مؤسسة تراث الشهيد الحكيم http://al-hakim.com مؤسسة تراث الشهيد الحكيم Thu, 21 May 2015 09:27:01 +0000 ar hourly 1 https://wordpress.org/?v=6.4.4 نظرة آية الله محمد باقر الحكيم لحقوق الانسان http://al-hakim.com/?p=2985 http://al-hakim.com/?p=2985#respond Thu, 21 May 2015 07:20:21 +0000 http://al-hakim.com/?p=2985 tt

بحث شارك في المؤتمر الثاني لإحياء التراث الفكري والعملي للشهيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم 

الباحث: الاستاذ المساعد د. نعيم كريم عجمي

                  كلية التربية ـ جامعة ذي قار

تمهيد

تكمن أهمية موضوع حقوق الإنسان اليوم في كونه محط اهتمام الكثير من الناس، من الذين فقدوا تلك الحقوق أو لم يروها البتة؛ بسبب الظلم والاضطهاد السياسي الذي تمارسه الأنظمة الديكتاتورية، من اجل المحافظة على مصالحها في السلطة والحكم.

يقع هذا البحث في ثلاثة محاور وهي المحور الأول: نظرة تاريخية تناولت فيها التطور التاريخي لحقوق الإنسان، علاوة على تعريفها من وجهة نظر التاريخ الأوربي الحديث. أما المحور الثاني: فكان بعنوان نظرة السيد الحكيم لحقوق الإنسان، وهي نظرة عامة وشاملة لحقوق الإنسان دونما التطرق إلى هذه الحقوق لمجتمع معين أو لفئة معينة. أما المحور الثالث: فكان نظرة السيد الحكيم لحقوق الإنسان في العراق.

أولا: نظرة تاريخية

إن مصطلح حقوق الإنسان حديث نسبيا، ولم يصبح شائعا الإ خلال القرن العشرين، وبعد الحرب العالمية الأولى تحديدا.

يمكن تعريف حقوق الإنسان بأنها: مجموعة المطالب الأساسية التي يعترف بها للفرد وللجماعة على حد سواء، قوامها الحرية، تنشأ مع الإنسان وتلتصق بوجوده ولا تتحرك إلا في إطار الجماعة الاجتماعية أو السياسية وعبر علاقته بها، طبيعتها لأتسمح بالتنازل عنها، واحترامها شرط من شروط تقدم البشرية.

تكونت نظرية حقوق الإنسان في رحم نظرية القانون الطبيعي (Natural law theory)، وتعود أصول هذه النظرية إلى العصر اليوناني والروماني، ويبرز من بين مفكري هذه المرحلة اسم شبيشرون (106 ـ 43 ق. م)، الذي يرى بأنه «ثمة قانون راهن متوافق مع الطبيعة منتشر في جميع البشر، لايتبدل لأنه خالد» والناس متساوون في ضوء هذا القانون، كما أن حرية الإنسان يجب أن تخضع إلى سنة القانون «إنا عبيد للقانون لكي نبقى أحرارا»[1].

ومن بينهم جون لوك (1632 ـ 1704) John Lock الذي يرى أن حياة الإنسان «حالة كاملة في تنظيم أفعالهم، والتصرف في ممتلكاتهم وأشخاصهم، بما يرونه سليما، في حدود قانون الطبيعة دون أن يطلبوا إذنا، ودون الاعتماد على إرادة أي إنسان أخر» هذه الحالة الطبيعية يوضع لها حد بالعقد الذي يبرم بين الأفراد لإقامة المجتمع المدني، وهذا العقد لايتضمن تنازل الأفراد لإقامة المجتمع المدني، وهذا العقد لا يتضمن تنازل الأفراد عن حقوقهم الطبيعية إلا بالقدر الذي لم يعد يتلائم مع إقامة النظام الاجتماعي[2].

لقد أسهمت كتابات هؤلاء المفكرين في إرساء قواعد فكرة حقوق الإنسان، أسهم معهم في هذا البناء عدد كبير من المفكرين، فمعظم كتابات مفكري[3] القرن الثامن عشر لم تخرج عن إطار دائرة حقوق الإنسان، ويبرز من بينها إعلان حقوق الإنسان المواطن Delclaration of the Right of man and of the citizen في 26 آب 1789، الذي جاء في أعقاب قيام الثورة الفرنسية[4].

يبدأ الإعلان بالإقرار أن الناس ولدوا ويظلوا أحرار متساوين في الحقوق، كما أن هدف كل مجتمع سياسي هو صيانة حقوق الإنسان الطبيعية، التي حددها بالحرية، والملكية، والحق في الأمن، ومقاومة الظلم. وأخر الإعلان حق حرية التعبير عن الأفكار والآراء، وحق حرية الأديان[5].

أخذت هذه الأفكار طريقها إلى القوانين والدساتير منذ منتصف القرن التاسع عشر، فقد بدأت بريطانيا وفرنسا خطواتهما الأولى في هذا المجال عام 1848، عندما أصدرت الحكومتان مجموعة قوانين تتعلق بتحديد ساعات العمل والتوزيع العادل لأعباء المجتمع وامتيازاته[6].

ثم امتد مبدأ الإقرار بالحقوق الاجتماعية إلى بقية الدول الديمقراطية في أوربا، حتى يكاد يكون الإقرار بهذه الحقوق السمة البارزة لدساتير تلك الدول.

ثانيا: نظرة السيد الحكيم لحقوق الإنسان

يرى السيد الحكيم[7] أن من حق الإنسان على الإنسان الإخوة في التعامل، بشكل أن يكون ذلك عزة وكرامة وقوة، لا أن يستغل تلك العلاقة الأخوية إلى العكس من ذلك تماما[8].

ويجب أن لاتستغل هذه العلاقة من اجل ظلم الناس والتحكم في رقابهم والإساءة إليهم؛ أي أن تكون علاقة تخدم كل أبناء المجتمع، وان تكون في مصلحة الجماعة كلها[9].

وان تترجم الإخوة إلى أفعال حقيقية، بنصرة الأخ على أعدائه، الذين هم في الحقيقة أعداء الله والمجتمع والمصلحة العامة قولا وفعلا. ويحب أن لا يتوقف الأمر عند ذلك بل يقع على عاتق الأخ النصيحة والإرشاد والوعظ والإخلاص في العمل ورعاية مصلحة شؤون أخيه[10]، وان يكون كل ذلك بشكل متكافئ ومتقابل.

ومن الحقوق الإنسانية الأخرى التي أكد عليها السيد الحكيم هي المشاركة الفعلية في الحياة الاجتماعية العامة للناس، وتحمل المسؤولية العامة تجاههم بدرجة عالية، وذلك من قبيل المشاركة في الأفراح والأحزان، وتقديم المساعدة للآخرين، وزيارة المرضى، ومنع وقوع الضرر على الناس، وتعزيز مبدأ الوفاء وأداء الأمانة[11].

ويرتقي السيد الحكيم بمسالة المشاركة الاجتماعية إلى مستوى تحمل المسؤولية تجاه الاستبداد والظلم والطغيان، بمعنى عدم مشاركة أو تأكيد أو مناصرة السلطة الظالمة[12]. ويرى السيد محمد باقر الحكيم، إن أبناء المجتمع الواحد يجب عليهم تحمل البلاء، والصبر على المحن والآلام، إذ يقع ذلك ضمن المسؤولية الاجتماعية. وان التكاتف والتآخي سوف يقلل من وطأة تلك المحن ويخفف من آلامها[13].

ثالثا: نظرة السيد الحكيم لحقوق الإنسان في العراق

فيما يتعلق بحقوق الشعب العراقي فان السيد محمد باقر الحكيم أول شي أكد عليه هو حرية هذا الشعب في التخلص من تسلط النظام البعثي السابق من كل مواقعه وتأثيراته ومن أفكاره، لان وجود مثل تلك المواقع والتأثيرات والأفكار سيكون بمثابة وضع العصا في العجلة لكي تتأخر، خصوصا حينما عشنا ونعيش اليوم أساليب النظام السابق الوحشية، من اجل تحقيق غاياته من خلال استعادته لمواقعه السابقة[14].

أما الشيء الأخر الذي أكد عليه السيد الحكيم هو قضية استقلال العراق، بمعنى التحرر من السيطرة الأجنبية، ومن الاحتلال الخارجي بكل أشكاله سواء العسكرية أم الاقتصادية أم السياسية، ولهذه القضية أهمية خاصة في تفكير السيد الحكيم؛ لأنها تمثل أمنية غالية جدا يصعب تحقيقها مع تشابك وتعقد العلاقات والمصالح الدولية والإقليمية والمحلية وعلى كافة الصعد والمستويات، على أن ذلك يعتبر حق من الحقوق الأساسية للشعب العراقي[15].

كما أكد السيد محمد باقر الحكيم على مسالة العدالة سواء الاجتماعية منها والتي تعني توحيد النظرة إلى أبناء المجتمع دونما تمييز لأساس طبقي ولاعلى أساس طائفي، مجتمع يجب أن يتساوى فيه الجميع في الحقوق والواجبات، كما أشار السيد الحكيم أن العدالة يجب أن تكون اقتصادية أيضا، بمعنى أن يكون هناك توزيع عادل لثروات البلاد على جميع أبنائه بالتساوي.

وينطلق السيد الحكيم في نظرته هذه إلى مسالة العدالة بجوانبها تلك من طبيعة التحديات التي تواجه الشعب العراقي، والمتمثلة في الاضطهاد العنصري والطائفي لأكثرية أبناء الشعب، فضلا عن الأقلية.

حيث يرى الحكيم أن العدالة هي المفتاح الأساسي لرفع كل هذا الظلم والاضطهاد، وان التوازن في إدارة البلاد سيسهم أيضا في رفع تلك المعاناة عن كاهل الشعب، بشكل يضمن للجميع تمثيلا سياسيا حقيقي ـ ا، الأمر الذي سينعكس ايجابيا في تحقيق العدالة على جمي ـ ع الصعد والمستويات[16].

أن كل ذلك سوف يؤدي إلى تحقيق الغايات الأساسية التي يسعى إليها أبناء الشعب العراقي في التنمية الاقتصادية والرفاه والرقي والتطور، بشكل يجعل البلد يسير في خطى صحيحة وواثقة في ركاب الأمم المتقدمة.

ويدعو السيد الحكيم إلى وحدة الصف والتكاتف ونبذ الطائفية والعنصرية، وان تكون النظرة موحدة لجميع أبناء الشعب العراقي، حيث يقول «أن يكون عبد الزهرة على قدم المساواة مع عبد العليم أو عبد السميع»، بمعنى آخر يجب أن لايكون هناك تميز لأعلى أساس الاسم أو الطائفة أو الفئة.

الخاتمة

إن النظرة إلى حقوق الإنسان هي نظرة عالمية، وهي قبل ذلك نظرة إلهية، اعتمدت الحرية والعدل والمساواة، وان الظلم والاستبداد المنتشر بين المجتمعات البشرية هو الذي يدعو دائما إلى إحيائها والتمسك بها لمواجهته.

لقد اتسمت نظرة السيد الحكيم لحقوق الإنسان بالشمولية والعالمية، وهو بذلك يستند في نظرته تلك إلى نظرة الدين الإسلامي الحنيف لهذه المسالة.

كانت دعوة السيد الحكيم تقوم دائما على الوحدة والتآخي ونبذ العنف والطائفية؛ لان في الأولى يشتد ويقوى البنيان ويخشاك الأعداء، في حين تكون الثانية معول الهدم لذلك البنيان وتحطيم لتلك القوة .

إن نظرة الشهيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الحكيم إلى حقوق الإنسان في العراق إنما هي نظرة حقيقية وصائبة شخصت مشكلات الواقع العراقي، ودعت إلى وضع الحلول لتلك المشكلات، وكان الشهيد السعيد هو جزء من ذلك الواقع، وليس ببعيد عنه، وهذه هي صفات القائد الجيد.

[1] (Encyclopedia Britannica, Vol 14, (new York, 1970 ;P .530

[2] محمد محمد صالح، تاريخ أوربا من عصر النهضة حتى الثورة الفرنسية (1500 ـ 1789) بغداد، (1981)، ص 586.

[3] مثل كتابات مونتسكيو (1689 ـ 1755) Moteskuw صافي المؤلف الشهير روح القوانين The spirt of Laws سميث (1723 ـ 1790) Adam Smith صاحب كتاب ثروة الأمم the wealth of Nations. للمزيد من التفاصيل انظر المصدر نفسه.

[4] ألبير سولول، تاريخ الثورة الفرنسية، ترجمة جورج كوستن (بيروت بيارس، 1989) ص 131.

[5] عبد الحميد البطريق وعبد العزيز نوار، التاريخ الأوربي الحديث من عصر النهضة إلى مؤتمرفينا (بيروت، 1974)، ص 378.

[6] محمد محمد صالح وآخرون، تاريخ أوربا في القرن التاسع عشر، (بغداد، 985)، ص 96.

