبدونه لا يكتمل ويبقى ناقصاً، قال تعالى: «إن الله يحب المتطهرين» … «والله يحب الصابرين» وفي الحديث الشريف تعرضت مجموعة من الروايات إلى هذه الحقيقة، فقد روى البرقي في المحاسن عن فضيل بن يسار، قال: «سألت أبا عبد الله عن الحب والبغض، أمن الإيمان هو؟ قال: وهل الإيمان إلاّ الحب والبغض؟ ثم تلا هذه الآية: (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)»[32].

ب ـ الحب = العمل: قال شهيد المحراب: «ترى مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) أن الإيمان يتأثر بالعمل سلباً وإيجاباً، فإيمان المتقين أعلى درجة من إيمان الفاسقين، مع قطع النظر عن الثواب والعقاب، فنفس الإيمان يتكامل بالعمل ويتسافل بالعصيان»[33].

ت ـ الحب = الاتباع: قال شهيد المحراب: «في حاضرنا المعاصر انعكست هذه الحالة على قضية حب الأئمة (عليهم السلام)، بحيث أصبح بعض الناس يتصور أن حبهم (عليهم السلام) يكون نتيجة وثواباً لإعماله يوم القيامة، مهما كان سلوكه منحرفاً، فلو يشرب الخمر، ويترك الصلاة، ويقتل المؤمنين، ويوالي الظالمين، ويسير في ركب الطغاة، ويصنع ما يصنع من أعمال منكرة، لكنه ما دام يحب أهل البيت (عليهم السلام) فحبهم ينجيه من العذاب. وهذا الفهم غير صحيح، بل لا بد أن يكون حبنا لأهل البيت (عليهم السلام) منعكساً على سلوكنا: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ) فعلينا الاتباع، وليس الحب فقط»[34].

ث ـ حب الله ورسوله والمؤمنين ضرورة: قال شهيد المحراب: «حب الله ضرورة ملحة، وحقيقة أكد عليها القرآن الكريم، وتعرضت لها الروايات الشريفة، قال تعالى: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) … وحب المؤمن لأخيه المؤمن أحد مفردات هذا الأمر»[35].

3 ـ نظرية الذكر ومنهجية السلوك:

يراد بالذكر «عبارة عن عدة … أوراد كلامية لسانية تفتح أبواب الطريق وتعين السالك في العقبات والعوائق والمهمات»[36]، أو هي: «مجموع الكلمات التي يذكر بها الله تعالى بالثناء والتحميد أو الاستعانة، من قبيل الحمد لله، وبسم الله، وما شاء الله، والله أكبر، ولا إله إلاّ الله، وسبحان الله…»[37].

ويمثّل الذكر الدعامة الرئيسة لزاد المسافر إلى الله في منهاج العرفاء جميعاً من دون استثناء؛ لأن «الالتزام بذكر معين – إن كان مأثوراً – مما يعمق من آثاره، ويوضح مفاهيمه، ويعلّم صاحبها حالة ضبط النفس بشكل منتظم على العمل الذي اقتنع به، مما يهيئ العبد لضبط النفس الدائم فيما هم أهم»[38]، إذ «يكون الذكر العامل الملازم للإنسان باستمرار في جميع أحواله وأوقاته، والمؤثر في تحقيق أهدافه في التكامل الدنيوي والأخروي سواء في جانب العلاقة مع الله تعالى، أم في الجانب الروحي والنفسي والمحتوى الداخلي له، أم في جانب الإدارة وصفاتها وقوتها في مقاومة الهوى والضغوط، أم في جانب العمل والسلوك»[39].

ويستعرض شهيد المحراب أنواع الذكر، وبعض الأذكار المأثورة ؛ ليكمل منهاجه السلوكي القائم على أساس العبادات، كما هو حال المناهج السلوكية الأخرى.

