سادت في آواخر تسعينيات القرن العشرين مفردات مثل " قراءة متقدمة للنص الديني "أو" حرية الفكر والسياسة "و"الانسان حر في ممارساته" وغيرها من المصطلحات المتشابهه والتي تلتقي في مضمون واحد هو محاولة التضليل وخلط الاوراق والتحريف وصولا إلى مكاسب مؤطرة بالدين ولكنها مخالفة في المضمون،وقد شكلت هذة المفردة إصطفافاتٍ خلفها ونزاعات جانبية وقادت إلى إعتداءآت على المقدسات كالحوزة العلمية ومراجع الدين العظام .فتصدى آية الله السيد الشهيد محمد باقر الحكيم لهذة الظاهرة بمجموعة من المحاظرات التي ألقاها على مجموعة من طلبة العلوم الدينية والإعلاميين ،وكانت مفردة حرية الفكر والحريةالسياسية أحدى الموضوعات المهمة التي بحثها (رض)بعمق علمي وإستدلال منطقي أماط به اللثام عن تلك المفاهيم التي ُطرحت ،وبين أسس وقواعد وضوابط وحدود حرية الفكر كمقدمة للحرية السياسية وسنسلط الضوء في هذا البحث المقتضب على هذه المفردتين.
ويتكون هذا البحث من مبحثين؛الاول حمل عنوان الحرية الفكرية لدى شهيد المحراب ويتكون من عدة مواضيع منها:الحرية الفكرية نظرة عامة،حرية الفكر المخالف للإسلام،الإجتهاد والحرية الفكرية،الحرية والحق والعدل.أما المبحث الثاني فحمل عنوان الحرية السياسية لدى شهيد المحراب،وقد تكون من عدة مواضيع منها:الحرية السياسية نظرة عامة،شروط الحرية السياسية،الحرية السياسية في فكر أهل البيت،ولاية الامر والحرية السياسية،مساحات التعددية السياسية وضماناتها،القمع والحرية السياسية،المرجعية والحرية.
ان الحرية والتحرر الفكري هما منطلق الحرية فعندما يملك الانسان حريته الفكرية في وينطلق العقل حراً مفكراً تنطلق الإرادة والإختيار بحرية تامة وعندئذٍ تكتمل الحرية الذاتية ؛حرية العقل والإرادة والإختيار لتأخذ طريقها إلى العالم الخارجي. ولا تتحقق الحرية الفكرية في العالم الخارجي إلا إذا تحرر العقل من القيود والمصادرات الداخلية كضغوط المال والسلطة والحقد والانانية ،أما المصادرات الخارجية فتتمثل بالإرهاب الفكري الذي تفرضه السلطة. لقد سعى القرآن إلى تحرير الانسان من هذه السلطات والطواغيت ليمارس الانسان دوره كعاقل مفكر،وكم ركزت الرسالة الاسلامية على أهمية الفكر والعقل في حياة الانسان(1)،ويوضح القرآن حرية الاختيار والمسؤولية عن هذه الحرية من خلال بعض الايات القرآنية:"لست عليهم بمسيطر"(2)،"وما أنت عليهم بجبار"(3)،"فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"(4)
من المفردات الاخرى التي حددها شهيد المحراب-رض-مفردتي الإختيار والإكراه ليعالج بهما موقف الاسلام من الفكر الذي يتعارض معه أولاً،وفي كيفية الوصول إلى إتخاذ الاسلام عقيدةً ونظاماً،لان سلب الإختيار وقمع الإرادة ومصادرة دور العقل في بناء المرتكز والشخصية العقائدية يعبر عن أعظم الضربات التي يصادر فيها وجود الانسان وتختطف شخصيته الحقيقية مما يؤدي إلى بروز شخصيات مهزوزةغير متوازنة كالريشة في مهب الريح أمام الافكار والمبادىء التي تناقض الاسلام وتكون هذة النماذج