[7] اية الله السيد محمد باقر الحكيم، ولد عام 1939 في مدينة النجف الاشرف، وهو نجل اية الله العظمى السيد محسن الحكيم. تلقى علومه الأولية في كتاتيب النجف، ثم درس الابتدائية في مدرسة منتدى النشر، وفيها انهى الصف الرابع. ودخل الحوزة العلمية عام 1951. حضر درس خارج الفقه والاصول لدى كبار المجتهدين أمثال اية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي (قدس سره) وآية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر (قدس سره). درّس في كلية اصول الدين في بغداد. ودرّس البحث الخارج على مستوى الاجتهاد في ايران بشكل محدود بسبب انشغاله وممارسته القيادة السياسية. للمزيد من التفاصيل انظر: ابحاث المؤتمر الاول لإحياء التراث الفكري والعلمي للشهيد اية الله العظمى محمد باقر الحكيم (قدس سره) (النجف الاشرف،2006)، ص 99 ـ 103.

[8] الإخوة الإيمانية من منظور الثقلين، (قم المقدسة، 2004)، ص 60 ـ 61.

[9] أية الله العظمى محمد باقر الحكيم، الشيعة والتشيع ط 11 (طهران، 2004)، ص 112، أية الله محمد باقر الحكيم المنهاج الثقافي السياسي الاجتماعي، ج 1، (النجف الاشرف، د ـ ت)، ص 238.

[10] أية الله العظمى محمد باقر الحكيم، الشيعة، المصدر السابق ص 112.

[11] المصدر نفسه، ص 113.

[12] محمد باقر الحكيم، دور الجامعيين في مستقبل العراق، ط 11، (قم، 2004) ص 212.

[13] آية الله العظمى محمد باقر الحكيم، دور الجامعيين في مستقبل العراق، المصدر السابق، ص 21.

[14] المصدر نفسه.

[15] آية الله السيد محمد باقر الحكيم، دور الجامعيين في مستقبل العراق، ص 22.

[16] أية الله العظمى السيد محمد باقر الحكيم. الإخوة الإيمانية من منظور الثقلين، (قم المقدسة، 2004) ص 60.

]]>
http://al-hakim.com/?feed=rss2&p=2985 0
شهيد المحراب أمتداد أصيل لمنهج الامام الحسين (عليه السلام) http://al-hakim.com/?p=2979 http://al-hakim.com/?p=2979#respond Thu, 21 May 2015 06:54:05 +0000 http://al-hakim.com/?p=2979 tt

بحث شارك في المؤتمر الثاني لإحياء التراث الفكري والعملي للشهيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم

الباحث: الاستاذ المساعد د. منعم مجيد الموسوي

                     كلية الاداب ـ جامعة البصرة

تواطئة

لقد استوقفتني كثيراً ملامح توشح بها عطاء جهادي يندر مثيله في زمننا المعاصر لجبل شامخ هو اية الله العظمى السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره). حيث اعتمد الاسس المبدئية لثورة الأمام الحسين (عليه السلام) مستلهماً من تلك الثورة العظمى ـ وهي أعظم ثورة ضد الظلم والطغيان في التاريخ الانساني ـ دروسها الشمولية في أن الشهادة تمنح الحياة للشعوب والامم، فجعلها منهاجاً في مسيرة الجماعة الصالحة عموماً؛ لتجسد الشعار الحسيني العظيم (هيهات منا الذلة).

ولايخفى على المنصف ما لنهضة الأمام الحسين (عليه السلام) من أثر واضح المعالم في حركة ألتاريخ الاسلامي، بحيث كانت معطياتها الميدانية في تأريخ الامة سبباً لحفظ الدين الاسلامي الحنيف ومبادئه من مخاطر الانحراف والرذيلة التي تبنتها الدولة الاموية من اجل السلطة واطماعها الدنيوية. فقطعت ثورة سيد الشهداء (عليه السلام) على يزيد الظلم والانحراف رسالته الخبيثة. لترتفع مبادئ العدل والحق التي جاءت على لسان نبي الرحمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن يظهر قائم ال محمد (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وقد حمل لواء هذه الثورة أئمة اهل البيت (عليهم السلام) وتوارثته من بعدهم الجماعة الصالحة على مراحل التأريخ.

وطغى يزيد العصر في العراق فانطلقت بوجهه صرخة مدوية على لسان شهيد المحراب (قدس سره): هيهات منا الذلة لتعيد الألق لثورة الحق والعدل بوجه الظالمين والطغاة.

سائلين المولى العلي القدير أن يثبتنا على قول الحق وفعله.

والله من وراء القصد..

قضية الأمام الحسين (عليه السلام) أطروحة آلهية

اعتبر شهيد المحراب (قدس سره) قضية الأمام الحسين (عليه السلام) أطروحة آلهية غيبية ـ بتأريخ الإنسانية جمعاء ـ متشابهة إلى حد ما مع أطروحة الأمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، التي شاء الله أن يختم بها تأريخ البشرية بقيام حكومة العدل والقسط الإلهي الكامل، حيث بشر الأنبياء بهذه الحكومة وهذه الأطروحة، كذلك أطروحة الأمام الحسين (عليه السلام) ذكرت على لسان الأنبياء السابقين ونبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل حدوثها، كما ورد عن الأمام الرضا (عليه السلام) فيما جرى بين النبي إبراهيم (عليه السلام) وربه حينما تله للجبين فأمر الله أن يفدي ولده بكبش انزله عليه لأنه جزع وحزن على مقتل الأمام الحسين (عليه السلام) وتمنى على الله أن يفجعه بولده ذبحاً كما سيفجع نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بولده الحسين (عليه السلام) مذبوحاً ولم يجزع لذبح ولده.

إن الجماعة الصالحة كانت ولاتزال تقيم مجالس العزاء الحسينية تأسياً بأهل البيت (عليهم السلام)، وكما ذكر عن الأمام الصادق (عليه السلام) «احيوا امرنا رحم الله من احيا امرنا» وكان الحديث يدور عن مظلومية اهل البيت (عليهم السلام) وخصوصاً ما جرى يوم الطف على الأمام الحسين واهل بيته (سلام الله عليهم) من ظلم كبير وتعدٍ على حدود الله من قبل الطغمة الاموية الفاسدة. ولذلك سميت الأماكن التي تقام بها هذه المجالس بالحسينيات، واصبحت هذه الحسينيات بعد ذلك مؤسسات ثقافية لنشر الثقافة الاسلامية من خلال إقامة الشعائر الحسينية وجعلها منهجاً للحياة تتحرك على اساسه الجماعة الصالحة.

اننا حينما نقول إن قضية الحسين (عليه السلام) أطروحة الهية غيبية فاننا نؤكد على ما أسس له الائمة (عليهم السلام) في جعل قضية الإمام الحسين (عليه السلام) القدوة والأسوة من خلال إقامة الشعائر الحسينية التي بقيت مستمرة ـ بجذوتها عبر المراحل التأريخية ـ ومؤثرة في مسار التأريخ بما يحفظ للامة الاسلامية أصالتها؛ لأنها اساليب توارثناها من أصحاب الشريعة الحقيقيين، وهم اهل البيت (عليهم السلام) فامتازت بالشرعية التي يفتقر لها الاخرون.

فديننا أخذناه عن القرآن الكريم والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة (عليهم السلام) لامتلاكهم الشرعية التي يتميزون بها دون غيرهم من الناس.

وقد تمثلت هذه الشعائر بالبكاء، والزيارة، ومجالس التعزية تحديداً، وبذلك يصبح الامر فيها واجباً. وقد يطلق بعضنا العنان لعواطفه ليعبر عن حبه لآل البيت (عليهم السلام) باكثر من ذلك فلا باس بالمستحب.

أما شعيرة البكاء على الحسين فقد اقامها واسسها امامنا زين العابدين (عليه السلام) لتصبح منهجاً اسلامياً لايعبر عن العواطف والاحاسيس التي عاشها شخصياً فقط بل ليؤكد عمق وهول المصيبة التي جرت على أهل البيت (عليهم السلام)؛ لتبقى تعيشها الامة الاسلامية، وتتحرك على أساسها الجماعة الصالحة، وقد اعطى أئمة اهل البيت (عليهم السلام) عمقاً ثالثاً لهذه الشعيرة عندما طرحوه اسلوباً لتعظيم شعائر الله، بل تحّول إلى عبادة يمارسها الانسان بطريقة فردية أو جماعية لها أهمية للثواب المترتب عليها، فالبكاء على الحسين (عليه السلام) محبوب لله تعالى، ويشبه البكاء من خشية الله.

إن الفلسفة التي طرحها أئمة أهل البيت (عليهم السلام) للبكاء لها بعد سياسي، فهي طريقة مثلى لاستنكار الظلم والتعبير عن المأساة والمظلومية التي تعرض لها الأمام الحسين (عليه السلام) واهدافه النبيلة.

كما يجسد تفاعلاً ذاتياً واخلاقياً مع مأساة كربلاء مما أعطى أهل البيت (عليهم السلام) من خلالها القدرة على أن يحفظوا في الجماعة الصالحة أخلاقية الانضمام والوقوف إلى جانب الحق ومواجهة الظلم، رغم الضغوط التي يمارسها الطغاة ضدهم. كما أن البكاء يمثل منهجاً في تزكية النفس وتطهيرها من الادران ورفع درجة احساسها بالآلام الانسانية والوعي لقضايا الظلم والعدل مما يؤثر في يقضة الضمير ووعي الوجدان لعملية الغدر والخيانة التي تعرض لها الأمام الحسين (عليه السلام) حتى من أتباعه، باستثناء النخبة التي ثبتت معه واستشهدت.

وخير دليل على ذلك العدد الكبير من الناس الذين بايعو الحسين (عليه السلام) على يد مسلم بن عقيل (عليه السلام)، فكانوا يقينا يحبونه، ولكنهم باعوا دينهم بدنياهم، وكما قال الفرزدق حين التقى الحسين (عليه السلام): «قلوبهم معك وسيوفهم عليك» كما أن هناك صورة اخلاقية سيئة تمثلت بالخيانة والغدر في اخلاق عمر بن سعد وكذلك عبيد الله بن زياد الذي شابه أباه في تحوله إلى كلب من كلاب يزيد لمجرد أن اغدق عليه الاموال، وقد فعلها أبوه مع معاوية، فقتل حجر بن عدي واصحابه.

فالبكاء يطهر الوجدان وينقّيه ويجعله يتحسس الظلم، ويعرف معنى العدل، ومعاني الانسانية التي ثار من اجلها الأمام الحسين (عليه السلام). لذلك يجب أن نجهد انفسنا عندما نجلس في هذه المجالس بالبكاء لان في ذلك ثواباً عظيماً إلى جانب أنه يبقى الظمير يقضا حيا على الدوام.

وهذا هو أحد الآثار الاساسية في وجدان وضمير هذه الجماعة التي استلهمت من ضمير الأمام الحسين (عليه السلام). و هذه القضية الاخلاقية لا تتحدد بمعرفة المظلوم، والوقوف معه ضد الظالم، وانما هي قضية تربوية كبرى توارثناها من ائمتنا الاطهار، كما عالجها القرآن في مواطن كثيرة من خلال إنتقاده لقسوة القلب، وتمجيده لرقة القلب وخشوعه. فالبكاء يمثل أفضل وسيلة لغسل درن القلب وتهيئة الارضية الصالحة للتفاعل والتأثر؛ لهذا جاء الحث الشديد من الشارع المقدس على البكاء من خشية الله تعالى، فتساوت العين الباكية من خشية الله بالعين التي تكف عن محارم الله أو التي تسهر في سبيل الله، كما ورد في الحديث النبوي الشريف وبذلك، يكون للبكاء بعد روحي ووجداني بالاضافة للبعد السياسي والاخلاقي والثقافي.

أما شعيرة الزيارة فقد كانت بالاساس حضوراً إلى جانب قبر الأمام (عليه السلام) بعد استشهاد أبي عبد الحسين سلام الله عليه، ثم اتخذت بعدا اوسع في تعظيم اهل البيت (عليهم السلام) فاصبحت مطلوبة في مختلف الاوقات ولو من مكان بعيد لتشمل زيارة المشاهد المقدسة لجميع الائمة الاطهار والصالحين من اولادهم وأتباعهم.

وتجدر الاشارة إلى أن أول من قام بزيارة قبر الأمام الحسين هو الأمام زين العابدين (عليه السلام) في يوم الاربعين من شهادته عند رجوعه من الشام، وتوالت بعد ذلك زيارة اهل البيت (عليهم السلام) لقبر الأمام الحسين (عليه السلام) حتى اصبحت فريضة على من يؤمن بأمامته كما ورد في حديث الأمام الصادق (عليه السلام) بل ترتقي بالثواب والاجر العظيم حتى فضّلت على الحج والعمرة.