ويحدّد أيضاً مواضع الأذكار ؛ لأن الأستاذ لا بدّ له من أن يحدّد تلك المواضع؛ ليستطيع طلاب السلوك العمل بها في مواضعها الصحيحة ؛ لأن أغلب العرفاء يحذرون من مخالفة تلك المواضع، وكذا الكيفية والأعداد إذ يشترط العارف «بحر العلوم» ذلك لأن حكم الذكر «في حكم الدواء، منه ما ينفع، ومنه ما يضر، بل هو دواء حيناً، وسُمّ حيناً آخر. وبعضه شفاء، وبعضه الآخر داء. يضاف إلى ذلك أن بعض الأوراد قد ينفع بفرده، فإذا ضم إلى ورد آخر أضحى ضاراً. وقد يتعرض السالك للخطر إذا زاد في الورد على عدد معين، أو أنقصه عن ذلك العدد»[40]، إذ «شخصت في الروايات والنصوص مواقع وأوقات للذكر، ويبدو من خلالها أن الذكر فيها يكون أفضل، وأكد بسبب الزمان والحال أو المكان أو الاستحقاق، ومنها الصباح والمساء، وهذا الإطلاق من ناحية والتخصيص من ناحية أخرى يوضح لنا أبعاد النظرية الإسلامية في الذكر»[41].

ويؤكد شهيد المحراب آثار الأذكار من خلال صياغته لنظرية وسمها بـ «نظرية الذكر» التي عرض من خلالها الفعل الحقيقي للذكر في الذات الإنسانية، وقد لخص نظريته تلك بالآتي:

«أ ـ يؤكد علاقة الإنسان بالله تعالى، ويقوي رابطته به عز وجل، فيحصل على أعلى الدرجات وأفضل الثواب …

ب ـ يكون الذكر علاجاً لأمراض النفس وشفاء الصدور …

ت ـ … يكون تربية للإرادة على الصبر والثبات …

ث ـ يكون رادعاً للإنسان عن المعصية، وآمراً له بالطاعة، وضماناً للتقوى والورع، التزاماً بمنهج الحق في السلوك والعمل …»[42].

ويكمل شهيد المحراب هذه المفردة المهمة في منهاجه الروحي بعرض رؤى منهجيته السلوكية التي يجب أن تتحلى بها الجماعة الصالحة، القائمة على أساس الإرادة والحصانة؛ لأن «الإرادة الإنسانية إذا تطابقت مع الإرادة التشريعية الإلهية المتمثلة بالشريعة والأحكام والحدود الشرعية تكاملت النفس الإنسانية؛ لأنها سوف تتطابق مع الحق والمصالح. وهذا ما يحتاج من الإنسان أن يجاهد هواه، ويهيمن على شهواته وغرائزه، ليجعلها تتطابق مع هذه الأحكام الشرعية»[43].

ولا يمكن أن تتأتى تلك الإرادة من دون الالتزام بالنصائح الآتية:

أ ـ تقوية الارتباط بالله تعالى …

ب ـ استخدام العقل الذي يهدي إلى الحق والحقيقة وطاعته ….

ت ـ الصبر على الطاعة والالتزام بالواجبات، والصبر عن المعصية واجتناب المحرمات …[44]

ث ـ محاسبة النفس ومراقبة الأعمال والنشاطات التي تقوم بها …

ج ـ التوبة والإنابة لله تعالى عند الخروج عن جادة الصواب وطريق الاستقامة[45] والعدل.

ح ـ تشخيص مواضع ضغوط الهوى، مثل: حب النفس والشهوات من النساء والبنين[46].