أدوات لتنفيذ مخططات المدارس الفكرية المنحرفة ،وخير مثال على ذلك في العصر الحديث تبني مؤامرة فصل الدين عن السياسة ،ولغرض بناء شخصية اسلامية أصيلة لم يستخدم الله القمع والإكراه أداةً لدخول الاسلام ،بل لم يجوز التقليد في اصول الدين الخمسة وإنما قال سبحانه"لاإكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"(5)وإنما أعطى للعقل مساحة البحث والإستدلال وصولاً إلى بناء العقيدة الصالحة على أسس عقلية واضحة لكي يتحمل الانسان المسؤولية في إختياره في الدفاع عن عقيدته ،ولكن ما هو موقف الاسلام في مجال الفكر المضاد للاسلام ،فهل ؟وماهو مدى الحرية التي منحها لهذة الافكار ؟،بعبارة أخرى حدود هذة الحرية –أي هل إنها حرية منضبطة ضمن إطار وحدود معينة ؟،أم إنها حرية مطلقة لاتقف عند حدٍ أو معيار ولاتنتظم في إطار مشخص،وهنا يطرح السيد الشهيد -رض-السؤال الآتي :{ماهو مدى الحرية الفكرية في مجال العقائد والافكار التي تكون مخالفة لجوهر الاسلام وتقف في مقابل عقيدته}؟(6)ومن خلال هذا السؤال يلفت شهيدنا وأستاذنا النظر إلى حقيقة إن الاسلام حق وغيره باطل –"ومن يبتغِِِ غير الاسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"(7).كما يشير السيد الحكيم بقوله:{فهناك حق وباطل ولايوجد شيىء يعتريه الريب والشك ويحتمل أن يكون حقاً أو باطلاً-"ذلك الكتاب لاريب فيه هدىً للمتقين"(8)-فإلاسلام حق لانه جاء من عند الله عز وجل –"وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا"(9)-وغير الاسلام باطلٌ محض لايختلف في بطلانه عاقلان-"فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال المبين فأنى تصرفون "(10) }-(11)،ويؤكد-رض-:{بالرغم من إن الاسلام حق وعدل والافكار المضادة لجوهره باطل محض فإن الاسلام لايوصد الابواب ويكم الافواه}، بل مع ذلك والكلام للسيد الحكيم :{نرى إن الاسلام ترك مجالا ًلحرية الانسان في أن يطرح الافكارالاخرى في مقابل أفكار الاسلام عندما يكون ذلك من أجل أن يصل إلى الحق ويعرفه ويتبينه،وإذا بقي هذا الانسان معانداً بالرغم من وضوح الحجة و البرهان والدليل ،فإن الاسلام يرى إن هذا الانسان يسير على الباطل وإن هذا الانسان معاند كما عبر عنه القرآن –"جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً فأنظر كيف كانت عاقبة المفسدين"(12)}-(13). إن في هذا الطرح أكبر دلالةعلى إستيعاب الاسلام للزمان والمكان ،وأعطى للتعايش بين بني الانسان بعده الانساني ،وكذلك الاستماع للافكار المضادة له على الرغم من إنكار الفكر المضاد للادلة والبراهين والحجج الظاهرة على أحقية الاسلام ،وحدد الرد على تلك الافكار المضادة بالتي هي أحسن "وجادلهم بالتي هي أحسن "(14)دون الإنجرار إلى الصراعات الجانبية مادامت الافكار المطروحة في العناد والإنكار على مستوى الحوار والمناقشة .ويبين شهيد المحراب (رض)موقف الاسلام من ذلك بقوله:{لكن مع ذلك كله فإن الاسلام لايتخذ إجراءاً قمعياً حيال هذا الباطل بل يدينه ويعيب عليه ويشهر به ويوضحه،لكن في الوقت نفسه لايتخذ إجراء القمع ضد هذا الباطل بمعنى إنزال العقوبة بالإنسان لمجرد انه تحدث بهذا الكلام الباطل}.