ولهذه الزيارة المباركة عدة أبعاد. منها: إنها شعار يعبر عن الابعاد التي تعبر عنها شعائر الحج في النظرية الاسلامية، ولكن في إطار خاص وهدف محدود، وهو أن شهيد المحراب أراد تربية الجماعة الصالحة والخط الاصيل المتمثل باتباع اهل البيت (عليهم السلام) على مضمون نهضة الحسين (عليه السلام) ويتم ذلك على مستوى الولاء لهذا المحور الاسلامي وهو الحسين (عليه السلام) والتلبية لندائه باعتباره داعياً إلى الله (لبيك ياداعي الله إن كان لم يجبك بدني عند استغاثتك ولساني عند استنصارك فقد اجابك قلبي وسمعي وبصري. سبحان ربنا أن وعد ربنا كان مفعولا) أو على الصعيد الثقافي والسياسي والاقتصادي أيضا. هذا من جانب ومن جانب آخر فقد ربط شهيد المحراب حركة الكتلة والخط الاسلامي الاصيل بهذا المحور الاسلامي وموافقة الشرعية، متمثلاً بالخط الثابت لآل البيت (عليهم السلام) في مسيرتهم لخدمة المذهب بوضوح، وهو خط الرفض للطغيان والظلم الذي اعلنه الأمام الحسين (عليه السلام) وتحدث عنه في أول خطبة ألقاها على أهل الكوفة ليخط نهجاً انتهجه أئمة اهل البيت (عليهم السلام) وطريقاً لا لبس فيه من خلال التركيز على محور زيارة الأمام الحسين (عليه السلام) وتجديد البيعةُ له والولاء باصرار يندر نظيره في التأريخ.

وتثقيف الجماعة الصالحة على الالتزام بالمفاهيم العقائدية والاخلاقية والسياسية التي تضمنتها نصوص الزيارات التي وردت للحسين (عليه السلام) في الأيام المخصوصة المختلفة كمفاهيم اوجدت خطاً ثقافياً واعياً وثابتاً في وسط الجماعة الصالحة للتعبير السياسي والاجتماعي عنهم، وفتح الابواب أمام بقية المسلمين للالتحاق بحركتهم الحثيثة والواثقة لتتصل بحركة الأمام الحسين (عليه السلام).

وهذه الحقيقة تفسر ظاهرتين بارزتين في تأريخ وجود هذه الزيارة: الاولى تشمل في الممارسات القمعية العدوانية التي كانت تمارسها السلطات الجائرة والطغاة المجرمون بحق ابناء الإسلام الذي كانوا يتوافدون على زيارة المرقد الشريف للامام الحسين (عليه السلام) حيث كان يتعرض هؤلاء الزوار إلى القتل، أو فرض الاتاوات، أو التنكيل بقطع الايدي، والمطاردة في بعض الادوار، حتى تعرض القبر إلى الهدم المتعمد كما حصل في زمن المتوكل العباسي. أو الوهابيين عندما هاجموا العراق في أواخر القرن الثالث عشر الهجري أو حكومة العفالقة في العراق في العقد الاخير من القرن الرابع عشر الهجري. الثانية: تأكيد أئمة اهل البيت (عليهم السلام) على شيعتهم بضرورة ممارسة هذا الشعار بالرغم من المخاطر التي كانت تحف بالزائرين، وبالرغم من نهج التقية الذي إلتزموا به، وحرص الائمة (عليهم السلام) على المحافظة على شيعتهم وتجنيبهم مختلف المخاطر والآلام، بحيث تكاد أن تتحول الزيارة في نظرهم إلى قتال في سبيل الله؛ لأنها تعبر عن ارتباط الزائر بالحسين (عليه السلام) وهو واجب شرعي فرضه الله على عباده، حيث قال: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى). كما أنها تثقف الانسان المؤمن على المبادئ والقيم والمفاهيم التي ثار من اجلها الأمام الحسين (عليه السلام) وبذلك أصبحت الزيارة تعبيراً صادقاً عن عزة وكرامة المؤمنين من خلال وحدتهم وعظم جماعتهم، كما نجد ذلك متجسداً في أمر الله سبحانه وتعالى في موضوع حج بيت الله الحرام، وهذه نبذة من الاسرار التي تفسر لنا تأكيد اهل البيت (عليهم السلام) على زيارة الأمام الحسين (عليه السلام) والبحث في المداليل السياسية والاخلاقية والاجتماعية والروحية لهذه الشعيرة العظيمة.

أما الشعيرة الثالثة فهي إقامة المجالس الحسينية التي يقيمها اتباع اهل البيت (عليهم السلام) في ايام المصيبة العظمى من شهر محرم وصفر، حيث يتداولون فيها حوادث مأساة كربلاء واهدافها واثارها مع اظهار الالم والحزن العميق لمصاب الأمام الحسين (عليه السلام) وعظم ما اصابه واهل بيته الاطهار من جانب، والوحشية التي اتسمت بها الطغمة الاموية الحاكمة، وبالخصوص الطاغية يزيد لعنه الله عليه.

وقد بدأت هذه المجالس منذ الأيام الاولى للمأساة في الشام عندما بدأ يزيد بالتراجع أمام بدايات الوعي الجماهيري لابعاد المصيبة من خلال التوعية التي قامت بها العقيلة المخدرة زينب الكبرى (عليها السلام) والامام زين العابدين (عليه السلام) عند ورود موكب السبايا إلى الشام وحضورهم مجلس يزيد بن معاوية، كما اقامت بعض زوجات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كأم سلمة مجالس العزاء في المدينة عند رجوع عيالات الأمام الحسين (عليه السلام) وبقي اهل البيت (عليهم السلام) يعقدون هذه المجالس كلما اتيحت لهم الفرصة، وخصوصاً في ايام عاشوراء، ويحثون شيعتهم ومواليهم على عقدها لتكون سنة ارادها الله سبحانه وتعالى على لسان اهل البيت (عليهم السلام).

ولاقامة المجالس الحسينية ابعاد مهمة، منها:

اولاً: المحافظة على هذا الحدث المهم الذي يمثل أطروحة آلهية لتوعية الامة الاسلامية لحفظ الرسالة الاسلامية من الضياع والتشويه والانحراف، حيث إن السلطة الاموية الغاشمة حاولت منذ البداية أن تضيع الحقيقية حينما طرحت قضية الحسين (عليه السلام) على انها عملية خروج على السلطة الشرعية، واطلقت عليهم (الخوارج)، وهم يعرفون مقام الأمام الحسين (عليه السلام) وعمق الجريمة التي ارتكبوها من جانب، ومن جانب آخر حاول يزيد في بدايات الامر أن يتنصل من مسؤولية هذا الحدث ويلقي تبعته على ابن زياد.

ولكن التخطيط الواعي لاهل البيت (عليهم السلام) من خلال المجالس الحسينية تمكن من حفظ معالم هذه الثورة من الضياع بجميع تفاصيلها وخصوصياتها.

ثانياً: ابقاع الحدث حياً وفاعلاً ومؤثراً في الجماعة الصالحة خاصة، والحياة الاسلامية عامة، من حيث الجانب الوجداني لضمير الانسان المسلم، والوعي السياسي للاحداث التي تمر بها الامة التي تميزت به الجماعة الصالحة إلى جانب الرؤية الاسلامية الصحيحة للحكم الاسلامي ومقوماته والمحافظة على العلاقات الانسانية والاجتماعية بين أفراد الجماعة الصالحة، ناهيك عن نشر الثقافة الاسلامية الصحيحة المتمثلة بمدرسة اهل البيت (عليهم السلام) التي واجهت عبر الادوار التأريخية محاولات الحظر والارهاب الفكري والجسدي، فاصبحت هذه المجالس الحسينية المدرسة الثقافية المتحركة في المجتمع. فضلاً عن كونها من أفضل الإعمال التي يتقرب بها اهل البيت (عليهم السلام) إلى الله انطلاقاً من آية المودة.

فإقامة المجالس الحسينية لا تقتصر على المصاب فحسب، وانما تشمل إحياء الإسلام وترسيخ دعائمه، وحث الناس على التقوى والورع، والالتزام بالشريعة الاسلامية، ومواجهة الظلم والطغيان كشعار رفعه الأمام الحسين (عليه السلام) لثورته التأريخية ليكون المضمون هو إحياء أمر اهل البيت (عليهم السلام) من خلال هذه الشعائر وفق الاساليب المعروفة؛ لان المجلس الحسيني هو الحق الناطق.

أهمية الشعائر الحسينية في فكر شهيد المحراب

إن الشعائر الحسينية قضية تعيشها الجماهير في ضميرها حتى الذين لايلتزمون بالإسلام التزاماً كاملاً، بل تعيش في نفوس كثير من الذين لايؤمنون بالإسلام ابداً، لأنها قضية إنسانية تنسجم مع ضمير الانسان وواقعه في كل مكان، وهنا لابد أن نؤكد اوجه أهمية هذه الشعائر فيما يلي:

1 ـ مركزية الشعائر الحسينية، وذلك يتجلى من خلال أن قضية الأمام الحسين (عليه السلام) أصبحت قضية مركزية تعيش في ضمير الانسان المسلم الواعي، بل إنها كانت محوراً اساسياً لتحرك علمائنا الاعلام وما انتقال الشيخ الطوسي (قدس سره) من بغداد إلى النجف ليؤسس حوزة النجف الاشرف إلّا بسبب هذه القضية المركزية.

هذا من جانب ومن جانب آخر وفي تأريخنا المعاصر كان أعداء الإسلام الذين يريدون الكيد بالإسلام يستهدفون هذه القضية بالذات؛ لانهم يدركون مدى تأثيرها على ضمير المسلم، بحيث تدفعه باتجاه أهداف الحسين (عليه السلام) وباتجاه بُعد العقيدة الاسلامية وبعد مبدء رفض الذل والظلم. وهذا يعني أن هذه الشعائر تعيش في ضمير الانسان المسلم السائر على خط اهل البيت (عليهم السلام) ولا يمكن أن يحصل مثل هذا التأثير في النفس والضمير إلّا اذا كان وراءه قوة إلّهية ومشروعية إسلامية في كل عصر وزمان.

إن لثورة الحسين وشعائره (عليه السلام) دوراً كبيراً في تعبئة الامة، وذلك حينما يتم ذكر مضمون الثورة الحسينية ومقارنته مع الاوضاع السياسية التي يعيشها الناس من خلال ربط الخطيب الحسيني للماضي بالحاضر المعاش فعلاً ربطاً اسلامياً حقيقياً؛ لان اعداء الإسلام كانوا يحاولون إفراغ الشعائر الحسينية من مضمونها وجعلها مجرد ممارسات شكلية، وهذه المحاولات قام بها المستعمرون عندما دخلوا العراق على مر التأريخ. ومن جانب آخر محاولة ضرب هذه الشعائر وجعل الناس ينسونها، وهذا ماقام به النظام البائد في العراق ومن شابههم في مناطق مختلفة من العالم الاسلامي.

إن لهذه الشعائر دوراً في طهارة القلب وتنقيته من الادران من خلال الدعاء وتقوى الله سبحانه وتعالى وتعظيم شعائره؛ لأنها من تقوى القلوب.

إن الشعائر الحسينية اذا ما فهمت كما ارادها أئمة اهل البيت (عليهم السلام) بحيث يكون الابتكار فيها متجانساً معها فتحقق اهدافها في:

1 ـ التكامل العاطفي بين الأمام الحسين (عليه السلام) ومحبيه عموماً وقد تأكد ذلك من خلال المنهج الذي اتبعه اهل البيت (عليهم السلام) من اهتمامهم بعواطف واحاسيس الناس ومن جميع المذاهب.

2 ـ تربية الانسان المسلم على الثقافة الاسلامية من حيث العقائد والاخلاق والاحكام الاسلامية التي حققت أمرين مهمين هما: حفظ الإسلام وبناء القاعدة الاسلامية المتمثلة بالكتلة الصالحة، وهي كتلة أتباع اهل البيت (عليهم السلام) مستنداً على تأسيس المرجعية الدينية وبنائها، وهذا منهج خاص شرع من أيام الأمام الباقر (عليه السلام) واستمر إلى يوما هذا. وكان له دور كبير في حفظ الكتلة الصالحة لاتباع اهل البيت (عليهم السلام) فضلاً عن الدور الكبير الذي لعبه المنبر الحسيني في هذا المجال.

3 ـ الرؤية السياسية، وهي تعد الهدف الأساس والهدف الاول والثاني يمثلان نتيجة له. فقد كان عنواناً بارزاً لثورات العالم، بل إن اهل البيت (عليهم السلام) كانوا يقارنون بين الحسين (عليه السلام) والطواغيت الذين يحكمون في زمانهم، ويطلبون من شيعهم أن يتأسوا به (عليه السلام) كمنهج سياسي لرفض الظلم والطاغوت. وكان ائمتنا (عليهم السلام) يهتمون بالعاطفة؛ لأنها الطاقة المحركة للانسان ولا يتمكن بدونها أن يثور ويقتحم ويصبر ويستشهد كما فعل اصحاب الأمام الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء على قلّة العدد وخذلان الناصر.