أما الحصانة ومقاومة النفس الإنسانية فتأتي عبر ممارسات عبادية تقوم على تأدية الواجبات و«مستويات متعددة لحركة التكامل الإنساني في جهاد النفس ؛ وذلك من خلال مجموعة من الالتزامات والآداب المستحبة أو المكروهة، بحيث تكوّن سياجاً وحصناً يمنع النفس من الوقوع تحت تأثيرات الهوى، ويوجد فيها المزيد من التكامل الإنساني. ويمكن أن نلاحظ ذلك أيضاً – مضافاً إلى هذا المنهج – في التربية الإسلامية العامة،وفي مناهج الدعاء والذكر التي وضعها الأئمة (عليهم السلام) وتشمل اليوم والليلة بتمامها، مضافاً إلى الاهتمام بإحياء الليل، وخصوصاً الليالي الخاصة، مثل: ليالي القدر، والجمعة، والأعياد، والمناسبات الإسلامية «المولد النبوي الشريف …» … وكذلك منهج الصلوات المستحبة الخاصة، مثل: الصلاة المنتسبة إلى المعصومين الأربعة عشر (عليهم السلام) واحداً بعد آخر، وصلاة جعفر وغيرها، أو الصلوات العامة في ليالي الإحياء … ومنهج العبادات الأخرى، كالصوم المستحب، والاعتكاف، والحج المستحب، والعمرة، وزيارات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) والصالحين …كل ذلك في تفاصيل دقيقة يمكن أن تشاهد في الكتب الحديثية، كأبواب جهاد النفس، والعشرة، والأخوان، والسلوك الأخلاقي ؛ بحيث تكون الحصيلة هي تصعيد الجانب الأخلاقي والالتزامات السلوكية وقوة الشخصية على المستوى الفردي، وفي المجتمع الإنساني»[47].

ويشكل هذا المفصل بمجمله – فضلاً عما أحلنا عليه في الهامش – المنهاج العبادي الذي يتبناه شهيد المحراب للرقي في تطهير النفس، وبلوغ درجة الكمال الإنساني.

4 ـ الأخلاق السياسية:

قد يجد المطلع في هذه الفقرة غرابة من وجوه مختلفة، فما علاقة الأخلاق بالسياسة، وهي بطبيعتها ذات وجهة دينية؟ وما علاقة السياسة – إن سلمنا بأخلاقيتها – بموضوع العرفان؟ ….

لكن بالرجوع إلى التعريف الذي وضعناه لصفة العرفان عند شهيد المحراب يرفع هذه التساؤلات وغيرها، فشهيد المحراب حاول أن يرجع الشمولية العامة لسلطة رجل الدين، أو كل عارف يريد حكم الله في الأرض، بحيث يكون منظماً لمرافق الحياة المتنوعة، وعلى رأسها المرافق السياسية …

وبحسب هذا التصوّر تنسحب مفردة الأخلاق على السياسة ؛ لتكون المنهج المبدأي الذي تستند إليه في تمشية أمور البلاد والعباد، وعليه تكون صلته بالعرفان من باب أن شهيد المحراب يريد من الجماعة الصالحة أن تكون عارفة بالله، سالكة طريق السفر إليه، عبر الالتزام بمفردات العبادة الحقّة … فتكون الأخلاق السياسية علامة فارقة لموضوع العرفان عند شهيد المحراب يتوجب الوقوف عندها لبيانها ….

فهناك الكثير من الناس «يتصور أن السياسة لا علاقة لها بالدين إطلاقاً، حيث إن الدين أمر روحاني يشتمل على الفضائل والمعنويات، أما السياسة فهي – عادة – غارقة بالماديات والمكر والخديعة، والظلم والاستبداد … لكن … السياسة بمعناها الصحيح جزء لا يتجزأ من الدين الإسلامي الذي اختاره الله عز وجل دستوراً للبشرية جمعاء، منذ أن بعث النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وإلى يوم القيامة. فإن السياسة تعني «إدارة البلاد والعباد» في قاموس الإسلام لا تعني إلاّ الأسلوب الطاهر الذي لا ترى فيه شيئاً من المكر والخديعة والظلم والاستبداد، بل يتضمن أكبر الحريات للإنسان بما هو إنسان، ويأخذ بيده إلى كمال الدارين وسعادة الدنيا والآخرة»[48]، فـ «السياسة التي تفسّر بـ «تنظيم أمور دنيا الناس على أحسن وأرفه وجه» … هو مضمون قوله تعالى في وصف الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) السياسة بهذا التفسير هي من صميم الإسلام، ومن أسس الدين التي يجب على كل فرد من المسلمين السعي لتطبيقها على العالم كله …وفي الشريعة نصوص كثير وكثيرة جدا تدل على أن السياسة جزء لا يتجزأ من الإسلام، بل الأصح في التعبير أن نقول: الإسلام والسياسة لفظان لمفهوم واحد، فالسياسة: هي الإسلام، والإسلام: هو السياسة …جاء في الحديث الشريف في وصف الأئمة (عليهم السلام): بأنهم «ساسة العباد» و «الإمام لا يجهل … مضطلع بالإمامة، عارف بالسياسة»[49].