(15) يتضح من هذة الرؤية أن طرح الافكار المضادة على مستوى الحوارمهما بلغ بطلانها ولم ينجر الحوار إلى إهانة الحق والإعتداء عليه والتشهير به لايّسوغ إنزال العقوبة في هذة الحدود ،أما إذا تجاوز هذة الحدود وأدى إلى إهانة الحق وإهانة الطرف الآخر خارج حدود المنطق والمناقشة الهادئه الحرة والحوار العلمي ودخل في إطار التشهير والإهانه والسخرية والإفتراء والكذب والتزوير فالموقف يتغير تماماً لان هذة الممارسة {لاتدخل ضمن إطار الحرية الفكرية لانه ليس مجرد طرح فكري ،وإنما طرح عدواني يتلبس بلباس الفكر وفيه تجاوز على الآخرين ،ومحاولة لإهانة الطرف الآخروالتجاوز لحدود الإحترام المتبادل في طرح الافكار }.(16) ويظهر من خلال رؤية شهيد المحراب –قدس-إن القيد ليس من صلب الحرية التي منحها الاسلام في الفكر والسياسة بل القيد يحدده نوع الممارسة لهذة الحرية وبشكل تصبح أداةً للتضليل وإسقاط التهم وبوقاً للكذب والإفتراء،ثم يردف السيد الشهيد :{المجادلة والمناقشة هي قضية مطروحة وقائمة في مقابل الفكر الحق ،وكان أسلوب القرآن الكريم أسلوب المجادلة والمناقشة بالتي هي أحسن-"قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة ٍسواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلا الله ولانشرك به شيئًا ولايتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا إشهدوا بإنا مسلمون "(17),ولكن لايصح أن تتجاوز هذة الحرية حدودها من خلال الإهانة والسخرية والعدوان وإذا حدث ذلك فإنه القائلين بالعنف والإجبار في نشر مبادىء الاسلام الحنيف ويأتي دليل عدم جواز في أصول الدين تعزيزاً لقولنا،بإعتبار إن التقليد قبول الغير بلا دليل وهذا يتعارض مع البديهيات والضرورات العقلية التي تبحث في علم الكلام. وتتحول الحرية إلى معول هدم إذا أصبحت أداة للتضليل وإخراج الناس من الحق إلى الباطل ومن العدل إلى الظلم وهذة أكبر خسارة معنوية تلحق بالإنسان في جانب الاخلاق والفكر،فيصبح إنساناً بلا قيم مُثل عليا وهذا قيدٌ آخر للحرية {إن هذة الحرية تكون محدودة عندما تكون سبباً للتضليل والإنحراف بالناس عن الحقيقة،لذلك حرم الشارع المقدس حركة أهل البدع والضلالات لهذا الضرر البالغ الذي يلحق بالناس،لان الضلالة والإنحراف عن الحق وطريق الهدى أعظم ضرراً يُصيب الانسان في حياته وحركته التكاملية،لان المعرفة بنفسها تكامل للانسان وطريق لنمو الكمال}.(18) إن تغييب الحقائق وخلط الاوراق بطريقة التضليل المرتكز على الاستبداد الفكري والعنف الجسدي أكبر جسارة يتعرض لها الانسان معنوياً وبالتالي يأخذ إسلاما ًمشوهاً ينعكس في الممارسة وما يترتب على ذلك من هرج ومرج ثقافي،لكن مع ذلك أعطى الاسلام حرية الفكر وقيدها بحدود تنطلق من كيفية الممارسة وليست تلك القيود أصيلةً في مفهوم الحرية المقدس،فإذا تجاوزت الحدود من خلال الممارسة يُتخذ الموقف المناسب.