من خلال ما تقدم نخلص إلى انه لو كانت الشعائر الحسينية مجرد عواطف شكلية ولا تتحمل مضموناً سياسياً وثقافياً لما تعرضت لهذا المقدار من العدوان هذا من جانب، ومن جانب آخر كان اتباع اهل البيت (عليهم السلام) هم الاوعى والافهم بما يدور حولهم، وخير دليل على ذلك انتصار الثورة الاسلامية في ايران وانتفاضة التاسع من محرم عام 1969م في النجف الاشرف بوجه البعثيين، وكذلك انتفاضة العشرين من صفر عام 1977م، والانتفاضة الشعبانية عام 1991 ولذلك لابد من التأكيد على الجانب المأساوي والتضحوي والاخلاقي لحركة الحسين (عليه السلام) لاحياء الجانب الوجداني في مشاعر الامة، كالبكاء، ولبس، السواد واظهار الحزن والاسى، كما ورد في روايات اهل البيت (عليهم السلام) مما يستوجب أن نتفانى فيها، كما كان يؤكد ذلك شهيد المحراب (قدس سره) على ضرورة احترام الشعائر الحسينية من جانب، وترسيخ مبدأ بناء شخصية الانسان على رفض الظلم والذل والخنوع والاستسلام.

والانتباه والحذر من مخططات اعداء الشعائر الحسينية والوقوف بحزم في وجههم للحفاض على الإسلام ومبادئه الحقة.

إن المؤمنين بحاجة إلى أن يجسدوا في هذه الشعائر المجال الذي يعبرون فيه عن ولاء ومحبة بعضهم البعض في إطار الله سبحانه وتعالى وفي إطار الأئمة (عليهم السلام) وحبهم وحب جميع العلماء والمراجع العظام والمنبر الحسيني والمجالس الحسينية من خلال توثيق الروابط والعلاقات والتعاون على البر والتقوى وتفقد عوائل الشهداء والمفقودين والمحرومين والفقراء والعاجزين وإشراك النساء، فلا نجعلهن بعيدات عن مضمون الثورة الحسينية والثقافية الحسينية.

والله الموفق….

المصادر

1 ـ شهيد المحراب (قدس سره) من النجف إلى النجف فقاهة، جهاد، شهادة/ ت ـ وفاء جواد الجياشي.

2 ـ شيعة العراق تأريخ.. مواقف/ ت ـ شهيد المحراب آية الله العظمى محمد باقر الحكيم.

3 ـ المنهاج الثقافي السياسي الاجتماعي/ ت ـ شهيد المحراب آية الله العظمى السيد محمد باقر الحكيم.

4 ـ في رحاب المنتديات أحاديث نشرت بمناسبة استشهاد شهيد المحراب.

5 ـ أبحاث المؤتمر الأول لإحياء التراث الفكري والعلمي للشهيد آية الله محمد باقر الحكيم.

6 ـ موسوعة الحوزة العلمية والمرجعية، الجزء الرابع الشهيد الصدر./ ت ـ شهيد المحراب.

7 ـ الطريق إلى الله /الحب في الله/ ت ـ شهيد المحراب.

8 ـ الشعائر الحسينية/ ت ـ شهيد المحراب.

9 ـ المجتمع الإنساني في القرآن الكريم/ ت ـ شهيد المحراب.

10 ـ الطريق إلى الله/ التوبة / ت ـ شهيد المحراب.

11 ـ دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي/ت ـ شهيد المحراب.

12 ـ الحج/ تاريخ ـ أبعاد ـ أحكام./ ت ـ شهيد المحراب.

13 ـ موسوعة الحوزة العلمية والمرجعية الجزء الأول ـ الحوزة العلمية / ت ـ شهيد المحراب.

14 ـ رفض الطغيان/ ت ـ شهيد المحراب.

15 ـ الزهراء (عليها السلام) اهداف، مواقف، نتائج./ ت ـ شهيد المحراب.

16 ـ الاصالة والمعاصرة / ت ـ شهيد المحراب.

17 ـ موسوعة الحوزة العلمية الجزء الثالث / الأمام الحكيم. شهيد المحراب

18 ـ سماحة اية الله العظمى المجاهد الشهيد السيد محمد باقر الحكيم/ اطلالة على السيرة الذاتية / ت ـ محمد هادي.

19 ـ منهج البحث العلمي لدى شهيد المحراب قدس / ت ـ أ.م .د. منعم مجيد الحمادة الموسوي.

]]>
http://al-hakim.com/?feed=rss2&p=2979 0
آثار الإمام محمد باقر الحكيم في الاقتصاد الاسلامي http://al-hakim.com/?p=2971 http://al-hakim.com/?p=2971#respond Thu, 21 May 2015 06:07:28 +0000 http://al-hakim.com/?p=2971 tt

بحث شارك في المؤتمر الثاني لإحياء التراث الفكري والعملي للشهيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم

الباحث: م.م. محمد حسين السويطي م.م. علي خوير مطرود

كلية التربية ـ جامعة واسط كلية التربية ـ جامعة واسط

المقدمة

قليلة هي الأحداث التي تحفر وجودها في ذاكرة التاريخ، واقل منها الرجال الذين يقف الفرد عاجزاً أمام إدراك أبعاد شخصيتهم ومكنوناتها، لارتباط الكثير منها بالوجود المقدس، وصعوبة الوقوف على قدم المساواة مع مستواهم الوجودي من اجل ان يستطع المرء التشخيص بدقة الصورة الكاملة لهذه الشخصيات. تلك الصعوبات التي تجد طريقها الى دراستنا هذه عن الشخصية الريادية للتعريف بها ولكننا سنبذل ما بوسعنا لتحقيق ذلك، على قاعدة ما لا يدرك كله لا يترك جله، والإشارة هنا لسماحة المظلوم الشهيد السعيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره).

لم يكن الإمام الحكيم من أولئك الرجال الذين يكتفون من دنياهم بالقليل، فلم يشأ في قرارة نفسه ان يكون رقماً بشرياً مهملاً، تمر عليه معادلات الزمن الصعب فتحيله الى رقم هامشي لا يكاد يذكر في حسابات الوجود وصنع الحياة، بل كان من أولئك الرجال الذين يصنعون الأمم ويديمون الحياة، والذين يسعون الى ان يصبحوا رقماً صعباً في معادلة الوجود، ومن هنا لا يحق لنا ان نتلمس الغرابة في آثار هذا الرجل السياسية أو الفكرية أو الجهادية او الاقتصادية التي نحن بصدد التعرض لها في بحثنا هذا الموسوم (آثار الإمام الحكيم في الاقتصاد الإسلامي)، وذلك لان سماحته كان موسوعة علمية ـ عملية بكل الاتجاهات والمعاني المجازية منها والحقيقية، ومن الطريف الإشارة الى ان من يطلع على التاريخ الجهادي للسيد الحكيم لا يستطيع ان يتصور ان أمور الجهاد والنضال ما أبقت للرجل من وقت أو جهد للتأليف والدرس، ولكن أثبتت آثاره الكثيرة المطبوعة منها وغير المطبوعة ان الله إذا أحب عبداً وسّع عليه في دنياه وسخر له كل شيء ليفيض على أبناء جلدته بما وهبه تعالى من العلم والعمل.

لقد بذلنا جهداً كبيراً في هذا البحث، من اجل عرض وإظهار جزء يسير من آثار الإمام الحكيم وتحديداً المجال الاقتصادي منها، والمعروف ان هذا المجال ولا سيما في الشريعة الإسلامية مجال صعب الولوج فيه والبحث في تفصيلاته الدقيقة والمتشعبة، وخصوصاً في ضوء النظريات العالمية الوضعية، التي أراد لها مؤلفوها ان تصبح بديلاً واساساً لاقتصاد عالمي قلما كتب فيه ونظر له العلماء والمؤلفون، الا ان السيد الحكيم كانت له في هذا المجال اليد الطولى، ولكن مما يؤسف له ان آراء سماحته جاءت متناثرة في بطون كتبه وأحاديثه وتسجيلاته الصوتية، ولم تجمع في مؤلف واحد يفهرس بحسب المواضيع وأهميتها، وان كانت هنالك محاولات مباركة لمؤسسة تراث الشهيد الحكيم بإصدارها كتابين هما: (دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي) وكتاب (نافذة على الإنفاق) اللذين اعتمدناهما مصدرين أساسيين لتحديد آراء سماحته في هذا المجال، وقد حاولنا ان نعرض تلك الآراء على بعض الكتب ذات الوزن العلمي الرصين في المجال الاقتصادي للوقوف على تباين الآراء بين السيد الحكيم وباقي فقهاء الدين، وكان في مقدمة الكتب جميعاً كتاب (اقتصادنا) للشهيد السعيد الصدر، وخصوصاً عند حديثنا عن الخطوط العشرة التي اقرها الشارع المقدس لخط سياسات الإنتاج بالنسبة للفرد، وكذلك عند حديثنا عن موضوع الملكية الخاصة والعامة، والى جانب ذلك اعتمدنا على سلسلة من مؤلفاته الأخرى، مثل كتاب (دور أهل البيت (عليهم السلام) في بناء الجماعة الصالحة) وكتاب (المجتمع الإنساني في القرآن الكريم).

ولتسهيل عملية تتبع المقاصد ارتأينا ان نقسم الدراسة على خمسة مباحث، مصدرة بمقدمة تناولنا فيها هدف البحث ونطاقه، ومقفاة بخاتمة ضمنّا فيها خلاصة البحث والاستنتاجات مع التوصيات، فضلاً عن قائمة المصادر والمراجع، وعرفنا في المبحث الأول (بنتاجات الإمام الحكيم الاقتصادية) وهي على قسمين، الأول خاص بالاقتصاد الإسلامي مثل كتاب (دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي)، والثاني عام تناول فيما تناول الاقتصاد الإسلامي مثل كتاب (المجتمع الإنساني في القران الكريم)، وبحثنا في الثاني (سمات منهج الإمام الحكيم في دراساته العلمية مع التركيز على دراساته الاقتصادية) وكان أهمها الموضوعية والحرية والنقد والتحليل والواقعية، وناقشنا في المبحث الثالث والأخير (الآراء الاقتصادية للإمام الحكيم) وتطرقنا فيه الى نظرة سماحته لغاية وهدف الاقتصاد الإسلامي، وأثر الفرد في الإنتاج والتنمية وفي التوزيع وتحقيق العدالة الاجتماعية، وأثر الفرد في التبادل التجاري، وغيرها من الموضوعات ذات العلاقة.

وقبل الختام يحتم علينا الوفاء والعرفان بالجميل ان نتقدم بوافر شكرنا وخالص تقديرنا الى اللجنة التحضيرية للمؤتمر التي وفرت لنا فرصة هذه الاسهامة المتواضعة، والى مؤسسة تراث الشهيد الحكيم التي أهدتنا مجموعة قيمة من مؤلفات السيد الحكيم، كما نسجل باعتزاز كبير جزيل شكرنا للمساعدة القيمة التي أبداها الأخ العزيز الدكتور محمد تقي جون الذي لم يبخل علينا بوقته وجهده في قراءة البحث وتقويمه لغوياً حرصاً على إخراجه بشكل يتناسب وحجم المحفل العلمي الذي نحن بصدده.

ختاماً لا ندعي اننا وفينا البحث حقه، لان ذلك ليس من الأمور اليسيرة، لعمق الفكر الإسلامي للإمام الحكيم من جهة، وصعوبة الإطلاع عليه بشكل واف لعدم وجوده في مصدر أو مصادر في متناول اليد من جهة ثانية، فضلاً عن ضيق الوقت، ولكن كما قيل قديماً ان على العبد الاجتهاد وعلى الله الأجر. ومن الله التوفيق كله.

المبحث الاول

التعريف بنتاجات الإمام الحكيم الاقتصادية

برز الإمام الحكيم مفكراً إسلامياً، خاض في مجالات إسلامية مختلفة، ومنها الاقتصاد الإسلامي، الذي ترك فيه مؤلفات عديدة، انقسمت على قسمين، قسم اختص بالاقتصاد الإسلامي وغايته استظهار بعض جوانبه مثل كتاب (دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي)، وقسم آخر تناول فيما تناول الاقتصاد الإسلامي، ولا سيما مؤلفاته التي قدم فيها آليات خلق مجتمع متوازن يضمن حقوق مواطنيه كافة ويكفل لهم المعيشة الهانئة، وكان من تلك الآليات الاقتصاد الإسلامي، فأشار الى بعض جوانبه ليكمل ما طرحه من فكرة، مثل كتاب (دور أهل البيت (عليهم السلام) في بناء الجماعة الصالحة). وسنعتمد في التعريف بنتاجات سماحته على المنهج الوصفي بعد تقسيمها على قسمين، هما:

أولاً: المؤلفات التي خصصت للاقتصاد الإسلامي:

1 ـ دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي: هذا الكتاب في الأصل مجموعة محاضرات للإمام الحكيم، عملت مؤسسة تراث الشهيد الحكيم على جمعها وتبويبها وفهرستها وإخراجها على شكل كتاب[1] يقع في أربع وثمانين ورقة. استندت فكرة البحث الى إشعار الفرد بمسؤوليته في الاقتصاد الإسلامي وأثره الكبير في تنمية موارد الأرض واستثمارها لصالح عامة المسلمين، بوصفه خليفة الله سبحانه وتعالى في الأرض[2]، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)[3] وتكمن أهمية هذه الدراسة التي قل من تناولها من الباحثين بشكل مستقل في بحوث الاقتصاد الإسلامي في تحديد أثر الفرد في النظرية الاقتصادية الإسلامية، وبالتالي معرفة الحدود العامة لعمل الدولة فيها، فضلاً عن تشخيص المسؤوليات التي يتحملها الفرد والدولة [4].