وما دامت السياسة من الدين، اقتضى أن نتنظّم بأخلاقية ذلك الدين ؛ لأن الدين – كما وصفه حبيب رب العالمين (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ هو الخُلُق؛ إذ روي أن رجلاً جاء «النبي فقال: يا رسول الله ما الدين؟ فقال: حسن الخلق، ثم أتاه من قبل يمينه فقال: يا رسول الله ما الدين؟ فقال: حسن الخلق، ثم أتاه من قبل شماله فقال: ما الدين؟ فقال: حسن الخلق، ثم اتاه من ورائه فقال:ما الدين؟ فالتفت فقال: أما تفقه هو أن لا تغضب»[50].

ومن ذلك الحديث النبوي المشهور: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وروى الكليني في الكافي عن الباقر (عليه السلام): «إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً»[51].

وتأسيساً على هذا الربط عقد شهيد المحراب فقرات من مؤلفاته لبيان صفة الأخلاق السياسية، التي عرفها بأنها: «الأخلاق التي لها علاقة بالعمل السياسي والاجتماعي وإدارة عملية التغيير والمواجهة،مع قوى الظلم والاستكبار والفساد، وهذا القسم من الأخلاق لم يتم التركيز عليه بصورة مناسبة ومستقلة بخلاف (غيره) … (وترتبط الأخلاق السياسية) بموضوع إعداد الصفوة،أي: عندما نتحدث عن إعداد الصفوة … إنما يمكن أن يتم هذا الإعداد من خلال إيجاد هذا النوع من الأبحاث والمناهج الأخلاقية التي لها علاقة بالعمل السياسي والاجتماعي»[52].

وقد وصف شهيد المحراب «الأخلاق السياسية» بأنها الأخلاق التغييرية التي يستند إليها أفراد الصفوة العارفين؛ لتعديل نقاط الانحراف في مسيرة المجتمع الإسلامي[53].

فهي إذن، مفصل مهم من مفاصل برنامجه العرفاني لكونها:

ـ نهجاً عملياً.

ـ مساراً تغييرياً.

ـ نظاماً أخلاقياً.

الخلاصة

نخرج من خلال هذه الورقة بنتيجة مفادها: إن شهيد المحراب (قدس سره) حاول صياغة النظرية الإسلامية صياغة جديدة من خلال:

ـ تصحيح الفهم الخاطئ عند كثير من الناس بأن الدين لا علاقة له بالسياسة، وهو أمر أفقد الدين الكثير من سلطاته، ولا سيما التنفيذية منها.

ـ توسيع الهامش الأخلاقي الذي يتداوله المكلفون، وجعله عماد النظرية الإسلامية، وإعادة صياغة السلوك وتحويله من عرفان منزوٍ خاص بشريحة معينة إلى مسلك لعامة الخلق؛ إيماناً منه بأن إمكانيات الناس في أصل التكوين متساوية، فعلينا جميعاً استثارتها عبر منهج زكوي لنرقى بأنفسنا نحو مرتبة العرفاء.

ـ محاربة العزلة والنزول إلى الساحة العملية عبر جهازين: سلطة الدين، وسلطة السياسة الحاكمة.