ينتقل السيد الشهيد(رض)في هذا المقطع لمعالجة مساحة وجهات النظر والإجتهادات الخاصة في {داخل الإطار الإسلامي في فهم و تصور هذا الفكر}(19)،ويعالج السيد نقطة مهمة وجوهرية تتمثل في منبع وجهات النظر والإجتهادات التي شكلت طفرة سلبية في العلاقات الفكرية والثقافية العامة ووزعت أبناء الفكر الواحد والهدف الواحد إلى جماعات تتنازع فكرياًوثقافياًوسياسياً،فأصبح الخط الاحمر في العلاقات الولاء لهذا الرأي أو وجهة النظر أو حتى بعض الإجتهادات التي لم تألفها الساحة الفكرية من قبل،في حين إن الاسلام حق ولايوجد فيه رأيان حق وباطل،وفي هذا المجال يقول السيد الشهيد(رض):{إن القضية لاتصبح قضية حق وباطل لأن كل هذا الفكر،الإجتهادات من الفكر الذي يدعي إرتباطه بإلاسلام،طبعاً الحق واحد وله ثبوت في نفس الامر والواقع،ولابدأن نأخذ الحق من الطريق الصحيح}(20). ومن ثم فإن وجهات النظر هنا أو الآراء ليست قضية قادمة من فراغ وإنما من أصل علمي له أدلته وقواعده الاصولية التي يُشترط أن تناقش الآراء ووجهات النظر كي تتلاقح فيما بينها للصول إلى الاصوب منها،وأصوب الآراء هو الفصل والحل وبخلاف ذلك،فمدخل الفتنة والصراعات التي تصب في خانة الاعداء.وعلى الرغم من سعة مساحة الإجتهاد لملأ منطقة الفراغ،أما وضعها تحت عنوان هذا حق وهذا باطل ،فهذا الوضع مردود لأن الاسلام حقٌ إلا إذا تسربل الباطل بلباس الحق وأصبح شبيهاً ب(كلمة حق يُراد بها باطل)فهو باطل يندرج في إطار النفاق والتضليل والتحريف وقد أشار-رض-إلى هذة الحقيقة بقوله:{عندما يتناقش رجلان عالمان مجتهدان في داخل إطار إسلامي وكل منهما يكون له رأي وكل منهما ينسب رأيه إلى الاسلام فلا يوجد عندنا هذا حق وذاك باطل إلاّ بمقدار إنتساب هذا الرأي إلى الحق أو الباطل في الواقع وإلتصاقه به}(21)ثم يُشير –رض-إلى إيجابية تعدد الآراء إذا كانت طريقاً لنتائج علمية واقعية بقوله:{...فهنا رأيان في فهم الاسلام ومن ثم يمكن أن تتلاقح الآراء وتصل إلى نتائج علمية أكثر قرباً للواقع}(22).أما إذا كانت هذة الآراء في إطار يفتقد العمق العلمي والاصولي-أي خارج قاعدة الإجتهاد التي تتبع طريقة الإستنباط من الادلة الفقهية الاربعة :القرآن-السنة-الإجماع-العقل فإنها لاتقرب إلى الحقيقة بل أداة إبعاد عنها،ولهذا السبب يضع السيد الشهيد-رض-هذة الحرية الفكرية في إطار الإجتهاد ثم يقول:{ولكن هذة الحرية منضبطة ومقننة ضمن القواعد والاصول العلمية التي تُتبع للوصول إلى الحقيقة أو تُقرِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِّب الإنسان منها وهي قواعد يتم بحثها في علم الاصول والمنطق وهي مستنبطة من القرآن بصورة قطعية ويدركها العقل السليم بصورة واضحة وبينة}.(23) هذة الحرية مع سعتها ولكنها مقيدة بالإجتهاد وهو إختصاص الفقهاء الجامعون لشرائط الفُتيا(24)،التي تمثل طريق الوصول إلى معرفة الحكم وإستنباطه،وليس الامر كما يتصور الذين ليس لديهم إطلاع بقواعد العلم والمعرفة في إن الرأي ووجهة النظر يدخل ضمن الحرية الشخصية وبالتالي لاقيد في الحرية الشخصية طبق النظرية الرأسمالية أو نظرية القطب الواحد،لكن قيد الاسلام وفقه أهل البيت –ع-الذي يمثل هوية للذات التكاملة لاتبيح ذلك إلا ضمن إطار الإجتهاد،وكذلك ليست الآراء ووجهات النظر ترفاً ثقافياً أو تنويرياً كما يقول أهل الصرّنة بذلك،فإذا خرجت ممارستها عن ضابطة الإجتهاد أصبحت أداة نزاع وصراع داخل الاطار الاسلامي،لأهواء أو منافع متوقعة،وليست بناءً وتكاملاً،وكذلك تضليلاًوتحريفاً،لاهدايةً وتوعيةً،فتصبح أداةً للعدوان،فيتغير الموقف منها تبعاً للمنحى الذي يُخرجها عن إطارالحق والعدل ،ومواقف الائمة الاطهار-ع-وأتباعهم تجاه حركة الزندقة مثلاً أو مسألة خلق القرآن والسحر والشعبذة دليل على تغير الموقف.