وتضمن هذا الكتاب الأطر العامة للنظرية الاقتصادية الإسلامية، التي تماشت مع فطرة الإنسان ورغباته ضمن الحدود الألهية، ومنها (حب المال والتملك ـ الحرية الاقتصادية والفطرة ـ التفاوت في القدرات ـ الانتفاع المحدود ـ الملكية والحقوق الخاصة)[5]، ثم انتقل الى معالجة الموضوع الرئيس وهو أثر الفرد في الاقتصاد الإسلامي، ووزع ذلك على ثلاثة محاور هي: (مسؤولية الفرد في الإنتاج والتنمية ـ مسؤولية الفرد في التوزيع وتحقيق العدالة الاجتماعية ـ مسؤولية الفرد في التبادل التجاري)[6] فضلاً عن مواضيع اخرى ذات علاقة بهذا الموضوع[7].

2 ـ نافذة على الإنفاق: وهذا الكتاب ايضاً في الأصل عدد من المحاضرات الصوتية للسيد الحكيم، تناول فيها جانباً اقتصادياً مهماً، جمعتها مؤسسة تراث الشهيد الحكيم وأخرجتها على هيئة كراس سنة 2005م، بلغ عدد صفحاته احدى وستين صفحة، وأشرف على إخراجه السيد حيدر مهدي الحكيم[8].

وتأتي أهمية هذا الكتاب بمعالجته لأحد الموضوعات الاقتصادية المهمة وهو (الإنفاق) وكيف يستطيع الفرد الإسلامي ان يحقق إنفاقاً متوازناً بين الإسراف والإقتار، إذ قدم سماحته آليات ذلك وفقاً للمفهوم الإسلامي[9]. وأشار الى وجود خطين رئيسين للسلوك العملي في الإنسان هما: العبادة والإنفاق[10]، وان الخط الأخير على نوعين هما (الواجب ـ المستحب)[11]، ولا يتم ذلك الا بشروط هي: (الإيمان ـ النية الصالحة ـ عدم المن والأذى ـ عدم الإملاق ـ التوازن)[12]. ويحقق الإنفاق آثاراً ايجابية على حياة الإنسان، لذلك حث عليه الإسلام، ومن تلك الآثار (الخير للإنسان ـ تهذيب أخلاقه تأمين سيولة نقدية ـ اعمار الأرض ـ تيسير الحياة الاجتماعية ـ كسب الآخرة)[13]، كما تضمن الكتاب مواضيع اخرى ذات علاقة[14].

ثانياً: المؤلفات التي تناولت فيما تناولت الاقتصاد الإسلامي:

1 ـ تفسير سورة الحديد: والكتاب في الأصل عبارة عن دروس كان يلقيها سماحة السيد الحكيم على جمع من فضلاء الحوزة العلمية، قامت مؤسسة الشهيد الحكيم بطبعها على شكل كتاب في صيف 2006 بعد فهرستها وتحقيقها، وقد كانت للشيخ محمد الحلفي والسيد محمود الحكيم جهود مباركة وأثر مهم في إخراج هذا النتاج العلمي الثر[15]، وهو كتاب في التفسير، إذ ان سماحته كان قد طرق باب التفسير للقران الكريم وفق منهجية حديثة، فقد امتاز بالتفسير الموضوعي الذي يقدم الرؤية الكاملة للحياة بمختلف أبعادها، كما قدم نماذج عليه، لا سيما في محوري السنن التاريخية وعناصر المجتمع[16]، وفضلاً عن هذا فقد وضع الشروط الواجب توافرها في شخص المفسر وهي (الذهنية الإسلامية ـ امتلاك رؤية في وحدة النص القرآني ـ العقيدة الصحيحة المستنبطة من القران الكريم)[17].

وقد تطرق الإمام الحكيم أثناء تفسيره لهذه السورة المباركة التي تعتبر من المسبحات، لأنها تبدأ بتسبيح الله سبحانه وتعالى، الى أهداف هذه الآية وغاياتها، ومنها الدعوة الى الإنفاق والقسط والعدل والتكافل الاجتماعي الذي يتحقق عن طريقين هما: (الإيمان بالله سبحانه وتعالى واليوم الآخر ـ إنفاق الأغنياء والمقتدرين)[18]. كما بين أسباب نزول السورة المباركة، والذي هو سبب اقتصادي، فقال: (نزلت بعد فتح مكة، حيث ألمحت السورة الشريفة الى قضية عدم المساواة بين الذين انفقوا قبل الفتح والذين انفقوا بعده، مما يدل على انها نزلت بعد فتح مكة، وفي هذه الفترة بدأ المسلمون يواجهون شيئاً من حياة الدعة والرخاء، الأمر الذي أدى الى ظهور ما يسمى بالخدر الحضاري)[19]. ولكون الإمام قد تميز كما سنبين في منهجه العلمي بواقعيته في البحث[20] فقد لذا وقع اختياره على هذه الآية المباركة ليربطها بمعاناة شعوب المسلمين، ويبين ما فيها من غايات سامية وأهداف وتجارب، ومنها التجربة الاقتصادية الإسلامية، التي أكدت على ضرورة عدم الاستسلام للخدر، وعليه ان يسعى في الدنيا استناداً الى قوله تعالى: (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)[21]. فجاء التفسير مشتملاً على جوانب اقتصادية كثيرة ومتنوعة منها: الإنفاق وشروطه وفوائده وضوابطه[22]، والمال وفوائده وكيفية استثماره بما يرضي الله سبحانه وتعالى ويحقق مجتمعاً متكافلاً[23]، كما فصل سماحته في فضائل الحديد وكيف ان فيه عزة للمسلمين من خلال استعماله في الصناعة التي هي من النشاطات الاقتصادية المهمة مثل أدوات القتال وغيرها من الأدوات التي يتزود منها الناس في مختلف قضاياهم ووسائلهم الحياتية[24] فضلاً عن مواضيع اخرى ذات علاقة بالاقتصاد الإسلامي[25].

2 ـ الحج تاريخه، أبعاده، أحكامه: ألفه الإمام الحكيم لإدراكه الأهمية البالغة والعظيمة لهذه الفريضة الدينية، وما تقدمه للمجتمع الإسلامي من فوائد جليلة، لان معرفة المسلمين البعد التاريخي لهذه الفريضة يوفر لهم أموراً مهمة، منها عودة المسلمين الى الله تعالى وعودة المسلمين الى الإسلام وإرجاع المسلمين الى شخصياتهم وغيرها من الفوائد[26]، ولم تكن هذه المحاولة الأولى لسماحته، وإنما تناول هذا الموضوع بأبحاث مستقلة، استطاع ان يكشف النقاب عن الكثير من أسرارها وأبعادها وفلسفتها وتاريخها وأهميتها وموقعها بالنسبة الى باقي الفرائض[27].

وتناول الإمام الحكيم ضمن ما تناول من موضوعات (الزكاة)، وهي المؤسسة الاقتصادية الإسلامية المسؤولة عن تحقيق التكافل في المجتمع الإسلامي، وذلك ان الحاج يزكي أمواله بالإنفاق والبذل، فقد ورد استحباب مؤكد كما ذكر سماحة السيد الحكيم من قبل الشارع المقدس لانفاق ثلث الأضحية على الفقراء والأصدقاء بعنوان التصدق والهدية[28]، وهذا الأمر بلا شك سيوفر فرصة للمحرومين والفقراء في تناول طعام ربما حرموا منه سنة كاملة وهو اللحم.

3 ـ دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة[29]: وهو سفر جليل خطه الإمام محمد باقر الحكيم لأجل إبراز معالم الأطروحة الرسالية لأهل بيت النبوة والعصمة في بناء مجتمع إنساني، من خلال الممارسات العملية وما ورد عنهم من أقوال ونصوص، ليتسنى من خلال ذلك توضيح الأسس المتينة لقيام كتلة إسلامية واحدة تحقق مبدأ الخيرية في قوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)[30].

ويقع هذا الكتاب في مجلدين كبيرين، تتجاوز عدد صفحاتهما الألف والسبعين (1070) صفحة، خصصه الإمام الحكيم لبيان طروحات أهل البيت (عليهم السلام) في الرسالة الإسلامية بأبعادها المتعددة العقائدية والاجتماعية، ذلك لكونهم امتداداً للنبوة في خط الإمامة وولاة الأمر الذين أوجب الله طاعتهم وولايتهم ومودتهم[31].

وحاول الإمام الحكيم فأجاد في ان يحقق تطويراً نوعياً في الأبحاث والدراسات حول أهل البيت، وبشكل يهتم اهتماماً خاصاً باكتشاف وتفسير جميع أبعاد أثر أهل البيت في الحياة الإسلامية من ناحية، والتركيز على جانب علاقة هذه الأبعاد بالنظرية الإسلامية من ناحية أخرى[32].

وقد قسم هذا الكتاب على سبعة أبواب، تضمن الباب الأول (الأهداف والخصائص) وتطرق الثاني الى (القواعد والأسس)، وتناول الباب الثالث (نظام الجماعة العام)، في حين خصص الباب الرابع الى (نظام امن الجماعة)، وتضمن الباب الخامس (النظام الاقتصادي)، وتطرق الباب السادس الى (نظام العلاقات الاجتماعية)، أما الباب السابع فخصص (للشعائر والعبادات)[33].

ولان الجماعة الصالحة لا يمكن ان تكون الا وفق اعتماد نظرية اقتصادية تضمن لجميع أفراد هذه الجماعة حياة معاشية هانئة، لذا تطرق السيد الحكيم في الباب الخامس من كتابه الى النظام الاقتصادي الإسلامي مع التركيز على روايات وسلوكيات أهل البيت (عليهم السلام) كونهم نطاق الدراسة وهدفها المنشود[34].

وتناول السيد الحكيم أهداف النظام الاقتصادي والمشكلة الاقتصادية في فكر أهل البيت[35] والتشريعات الاقتصادية العامة وهي: (الزكاة ـ الأراضي الموات ـ الأراضي الخراجية ـ الأوقاف العامة والخاصة) وأهمية هذه التشريعات وما يترتب عليها من تبعات مالية[36]. كما تطرق الى التشريعات الاقتصادية الخاصة في فكر أهل البيت (عليهم السلام) وهي (الخمس وأثره في إصلاح الأوضاع الاقتصادية للجماعة الصالحة واليات التكافل الاجتماعي)[37]، و درس أيضاً النشاط الاقتصادي بأوجهه المختلفة كالتجارة والصناعة والزراعة وضوابطه، وكيف يكون مفيداً للمجتمع[38].

4 ـ المجتمع الإنساني في القران الكريم: وهو كتاب كبير خصصه السيد الحكيم للبحث في المجتمع الإنساني في ضوء القران الكريم، وتأتي أهمية هذه الدراسة من كونها دراسة حية ما دام الإنسان حياً على وجه هذه الأرض، فبعد ان انتشرت في عالمنا المعاصر العديد من النظريات التي تناولت هذا الموضوع ومن مختلف الاتجاهات الفكرية، طرح سماحته التصور الإسلامي متمثلاً في النظرية القرانية للمجتمع الإنساني أمام النظريات والتفسيرات المادية الأخرى[39]. وقد قسم الكتاب الى مقدمة تناول فيها موضوع البحث وأهميته ومنهجه العلمي المتبع[40]، وخصص الباب الأول لمناقشة قضيتين رئيستين هما: معنى الخلافة ومبرراتها، ومسيرة هذه الخلافة من خلقها ووجودها وحتى قيامها على الأرض تحت عنوان (خلافة الإنسان)[41]، وتناول في الباب الثاني (المجتمع الإنساني ونشوؤه) العناصر الأساسية التي تكون منها المجتمع الإنساني والوحدة الفطرية التي كان يقوم عليها هذا المجتمع[42]، واستعرض في الباب الثالث الاختلاف في المجتمع البشري، وتأثير الهوى على عناصر الوحدة الفطرية، ومعالجة هذا الاختلاف بالشريعة والإمامة، والأسس التي يقوم عليها التفسير في المجتمع الإنساني، سواء الأسس البشرية ام الرسالية، وجاء تحت عنوان (اثر الهوى والدين في المجتمع)[43]، وخصص الباب الرابع ل ـ (النظرية القرانية في حركة التاريخ) لمناقشة أثر العقيدة الديني في تعديل المثل الأعلى للإنسان، وأثر ذلك في العلاقات الاجتماعية مع إجراء مقارنة بين ما طرحه الإسلام وما طرحته النظريات الأخرى في هذا الصدد[44]. وفي الباب الخامس الذي سماه (الدين والعلاقات الاجتماعية) بحث علاقة الدين بالعناصر الأساسية للمجتمع الإنساني من خلال (الدين وعلاقة الإنسان بالطبيعة ـ الدين وعلاقة الإنسان بالإنسان ـ الدين والعلاقات المتبادلة بين الإنسان والإنسان من ناحية والإنسان والطبيعة من ناحية اخرى)[45]، واستعرض في الباب السادس والأخير (الوحدة الدينية) وهو أوسع أبواب الكتاب، أسس الوحدة الالهية والحكم الإسلامي في هيكليته وأركانه، وأثر الحكم في المجتمع الإنساني، وخصائص الحكم الإسلامي، فضلاً عن النتائج والآثار التي حققتها الرسالة الإسلامية[46].