وعليه يكون الهدف الرئيس من النظرية الإسلامية وفقاً لهذه الصياغة: توصيل الخلق إلى معرفة الخالق وتنفيذ أوامره ونواهيه في تعاملاتهم فيما بينهم، وبينهم وبين الله؛ لنحقق في نهاية المطاف «المجتمع المثالي الكامل» عبر منهج عرفاني عملي.

[1] جامع الأخبار: تاج الدين الشعيري: 81: دار الرضي للنشر / قم المقدسة / الطبعة الثانية / 1405ﻫ.

[2] فلسفة الأخلاق الإسلامية: العلامة الحجة السيد إبراهيم الموسوي الزنجاني: 18: مؤسسة الفكر الإسلامي بيروت / الطبعة الثانية.

[3] تذكرة المتقين: الشيخ محمد البهاري: ترجمة وتحقيق الشيخ حبيب الكاظمي: 20 – 21، دار الكتاب العربي / بغداد شارع المتنبي / الطبعة الأولى / 1425ﻫ 2004م، وقد ذهب المذهب نفسه المترجم والمحقق في مقدمته للرسالة بنص جاء فيه: «الاعتقاد بأن السير إلى الله عز وجل ليست حركة تخصصية، يشكل اهتمام طبقة قليلة من المجتمع، بل المصير الذي لا بد منه، بعد أن علمنا أننا سائرون شئنا أم أبينا إليه قهراً، بمقتضى قوله تعالى: (وإن منكم (إلاّ آتي الرحمن عبدا))» تذكرة المتقين: 2.

[4] كيمياء المحبة «لمحات من حياة المرحوم الشيخ رجب علي الخياط الطهراني» : محمد الريشهري: تعريب خليل العصامي: 8: مركز بحوث مؤسسة دار الحديث العلمية الثقافية / قم المقدسة / الطبعة الثالثة، وقد تعرض آية الله محمد الحسين الحسيني الطهراني في كتابه «الروح المجرد: منشورات مؤسسة ترجمة ونشر دورة علوم ومعارف الإسلام / قم المقدسة / الطبعة الأولى» إلى سيرة حياة العارف الرباني «السيد هاشم الحداد»، وهو رجل بسيط لا يكاد يفوق الخياط معرفة.

[5] مصباح الشريعة: 64 الباب 95 نقلاً عن رسالة لقاء الله في سير وسلوك العارفين: العارف بالله العلامة الميرزا جواد آقا التبريزي: 19: تحقيق: صادق حسن زاده: تعريب: أحمد مجيب: مطبعة قلم / قم المقدسة / الطبعة الأولى..

[6] روضة الكافي 247 الحديث 327.

[7] كيمياء المحبة: 5 – 7.

[8] الحب في الله: شهيد المحراب: 22 – 23، وينظر أيضاً منه: 17 و 24: مؤسسة تراث الشهيد الحكيم / ضمن سلسلة «الطريق إلى الله» / النجف الأشرف / الطبعة الأولى / صيف سنة 2005م.

[9] في سماء المعرفة «مذكرات فريدة عن بعض العلماء الربانيين»: الأستاذ العلاّمة الشيخ حسن حسن زاده آملي: 44: جمع وتنظيم: محمد البديعي: ترجمة: وليد المحسن: مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، وتكرر ورود هذا المصطلحات في صفحات أخرى من الكتاب منها: 72.

[10] لم أستطع الحصول على كتاب «منهج التزكية في القرآن»، فعنوانه يلمح إلى تخصصه بالعرفان أو وسائل تطهير النفس، وهو السبيل الرشيد لمراقي العرفاء.

[11] أسوة العرفاء: صادق حسن زاده: 97: مطبعة قلم / قم / الطبعة الأولى.

[12] السلوك إلى الله: الحكيم الإلهي السيد كاظم الحسيني الرشتي: 102 – 104: تحقيق صالح أحمد الدباب: مؤسسة فكر الأوحد / بيروت / الطبعة الثانية / 2004م، وقد أشار إلى ما يشابه هذا المنزع آية الله السيد مهدي الطباطبائي بحر العلوم: ينظر: رسالة السير والسلوك المنسوبة إلى بحر العلوم: ت198 وما بعدها:قديم وشرح العلامة آية الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني: مؤسسة الأسفار الثقافية / الطبعة الأولى.