الحرية في المنظور الإسلامي تختلف عنها في المنظور الرأسمالي إختلافاً أساسياً،لأن الفكر الاسلامي والحكم الاسلامي قائمان على دعامتي الحق والعدل،وليس أهواء وميول ورغبات وشهوات الناس كما هو في المجتع الرأسمالي،فالحق والعدل أساس في الفكر والحكم،والسياسة والثقافة والمواقف،ولكن هناك نقطة مهمة هي ان الحق والعدل لايقبله جميع الناس خصوصاً إذا تعرضت مصالحهم للضرر،كما إن في إلتزام الحق والعدل منهاجاً يترتب على ذلك اللإتزام ثمن يدفعه الملتزم بهما ولذلك تعتبر المواقف معبراً حقيقياً عن ذلك،فإذا تعرض هذان المبدءآن للخطر والإقصاء يبرز في ساحة الدفاع عنها الذائبون فيهما إعتقاداً وواقعة كربلاء خير شاهدٍ على ذلك. وقد يتعارض الحق والعدل مع رغبات وميول الناس ويتقاطع معها،ولكن ذلك ليس مسوغاً في أن ينأى الناس عنهما،لأن الحق والعدل أمر واحد لايمكن تجزئتهولايمكن سوقه مع الرغبات والميول،فبعض الناس يسلك طريقاً معوجاً حسب ميوله ورغباته ولكنهم يحاولون تلبيسه بالحق وإعطائها صبغة العدل،كما نلاحظ اليوم إن فكرة الامام المهدي-أرواحنا لتراب مقدمه الفداء-تتعرض للتشويه تحت مدعيات ومسميات كاذبة باطله ولكنهم يرونها حقاً وعدلاً ويطرحونها كعقيدة.؟! إن الحق والعدل يمثلان صميم المصلحة العامة وفي هذا المجال يقول السيد الحكيم:{..ولابد أن نعرف إن الحق والعدل ليسا بعيدين عن مصالح الناس العامة،ولكن أي مصلحة وأي مفسدة يتبعها الحكم الشرعي؟،المصلحة والمفسدة الواقعية التي يراها الله تعالى وهو الحق المطلق،وقد يراها الانسان كذلك أو يراها ولكن لايميل إليها ولايهواها }.(25) فالمصلحة العامة هي مصلحة الناس جميعا ًولاتنحصر بمصلحة هذا الفرد أو تلك الجماعة المعينة،لأن حصر المصلحة في فردٍ معين يقود إلى الإستبداد،ولذلك تصادر الحريات ويستخدم القمع وبنفس المعنى إذا حُصرت المصلحة العامة في جماعة معينة فإنها ستنظر للجماعات الاخرى بعين مقلوبة وتحاول بالقمع الفكري والجسدي الترويج لنفسها.وقد يتسائل البعض عن الاسباب وراء رفض الحق والعدل وعدم الإلتزام بهما من قبل بعض المسلمين،ويكمن الجواب في إن الحسد والحقد والانانية وحب الظهور والاستعلاء وحب الجاه والمنصب وهي من أمرض النفاق وراء رفض الحق والعدل،لأن مساحة الشهوات والرغبات والتسلط فيهما ضيقة جداً بل معدومة،فلا يوجد للطغيان والإستبداد مندومة فيهما، فيكون الطعن والتسقيط والإتهام والإشاعات أسلحة ناجزة في ساحة صراع المصالح الخاصة مع الحق والعدل.