وتناول سماحته فيما تناول النظريات الاقتصادية مثل الماركسية وغيرها وناقشها واثبت ضعفها[47]، وتوزيع الثروة الطبيعية وآراء النظريات الاقتصادية في ذلك، ومقارنتها مع النظرية الاقتصادية الإسلامية[48]، فضلاً عن مواضيع اقتصادية اخرى، لان القران الكريم قدم انموذجاً ناضجاً لمجتمع يكفل حقوق رعاياه كافة في جوانب الحياة المختلفة ومنها الجانب الاقتصادي، الذي يقدم للإنسان ما يحتاجه من طعام وشراب وملبس، يستطيع من خلالها التقوي والاستمرار بمواصلة العبادة الله سبحانه وتعالى.

المبحث الثاني

سمات منهج الإمام الحكيم العلمي مع التركيز على دراساته الاقتصادية

تميز الإمام الحكيم باعتماده منهجاً علمياً قائماً على التحليل والنقد والمقارنة، ساعياً للوصول إلى الحقيقة واستنباط الأحكام والقوانين، يساعده في ذلك نبوغه الفطري وخبرته الواسعة، وهذا ما جعل مؤلفاته متميزة ومعروفة. ويمكن أن نلخص سمات المنهج العلمي للإمام الحكيم في دراساته الاقتصادية بالنحو الآتي:

أولاً ـ الحرية: كان الإمام الحكيم حراً في بحثه، يعالج مواضيعه التي يكتبها معالجة شخصية، لا ينقل فيها عن كتب غيره، ولا يعتمد آراءهم، الا إذا اقتنع بانها الحقيقة بعينها، فلم يكن مقلداً لآراء غيره ممن سبقوه في التأليف، وهذا واضح في مؤلفاته العلمية كافة، ومنها مؤلفاته في الاقتصاد الإسلامي، التي قدم من خلالها رسالة مفادها ان المجتمع الإسلامي لا يمكن ان يرتقي قمة المجد والاستقرار والتكافل الا باعتماد الاقتصاد الإسلامي، الذي يضمن حقوق الفرد والمجتمع والدولة وفق مبادئ ومعايير الهية موزونة.

ثانياً ـ الواقعية: انطلق الإمام الحكيم في معالجته للمواضيع العلمية من واقع المجتمع الذي يعيش فيه، فهو ابن عصره، يتأثر بما يرى ويكتب ما يشاهده، واصفاً العلاج الذي يراه مناسباً، فقد اهتم سماحته بعدة مسائل حدثت في عصره ونوقشت وأثيرت مناشئ هذه الأحداث، فطرحها في ضوء الفكر الإسلامي، ونبه المجتمع الإسلامي على خطرها مثل كتابه (رفض الطغيان)[49]، الذي حذر فيه من خطر الأنظمة الطاغية الدكتاتورية، وكذلك لما أثيرت قضية عجز مجاراة الدين الإسلامي لمتغيرات العصر، أنتج كتاب (الاصالة والمعاصرة)[50]، الذي قدم من خلاله رسالة مفادها: «ان الشريعة الإسلامية فيها جانب ثابت يستجيب للثبات في حاجات الإنسان الدنيوية والأخروية، وفي أسباب الكمالات الإلهية الموصلة إلى الله تعالى، وفيها جانب مرن يستجيب للظروف الاجتماعية والمادية في حياة الإنسان، ما لم يكن هذا التطور بسبب عوامل مضادة للشريعة وأهدافها»[51]. وفي جانب الدراسات الاقتصادية، فإننا نجد سماحته قد سار فيها على الطريقة الواقعية، فبحث مسائل التسعيرة والاحتكار والإنفاق وتدخل الدولة والحرية الاقتصادية حسب الإطار الشرعي الذي يجب ان يكون عليه، مستنداً في ذلك الى النصوص المقتبسة من مصادر التشريع الإسلامي والأدلة العقلية، مكثراً من روايات أهل البيت (عليهم السلام)، بعد ان يخضعها لميزان العقل، ويسلم علمياً بانها صحيحة[52].

ثالثاً ـ الاستقراء: كانت كتابات الإمام الحكيم ظاهرة جديدة في التأليف، جعلت منها وثائق مهمة لكل الباحثين ومرجعاً مهماً لهم، فانه إذا كتب بمسألة لم يتركها حتى يجلي عنها كل ما يحيطها من غموض، بأسلوب شيق ولغة مفهومة وعبارات قصيرة، وهذا ديدنه في مؤلفاته كافة دون استثناء، والتي تعد بحق الفكر الإسلامي الصحيح، وانه يتوجب على المسلمين كافة مراجعتها وفهم ما جاء فيها حتى يفهموا دينهم ويحققوا مجتمعاً متكاملاً للضعيف فيه مثلما للقوي.

رابعاً ـ احترامه لآراء غيره: كان الإمام الحكيم يحترم المذاهب الإسلامية والعلماء، ويؤكد في خطاباته وكتاباته على الوحدة من خلال الالتفات الى المشتركات وما أكثرها! فعلى الصعيد العلمي ألف كتباً في هذا الصدد مثل كتابه (الوحدة الإسلامية من منظور الثقلين)[53] وأشرف على مجلات علمية اختصت بهذا الأمر مثل (مجلة التقريب)[54]. وعلى الصعيد العملي انشأ سماحته (المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية)[55]، الا انه استثنى من هؤلاء العلماء من كان علمهم لغير الله، فقد جعل واجبه العلمي الشرعي بوصفه فقيهاً اسلامياً وباحثاً محترفاً تفنيد ما جاء به هؤلاء بالعقل والمنطق حتى لا يقلدهم ضعفاء العلم وجهلاء المسلمين وبالتالي تشوه صورة الإسلام معاذ الله.

وكان الإمام الحكيم لا يتردد في الاستشهاد بسير الخلفاء الراشدين ما دامت توافق الثقلين والعقل، مثل استشهاده بإجراء الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب (13 ـ 23 ﻫ) في جعل الأراضي الخراجية ملكاً عاماً للمسلمين، ومنها ارض العراق المعروفة ب ـ (السواد)[56].

وبلغ من أدب سماحته ان يذكر بكل تواضع ان هناك بحوثاً أو كتباً أوفى وأعمق من دراساته ويحيل القارئ إليها، مثله في ذلك مثل الشجرة المثمرة التي كلما حملت ثماراً أكثر كلما ازدادت تواضعاً، فعلى سبيل المثال في كتابه (دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي) يحيل القارئ الى كتاب (اقتصادنا) للشهيد محمد باقر الصدر، ويقول: «واعتقد ان أفضل كتاب إسلامي تناول النظرية الاقتصادية الإسلامية بمجموعها هو كتاب اقتصادنا لاستاذنا الشهيد الصدر، الذي اعتمدنا عليه في مراجعة هذه المفردات، ولكننا قد نختلف معه في بعض الاستنتاجات التي توصل إليها» [57]، ومن يتمعن في هذا النص تتوضح له صورة التواضع والاحترام لآراء غيره بشكل اكبر، فقد صدّر عبارته بكلمة (واعتقد)، لانه ربما لم يطلع على كتب إسلامية اخرى في هذا الصدد جديرة بالاهتمام فيبخسها ومؤلفيها حقها، وأثناء سياق الكلام يشير الى مصدره الرئيس الذي هو كتاب (اقتصادنا) بكل صراحة، ويقول بتواضع «ولكننا قد نختلف معه».

خامساً ـ التعليل والتفسير الديني: اعتمد الإمام الحكيم التفسير الديني للظواهر الاقتصادية التي يدرسها، ومرد ذلك الى كونه فقيهاً اسلامياً قبل ان يكون مؤرخاً وعالم اجتماع وسياسياً. فيرى مثلاً ان حالة التردي الاقتصادي في المجتمعات الإسلامية اليوم هي نتيجة التهاون في تنفيذ مبادئ الدين الإسلامي الصحيح، فلو كان هذا المجتمع متماسكاً اخوياً يحكمه الإسلام كما في قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً)[58] لتغير الوضع نحو الأفضل بلا أدنى شك[59].

سادساً ـ الإنصاف: ويتمثل هذا بتجرد سماحته من الهوى والتحرر من كل ميل وإعجابه أو كراهيته سواء أكان ذلك لمذهب سياسي أو ديني أو فلسفي…الخ، ومع انه كان عالماً إسلامياً فقيهاً امامياً مشهوراً بهذه الصفة الا انه تعامل بعقلانية مع الدين وليس بالعاطفة، وهذا ما انسحب على نظرته الى جميع الأمور، وانعكس على كتاباته دون ان يخضعها لعواطفه وميوله ورغباته، فهو يرى ان على الباحث العلمي ان لا يتخذ موقفاً معيناً مسبقاً تجاه النص الذي يتعامل معه، وان لا تحركه الدوافع النفسية أو المذهبية، وان لا يفرض ذاته على الموضوع الذي يتعامل معه ويأخذ ما يؤيد نظريته ويترك الأدلة الباقية؛ لان هذا يؤدي الى تضليل في فهم الدين وقلب للحقائق وتشويه للتراث[60].

وكان منصفاً في كتاباته، فلم يعتمد في إسناده على علماء طائفة واحدة، وان كان قد أكثر من ذكر علماء الشيعة، فنراه يورد الروايات المختلفة بحيادية وإنصاف، فهو يورد الأحاديث والروايات عن علماء الشيعة[61] وعلماء السنة[62]، وكانت هذه الروايات بمناشئها كافة تخضع للمقارنة مع ما جاء به كتاب الله وسنة نبيه وما يقبله العقل.

سابعاً ـ الأمانة العلمية: كان الإمام الحكيم أميناً في نقله للأحاديث النبوية وأقوال مشايخ الإسلام وفقهائه، يدل على ذلك مئات الأمثلة التي وردت في كتبه عامة ومنها الاقتصادية، التي اثبت محققوها صحة ما ذهبنا إليه. ويظهر انه حتى الوهم والالتباس اللذان يصيبان الباحثين في أحيان كثيرة نتيجة كثرة المادة المجموعة وصعوبة فرزها وتوظيفها كانا بعيدين كل البعد عن ذهنية سماحته. وكيف لا يكون كذلك وهو من صفوة الناس الذين اثروا الشهادة على التدليس أو التهاون بدينهم.

ثامناً ـ الموضوعية: كان الإمام الحكيم بعيداً عن الذاتية والتعصب والمكابرة، وقد أوصى بهذه الأمور مراراً وتكراراً واعتبرها من مضعفات البحوث العلمية[63]. وتميز أسلوبه بالجمع بين البساطة والتنوع، وان كان في بعض الأحيان يستعمل ألفاظاً قد تكون صعبة على متوسطي الثقافة، الا انه يعود فيشرح تلك الألفاظ بأسلوب بسيط كلما اقتضت الضرورة لذلك، وصعوبة هذه الألفاظ ليس المقصود منها جعل الكتاب صعب الفهم وإنما لطبيعة المادة المبحوثة التي في أغلبها أقوال للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحابته وأهل بيته المعصومين، وهي أقوال ذات لغة سليمة منبثقة من القران الكريم، فقد أورد الطبري (ت 525 ﻫ) في هذا الصدد ما نصه «أن حديثنا أهل البيت صعب مستعصب لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للأيمان»[64]، لذلك خصصت كتب كاملة لشروحات هذه الأقوال اللغوية والاصطلاحية[65]. كما أكد ان حكمة الله سبحانه وتعالى أعظم من أي حكمة بشرية، ومهما بلغت نظريات البشر فإنها لا تستطيع ان تصمد أمام النظريات الالهية التي جعلت كل شيء في هذا العالم يسير بنسق معين[66]، قال تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)[67].

تاسعاً ـ النقد والتحليل: تميز الإمام الحكيم بامتلاكه بصيرة وفكر ثاقب مكناه من تفهم أجواء الوقائع والتنبؤ بحدوثها، وتحديد مكامن القوة والضعف أينما وجدت، مما ساعده على وضع الأمور في نصابها الصحيح ومساراتها المناسبة، ويتبين ذلك من خلال تعليقه وشكه وتحليله لجميع النصوص التي أوردها، ولا يكتفي بهذا بل كان يقارن رواية بأخرى، ويستشهد بنص على نص آخر.