[13] دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة: شهيد المحراب: 2/ 64 – 77.

[14] م. ن: 58.

[15] الحب في الله: 36 – 41.

[16] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: شهيد المحراب: 21 – 22.

[17] للعرفاء تعريفات أخرى للعرفان ينظر على سبيل المثال: تزكية النفس: آية الله السيد كاظم الحائري، ألطاف الباري من نفحات الإمام السبزواري: العلامة السيد عبد الستار الحسني: 67 وما بعدها: مطبعة كوثر / الطبعة الأولى / 1425ﻫ.

[18] دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة: 1 / 38.

[19] ينظر: المنهاج الثقافي السياسي الاجتماعي: 225.

[20] دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة: 1 / 34 – 35.

[21] م. ن: 1/ 36.

[22] م. ن: 1 / 65.

[23] لقد فصّل شهيد المحراب هذه النقطة في كتاب مستقل وسمه بـ «الوحدة الإسلامية من منظور الثقلين».

[24] عرض شهيد المحراب لثورة الحسين عليه السلام وتضحياته الكبيرة في دراسة له خصصها لذلك، وقد خرج بنتيجة مفادها: أن ثورة الحسين وتضحيته الجسيمة لم تكن لسبب ديني أخلاقي فقط، بل كانت لهدف تغييري يحاول من خلاله إعادة الأمة إلى السبيل الرشيد الذي بدأه خاتم الأنبياء والرسل (صلى الله عليه وآله وسلم)، ينظر: ثورة الحسين: شهيد المحراب: 33 و ما بعدها: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام) / الطبعة الأولى.

[25] تنظر تفصيلات هذه النقاط: م. ن: 1 / 40 وما بعدها.

[26] دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة: 1/ 33 – 34.

[27] المحاسن: 1 / 262 نقلاً عن الحب في الله: 20.

[28] كيمياء المحبة: 182 – 183.

[29] م. ن: 165 – 166.

[30] م. ن: 161 – 162.

[31] الحب في الله: 15 – 16.

[32] م. ن: 17 – 18.

[33] م. ن: 21.

[34] م. ن: 24 – 25.

[35] م. ن: 25 – 27 و 30.

[36] رسالة السير والسلك المنسوبة إلى بحر العلوم: 212.

[37] دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة: 2/ 405.

[38] تذكرة المتقين: 16.

[39] دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة: 2/ 431.

[40] رسالة السير والسلوك: 212.

[41] دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة: 2 / 428.

[42] م. ن: 2/ 431 – 432.

[43] م. ن: 1/110.

[44] توقف شهيد المحراب عند هذه الفقرة ؛ لأهميتها برسالة منفردة سمّيت بـ (وبشر الصابرين).

[45] أيضا هذه الفقرة افرد لها شهيد المحراب رسالة خاصة، سُميت (التوبة)

[46] دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة: 1 / 111 – 112.

[47] م. ن: 1 / 113 – 114، وقد عرض في هذا الكتاب إلى بقية المسائل المندوبة التي يمكن أن تكون منهاجاً عبادياً يؤديه المسلم لبلوغ مرتبة العارف.

[48] السياسة من واقع الإسلام: آية الله صادق الحسيني الشيرازي: 7 – 8:

[49] م. ن: 15 – 17.

[50] فلسفة الأخلاق الإسلامية: 7.

[51] م. ن.

[52] المنهاج الثقافي السياسي الاجتماعي: شهيد المحراب: 11

[53] ينظر: م. ن: 165.

اكتب تعليق

كافة الحقوق محفوظة لمؤسسة تراث الشهيد الحكيم، ولا يجوز الاستفادة من المحتويات دون إذن خطي.

الصعود لأعلى