ويشير السيد الحكيم إلى إن الخسارة في المصالح الخاصة عند تقديم المصالح العامة عبارة عن قرض يقرضه المتضرر لله سبحانه وتعالى إّ يقولك{..وما يتعرض له الانسان من خسارة في مصالحه الفردية بسبب تقديم المصالح العامة يعوضه الله عنها أجراً عضيماً في الدار الآخره(26)-"إن تقرضوا الله قرضاً حسناٍ يضاعفه لكم"(27)-إن مصلحة الانسان ليست في رغباته وميوله وإنما مصلحته في حياته الابدية،فإشباع الميول والرغبات الخاصة ضارة بالإنسان في الدارين الدنيا والآخرة ولذلك وصف القرآن الكريم الذين يتمتعون بها بالأنعام "إن الذين كفروا يأكلون ويتمتعون كما تأكل وتتمتع الأنعام والنار مثوىًلهم"،ووصف الذين لايقبلون الحق والعدل ويعارضونه بأنهم أشر الدواب "إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لايعقلون"،فالحيوان لا يهتم سوى بعلفه ولايعقل الحقائق ولكن هؤلاء الذين عطلوا عقولهم وأصموا آذانهم عن الحق وألسنتهم عن الفضائل بأنهم أسوء من البهائم،ولذلك فإن إلتزام الحق والعدل يجرد الانسان من دنياه كهدف وإنما تبقى وسيلة يتاجر بها مع الله عز وجل كما ورد ذلك عن أمير المؤمنين-ع-:"الدنيا متجر أولياء الله"،وعنه أيضاً"الدنيا سوق ربح فيها قومٌ وخسر آخرون"،وينتهي أستاذنا-رض-بخلاصةٍ مفادها {إن الحق يتبع المصلحة ولكن أي مصلحة؟إنها مصلحة مجموع الناس في مقابل المصلحة الخاصة لهذا الفرد أو ذاك في هذة الدنيا وكذلك مصلحة الانسان في مسيرته التكاملية في الدنيا والاخرة معاً،لأن الانسان عندما يتنازل أحياناً عن بعض مصالحة الخاصة في الدنيا يتم تعويضه عن ذلك في الاخرة}.(28) فالحق والعدل ليس بينهما منطقة فراغ لكي يجتهد الانسان حسب مصالحه الخاصة ليقول إننا على الحياد،لأن الحياد بين الحق والباطل محال،هذا من جهة أتباع الحق والعدل وهو ليس أمراً مزاجياً،وبعض الناس لايتبع الحق لأن زيداً متصدٍ له أو لأن الجماعة الفلانية تطالب به وتتبناه من جهة أخرى ويشير السيد الحكيم إلى ذلك بقوله:{..فالنظرية الإسلامية في الاصل ليست قائمة على أساس التعددية،لان الحق والعدل واحد،ولايوجد تعدد فيهما ولابد فيها من السعي لمعرفة الحق والوصول إليه والإلتزام به دون غيره حتى لو لم يكن موافقاً لرغبات وميول هؤلاء الناس إلاّ في المجالات التي ترك الاسلام فيها الامر إلى إختيار الإنسان-مساحة الإباحة-ورغباته وهو مجال واسع}(29).