المبحث الثالث

الآراء الاقتصادية للإمام الحكيم

يظهر جلياً لمن يتتبع مسيرة السيد الحكيم العلمية والفكرية، ان سماحته كان قد ابتدأ تطلعاته الفكرية ذات الطابع الاقتصادي منذ وقت مبكر، ويمكن تلمس ذلك بوضوح من خلال إسهامه في تنظير مسودات النتاجات الفكرية للسيد الإمام الصدر الأول، ومناقشه للكثير من الآراء التي وردت فيها، ولاسيما في السفر الخالد كتاب (اقتصادنا)، وعلى ما يظهر فإن جهوده في هذا المجال قد تركت أثراً واضحاً في نفس السيد الصدر مما حدا به إلى وصف الإمام الحكيم في مقدمة كتابه عندما اعتذر لجمهور قرائه قائلا «وكنت أرجو إن يكون لقاؤنا اقرب مما كان ولكن ظروفاً قاهرة اضطرت إلى شيء من التأخير، بالرغم من الجهود التي بذلتها بالتضامن مع عضدي المفدى العلامة الجليل السيد محمد باقر الحكيم في سبيل انجاز هذه الدراسة ووضعها بين أيديكم بأقرب وقت ممكن»[68] ويزداد الإعجاب حينما نشير إلى إن عمر السيد الحكيم في ذلك الوقت لم يتجاوز الخامسة عشرة أو السادسة عشرة على ابعد تقدير، وفي ذلك دليل قوي على نبوغ واتقاد ذكاء ربما تجاوز في كثير من الأحيان الحد المتعارف عليه، ولا غرابة في ذلك إذا انعمنا النظر في الأصول العلمية لسماحته التي تنحدر من أسرة علمية زقت العلم زقا، كان ابرز كواكبها في سماء العلم سماحة المرجع الكبير زعيم الطائفة السيد محسن الحكيم (رضي الله عنه).

أسهمت عوامل عدة في تشكيل الرؤية الفكرية الاقتصادية لدى السيد الحكيم كان في مقدمتها ما قرأه من كتب في الأصول والتشريع، ولاسيما ما كان منها ذا علاقة بالتشريعات الاقتصادية الإسلامية، وفي مقدمتها جميعا كتاب (اقتصادنا) الذي ـ على ما يظهر ـ قد اخذ شيئاً كبيراً من فكر السيد الحكيم، لما ورد فيه من آراء وجد فيها السيد الحكيم تشكيلا نظرياً تعدى أقرانه، الأمر الذي دفعه إلى كيل المدح والثناء عليه قائلاً: «واعتقد إن أفضل كتاب إسلامي تناول النظرية الاقتصادية الإسلامية هو كتاب اقتصادنا لأستاذنا الشهيد الصدر الذي اعتمدنا عليه في مراجعة هذه المفردات ولكننا قد نختلف معه في بعض الاستنتاجات التي توصل إليها»[69] وسنتطرق تباعاً الى الآراء والأفكار الاقتصادية للسيد الحكيم، وكما يأتي:

أولاً ـ أهداف وأبعاد النظام الاقتصادي الإسلامي:

يرى الإمام الحكيم انطلاقاً من إدراكه لفلسفة الفكر الإسلامي، ان الغايات الأساسية والأهداف السامية للنظام الاقتصادي الإسلامي تتجلى بـ:

1 ـ تحقيق الرفاه الاقتصادي والاستقرار الداخلي في العلاقات الاجتماعية والإنسانية وإيجاد الأرضية الحيوية للتكامل الروحي، حيث يتوقف ذلك الى حد كبير على معالجة مشكلة الفقر والحاجة والتمايز الاجتماعي الفاحش في المستوى المعاشي، ولا يمكن معالجة هذه المشكلات وإيجاد هذا الاستقرار إلا من خلال النظام الاقتصادي والمالي.

2 ـ استقلال الجماعة وقدرتها على التحرك بحرية واختيار القرار المناسب، حيث يعتمد اعتماداً رئيساً على استقلالها الاقتصادي وامكاناتها المالية.

3 ـ بناء المؤسسات الاجتماعية والثقافية والخدمية العامة وتيسير الحياة الاجتماعية للجماعة بوصفه كياناً سياسياً واجتماعياً، وكذلك القيام بالنشاطات الثقافية والاجتماعية والجهادية لأجل الدفاع عن كيان الجماعة وتحقيق أهدافها، لانه لا يمكن أن يتم كل ذلك إلا من خلال هذا النظام الاقتصادي والمالي[70].

ثانياً ـ منطلقات النظرية الاقتصادية الإسلامية عند الإمام الحكيم:

1 ـ حب المال والتملك: بوصفهما نزعة فطرية لدى الإنسان، وكان الإسلام حريصاً على أن يحرر هذه النزعة ولكن ضمن إطار أخلاقي اقتصادي متكامل، واستعمالها من خلال المعادلة الأخروية التي جسدها قوله تعالى: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)[71].

2 ـ الحرية الاقتصادية والفطرة: ويراد منها الحرية في المجال الاجتماعي ذات المضمون الواقعي، فأن هذه الحرية تمثل انعكاساً طبيعياً للفطرة الإنسانية، وتعبر عن حريته الطبيعية[72].

3 ـ التفاوت في القدرات: لقد اقر القران الكريم هذا التفاوت في القدرات العقلية والذهنية لإفراد بني البشر كونه واقعاً انسانياً ضروريا إذا ما أريد للنمو الاقتصادي أن يأخذ طريقه في الحياة الاجتماعية، قال تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)[73].

4 ـ الانتفاع المحدود: تحديد السيطرة على الانتفاع ضمن الطيبات من الرزق والاستثمار النافع بعيداً عن استغلال الاستثمار لجمع المال الحرام.

5 ـ الملكية والحقوق الخاصة: وقد أكدها الإسلام انسجاماً مع الفطرة الإنسانية والحرية الاقتصادية، وقد أباحها الإسلام من دون قيد من الناحية الكمية، وإنما اتجه إلى تحديدها من الناحية الكيفية تحديداً يرتبط بمصادر الثروة[74].

ثالثاً ـ مكونات النظرية الاقتصادية الإسلامية:

تتكون النظرية الاقتصادية الإسلامية في فكر السيد الحكيم من ثلاثة عناصر هي: (الفرد ـ الدولة ـ مصادر الإنتاج): وسوف نحاول الوقوف على أثر كل مكون منها وأهميته في تنظيم العملية الاقتصادية:

1 ـ الفرد:

يرى السيد الحكيم أن الإسلام ركز العملية الاقتصادية في جزء كبير منها على الفرد باعتباره المنتج والموزع والمستهلك، وهو فوق كل ذلك محور الوجود الكوني في الكثير من إبعاده، لذلك فقد منحه الشرع الإسلامي مكانة كبيرة ومحورية تؤثر في الإخلال أو إعادة التوازن لهذا الطرف أو ذاك من العملية الاقتصادية، ويشير إلى إن تلك المكانة قد جاءت ضمن مجموعة من الإطارات والمؤشرات العامة الفطرية والأخلاقية المرتبطة بالأهداف الأساسية لوجود الإنسان[75].

ومما تجدر الإشارة إليه ان سماحته يرى ان ارتباط أثر الإنسان بالعملية الاقتصادية سواء كانت أنتاجاً أو توزيعاً أو استهلاكاً إنما هو أثر فطري أوجبته الطبيعة مع وجود الإنسان ذاته، ومن هنا فان سماحته يرى ان مشاركة الفرد في العملية الاقتصادية تأتي على ثلاثة آثار هي:

أ ـ اثر الفرد في الإنتاج والتنمية

ب ـ أثر الفرد في التوزيع وتحقيق العدالة

ج ـ أثر الفرد في التبادل التجاري[76].

ولغرض أن نتعرف على طبيعة أثر الفرد في النظرية الاقتصادية من وجهة نظر السيد الحكيم فإننا سوف نتعرض إلى مستويات مشاركة الفرد في تلك العملية.

أ ـ أثر الفرد في الإنتاج والتنمية:

انطلق السيد الحكيم في رؤيته لأهمية أثر الإنسان في هذا الجزء من العملية الاقتصادية من أساس أن كل ما في الكون قد وجد لخدمة الإنسان بعد أن سخره الله تعالى لذلك ومن ضمنه الثروات الطبيعة، والتي يقسمها الشارع المقدس الإسلامي على قسمين أساسيين، هما ما كان فوق الأرض كالغابات والمناطق الزراعية وهي من الحياة، وما هو من الموات وهي الموارد والثروات الموجودة في باطن الأرض كالمعادن والغازات وغيرها[77].

وهنا يقف السيد الحكيم طويلا ليتأمل نوعية الملكية المفترضة لهذين النوعين من الثروات ويحاول جاهداً إن يشخص نوع الملكية التي تسمح للفرد باستثمار هذه الثروات بنوع من الحيوية والاستقرار بما لا يخل بعملية التوازن الاقتصادي للمجتمع الإسلامي، ويعتقد ان ملكية هذه الثروات على نوعين وفق التقسيم الإسلامي، فإما إن تكون ملكية عامة كما في الأنفال[78] أو هي من المباحات العامة كالمياه والأسماك والطيور والصخور وغيرها، مما يعني أن هذا النوع من الثروات تنتزع منه الصفة الثانية من الملكية وهي الملكية الخاصة[79].

ويستند السيد الحكيم في رأيه الفقهي ذلك الى أساس هو إن الله تعالى خلق للإنسان كل شيء وأذن له باستثماره لقوله تعالى: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ)[80]. أو أن تنطبق عليه صفة الملكية الخاصة وبالذات في الأرض وفي بعض مراحل الإنتاج من خلال سماح الشارع المقدس للفرد بحق ملكية الأرض، وعلى ما يظهر فان السيد الحكيم يتبنى الرأي القائل أن الحق يثبت للإنسان في الأرض التي يحييها وليس لمجرد امتلاكها ملكية خاصة مطلقة، وان كان من الجائز في نظره أن يثبت ذلك الحق في ملكية الأرض للفرد إذا ثبتت الملكية الخاصة للأرض في بعض مراحل ما بعد إحيائها[81]، فقد ورد عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): «أيما قوم احيوا شيئاً من الأرض وحرروها فهم أحق بها وهي لهم»[82]. ويخالف بهذا السيد الحكيم رأي السيد الشهيد الصدر القائل أن الأرض بشكل مطلق لا تتصف بالملكية الخاصة في جميع أدوارها وإنما يثبت للفرد الحق في الأرض فقط[83].

وبعد أن يثبت السيد الحكيم بأن للإنسان الحق في الملكية، فهو يضعه في أثر المحور وصاحب المسؤولية في إدارة الأرض وإنتاجها، وان ملكية الأرض في ضوء الإسلام على ما يرى بعض الفقهاء هي ملكية عامة تعود في أصلها إلى ولي الأمر (الإمام) وما الملكيات الأخرى إلا ملكيات استثنائية طارئة على الأرض بعد أحيائها[84]، يدل على ذلك رواية الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال: «الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب أو قوم صالحوا أو أعطوا بأيديهم وكل ارض خربة وبطون الأودية فهو لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء»[85].

ومما تقدم نرى ان السيد الحكيم يؤمن بان الدين الإسلامي أو النظرية الاقتصادية للملكية (أجمالا) ترى ملكية ما قبل الإنتاج ملكية عامة وملكية ما بعد الإنتاج ملكية خاصة[86]،كما يرى انه لغرض إحداث حالة من التوازن الاقتصادي في المجتمع فأن النظرية الإسلامية وان لم تحدد كمية الممتلكات إلا أنها حددتها من حيث النوعية، وذلك من خلال وضع عدد من المحددات الأخلاقية والفقهية أمام جمع الثروات ومصادر جمع تلك الثروات[87]. والمشهور في الإسلام ان التملك عموما قد يأتي بطرق عدة منها على سبيل المثال بواسطة الحيازة والاستيلاء على مختلف موارد الطبيعة إلا أن الضابط الأساسي في الملكية وخصوصاً بحسب هذا النوع هو العمل الإنتاجي[88].

ويركز السيد الحكيم على تعميق أثر الفرد في النظرية الاقتصادية الإسلامية من خلال تأكيد أثره في الإنتاج والتنمية ورسم السياسات الإنتاجية، ويضع هذا الأثر في عشرة خطوط من أصل عشرين خطاً تمثلها العملية الاقتصادية كما نظر إليها الإمام الصدر[89] ومنها:

1 ـ انتزاع الأرض من الفرد في حالة عدم استثمارها.

2 ـ حرمة الاكتساب من دون عمل منفق كاستثمار الفرد للأرض باجرة كبيرة بعد أن استأجرها باجرة قليلة.

3 ـ تحريم الفائدة الربوية.

4 ـ الامتناع عن اكتناز الذهب والفضة؛ وذلك من خلال فرض ضريبة تستنفذ المال تدريجياً.

5 ـ تحريم اللهو المرتبط بإضعاف الإنسان من جهة الإنتاج.

6 ـ التقليل من عمل التجارات غير المربحة.

7 ـ منح ملكية الأفراد لأقاربهم بعد الموت، لما له من أثر ايجابي في استمرارية عمل الإنتاج.

8 ـ وضع قوانين الضمان التي يتحمل الفرد مسؤوليتها.

9 ـ منع القادرين على العمل من الاستفادة من قوانين الضمانة.

10 ـ وجوب تعلم جميع أنواع الفنون والصناعات (كفاية) على الأفراد لإثراء عملية الإنتاج[90].

وفي ضوء المحددات أو الخطوط العشرة التي حددها الشارع المقدس للفرد، فأن على الفرد أن يرسم سياسة الإنتاج من جهة، وان يأخذ مجاله في تحقيق هدف الإنتاج من خلال التركيز على أثر الفرد في حل المشكلة الاقتصادية من جهة ثانية، فالسيد الحكيم يرى ان الفرد هو السبب الرئيس في المشكلة الاقتصادية، وليس الفقر الذاتي للطبيعة كما تدعيه النظرية الرأسمالية[91]، مستنداً في ذلك الى قوله تعالى: (اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)[92].

ويؤمن السيد الحكيم بان النظرية الاقتصادية الإسلامية نظرية مرنة تتقاطع مع اشهر نظريات العالم (الوضعية)، والتي تفترض أن الإنسان إذا تكاثر بشكل طبيعي وبدون قيود وتحديد للنسل فان العالم سوف يواجه مجاعة عامة؛ لان الأرض ليس فيها من البركات والخيرات ما يساوي أعداد هؤلاء الناس، ويعتمد على بطلان هذه النظرية انطلاقا من قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)[93] ولذلك فالفقر والمجاعة وعدم القدرة على مواجهتها في رأي سماحته هو بسبب ألامساك وعدم الإنفاق[94]، مستنداً في رأيه هذا الى القران الكريم الذي ذكر هذه الحقيقة، بقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[95].

وانطلاقاً من إيمان السيد الحكيم بان سبب التردي الاقتصادي في المجتمع هو ألامساك وعدم الإنفاق، نراه يولي عملية الإنفاق في أفكاره وكتبه وأحاديثه عناية كبيرة، إذ يعتبره العامل الأساسي في بناء مجتمع متوازن اقتصاديا وخلقيا وطبقيا[96]، وسوف نحاول إن نتعرف على معنى الإنفاق وأهميته في أفكار سماحته لإرساء مجتمع خلاق تختفي فيه أو تكاد كل الفروق الاجتماعية والاقتصادية والطبقية.

ب ـ أثر الفرد في التوزيع وتحقيق العدالة الاجتماعية.

يؤمن السيد الحكيم إيماناً مطلقا بان الإنسان هو سبب المشكلة الاقتصادية التي ترتب عليها التمايز الطبقي والاجتماعي، فللإنسان يد مباشرة بطريقة أو أخرى في إحداث أو الإبقاء على الخلل في التوازن الذي يعاني منه النظام الاجتماعي والاقتصادي على حد سواء من خلال محاولاته السيطرة على كل شيء لنفسه دون إنفاق شيء منه، لاسيما وان الإنفاق هنا يسهم في إعادة السيولة النقدية التي تؤثر تأثيراً مباشراً في إدارة المجتمع، ولعل قوة التأثير تلك هي الأساس في تحريم كنز الذهب والفضة التي كانت العملة الأساسية المتداولة وقت نزول القران[97]. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)[98] وللإنفاق عند سماحته شروط ومحددات فهو لا يعني الإسراف أو التبذير بل هو مصداق قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً)[99] أي الإنفاق المتوازن الذي عبر عنه القرآن الكريم بالقوام[100].

ويرى السيد الحكيم أن الإنفاق على نوعين، هما الواجب والمستحب، ويشمل الأول فريضة الزكاة التي فرضت على أموال معينة ومشخصة، وفريضة الخمس التي وضعت على كل غنيمة[101] وفي دفع الأموال للجهاد[102] إذا كان المسلم متمكناً[103]. والنوع الثاني هو الإنفاق المستحب، ومنه الزكاة المستحبة وهي كل عطاء يقدمه الإنسان بشكل استحبابي ومندوب، وقد ذكر القران الكريم في بعض موارده صوراً أخرى من الإنفاق المستحب كقول الكلمة الطيبة والحسنة[104].

وللإنفاق ميزان لدى السيد الحكيم، هو الجهد، فعلى مقدار الجهد الذي بذله الإنسان لاستحصال تلك الأموال وإنفاقها يثاب الفرد عند الله تعالى[105]، إلى جانب مسالة إخلاص النية لوجه الله تعالى وهي من أكثر الموازين التي تدخل في أعمال وعبادات الشريعة الإسلامية، كما إن للإنفاق في نظر سماحته شروطا لابد من توافرها حتى يصح الإنفاق منها[106]:

1 ـ الإيمان: يشترط في المنفق أن يكون مؤمنا، فلا يتقبل الله من المنافق أو الكافر مهما كان مقدار إنفاقه استنادا إلى قوله تعالى: (قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ)[107] وقوله تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ)[108].

2 ـ النية الصالحة: لا يصح الإنفاق إلا بتوافر هذا الشرط الذي يبتغي فيه المنفق وجه الله تعالى، لا وجه الناس، استناداً إلى قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً)[109].

3 ـ عدم المن والأذى: وفيه أن لا يؤذي المنفق الفقير والمحتاج بالكلام والتصرف الذي قد يترك في نفسه أثرا كبيراً أو إشعار المنفق للآخرين بأنه ذو فضل عليهم فذلك يحبط ثواب الإنفاق لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى)[110].

4 ـ عدم الإملاق: على المنفق أن لا يعرض نفسه إلى موضع التهلكة والفقر تحت مسمى الإنفاق وذلك لقوله تعالى: (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[111].

ويعارض السيد الحكيم في تصوراته حول الإنفاق وتأثيره في المشكلة الاجتماعية والاقتصادية بعض النظريات الوضعية التي حاولت أن تجد تفسيراً آخر لعملية التباين الطبقي والتفاوت الاقتصادي والتوزيع غير العادل للثروات الموجودة في العالم ومنها النظرية الماركسية، فقد انتقد سماحته محاولتها اختصار الخلل الاقتصادي بالصراع الطبقي بين طبقة الملاك وغير الملاك (العاملين)، وفي هذا الصدد يشير إلى إن النظرية الماركسية وقعت في عدة أخطاء لدى معالجتها للموضوع منها:

1 ـ إن النظرية في الأصل كانت محدودة الأفق، وعكست نظرة كارل ماركس من خلال المجتمع الأوربي الذي كان يعيش فيه وقتذاك.

2 ـ أنها لم تصب كبد الحقيقة في تحليلها لحقيقة الصراع الطبقي، ولم تتوصل إلى السبب ألأساسي فيه، ولهذا أخطأت في النتائج والتنبؤات التي بنتها على ذلك التحليل، والتي حددت من خلاله حركة الصراع ومسيرته باتجاه التغير الاجتماعي المفترض[112].

فقد توقع ماركس عدة أمور وظواهر تتعلق بعملية التغيير في المجتمع الأوربي نفسه ولكن لم ينطبق أي منها على الواقع حينما توقع إن عملية التغير المرتقب سوف تحصل في أكثر المجتمعات الأوربية تطوراً ومنها الدول الرأسمالية كألمانيا وإنكلترا وفرنسا إلا إن هذا لم يتحقق منه شيء[113]، كما توقع أن يزداد خوف أصحاب رؤوس الأموال من زيادة استياء الطبقة العاملة التي سوف تنقض عليهم في نهاية الأمر إلا إن ذلك لم يحدث أيضا لان العمال ورؤساء الأموال يعيشون جنبا إلى جنب في أوربا[114].

كما وجه السيد الحكيم انتقادات مماثلة إلى النظرية الرأسمالية التي رأت إن المشكلة الاجتماعية الموجودة في العالم التي تسببت بالخلل الاقتصادي الذي ولد صراعاً طبقياً إنما أساسه عامل الاستبداد (الحرية)، إذ ادعت بان المجتمع الذي تسود فيه الحرية يكون قادراً على حل الصراع والمشكلة الاقتصادية؛ لان الإنسان حينها يستطيع أن يحقق أهدافه وان يعيش في استقلال واستقرار[115]، ويرى سماحته إن هذا الكلام لا يتمتع بدرجة عالية من المنطقية لأنه انطلق من منظور ضيق متمثل بأزمة الحرية التي عاشها المجتمع الأوربي في العصور الوسطى، وان هذه الحرية تحولت في الكثير من الأحيان في المجتمع الأوربي إلى درجة من الاستغلال والعبودية للأخر[116].

 ج ـ أثر الفرد في التبادل التجاري:

منح الإسلام عملية التبادل التجاري أهمية استثنائية في سياق النظام الاقتصادي وجعل الأهمية الكبرى في أثر الفرد في عملية التبادل التجاري وحثه عليه، ولذلك ورد في الروايات إن الرزق على عشرة أجزاء تسعة منها في التجارة، فعن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السلام) انه قال: «اتجروا بارك الله لكم فأني سمعت سول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: الرزق عشرة أجزاء تسعة أجزاء في التجارة وواحد في غيرها»[117].

ويرى السيد الحكيم (بناء على مجموعة الأحكام الفقهية المرتبطة بالتجارة) أن الفرد هو الذي يتحمل المسؤولية الكاملة في العملية التبادلية خصوصاُ في أحكام القبض وشروط التعاقد وغيرها مما يبدو فيها العنصر الفردي الإنساني واضحاً[118].

2 ـ الدولة (حكومة الإمام)

على الرغم من الأثر الكبير والحرية الواسعة التي منحها الإسلام والشارع المقدس للفرد في ممارسة الأنشطة التجارية باعتباره جزءاً من النظام الاقتصادي ومحورا أساسيا من محاوره إلا إن الإسلام وضع الدولة متمثلة (بالإمام العادل) ضامناً قرينا يضمن عدم استغلال الأفراد لقدراتهم على حساب المجتمع ككل، لذلك ربط الإسلام الكثير من النشاطات الاقتصادية بالدولة ومنحها سلطات واسعة للتدخل في بعض الأحيان للحد من النشاطات الخاطئة للأفراد التي قد تؤثر سلباً على باقي أفراد المجتمع، وعلى الرغم من تلك السلطات الواسعة إلا انه من خلال الممارسة الخارجية لم يعرف في التاريخ الإسلامي إن الدولة مارست الأعمال التجارية والمعاملات التبادلية[119].

ومن الجدير بالقول انه يبدو للوهلة الأولى وكأن النظام الاقتصادي الإسلامي قد أعطى للدولة وولي الأمر صلاحيات واسعة جدا في إدارة الشؤون العامة للأمة ولم يعتبر الحكومة مجرد انعكاس للواقع الموضوعي أو العلاقات القائمة بين المسلمين أو مجرد وكيل عن الأمة في إدارة شؤونها وإنما لها عمل الرقابة والإشراف وتحقيق العدالة الإلهية وخصوصا في الجانب الاقتصادي، حيث أعطيت إمكانات وصلاحيات واسعة سواء في الإشراف على مصادر الإنتاج مثل ملكية الأرض والمعادن وغيرها من الموارد الطبيعية الأساسية أو الثروة المنتجة أو في الولاية حيث يحق لها التدخل لمعالجة الحالات المختلفة في جميع المراحل الاقتصادية ومنها تحقيق عدالة التوزيع والتوازن الاجتماعي[120].

إلا ان السيد الحكيم يرفض أن يكون النظر لتلك الصلاحيات من وجهة نظر واحدة أو ضيقة مما سوف يؤخذ على النظرية الإسلامية وكأنها قد منحت الدولة الهيمنة على الاقتصاد في جميع المراحل؛ لأنها في حقيقة الأمر تمثل الحامي للمجتمع من خلال الإشراف على عملية التوازن الاقتصادي التي من المفترض أن تسود المجتمع ليس إلا[121].

3 ـ مصادر الإنتاج

اشرنا سابقا إلى إن الثروات ومواد الإنتاج في النظرية الإسلامية تنقسم على قسمين: هما الثروات التي فوق الأرض كالغابات والمناطق الزراعية وهي من الحياة، ومنها التي من الموات وهي الموارد والثروات الموجودة في باطن الأرض كالمعادن والغازات وغيرها.

وقد جرى الكلام في امتلاك هذه الموارد واستثمارها، فالإسلام في الأصل أعطى اذناً عاماً بإحياء الأرض ومواردها والحيازة للثروات الطبيعية دون تحديد الكم، وقد جاء هذا الإذن العام مع التأكيد على الملكية العامة للأرض بالأصل وان إحياءها يؤدي إلى ثبوت الحق فيها على اختلاف الفقهاء في ذلك[122]، ويرى السيد الحكيم إن منح هذا الإذن العام قد يفسر في بعض مراحله على أساس انه سياسة مرحلية اقتضتها المصلحة الإسلامية في عصر صدور الإذن، أو قد تكون خلفية هذه السياسة عدم وجود القدرة لدى الدولة على الاستثمار العام للأرض وما فيها أو عليها من موارد[123]. إلا إن سماحته ذهب في رأيه الى أبعد من ذلك حين اعتبر هذا الإذن سياسة ثابتة للإسلام تجاه الأرض والثروات الطبيعية والموارد الإنتاجية الأخرى ويؤكد ذلك من خلال الاستشهاد باستمرارية هذا الإذن والعمل به في العصور المختلفة للدولة العربية الإسلامية، وانتظار صاحب الأرض الذي ترك استثمارها خمس سنوات حتى تؤخذ منه مرة أخرى وتعطى لغيره يؤكد هذا الاتجاه في الإذن[124]. ويعتقد انه إذا كان هذا الإذن سياسة ثابتة تجاه الأرض والثروات الطبيعة فيمكن أن يكون احد المؤشرات المهمة على ان أثر القطاع الخاص في ملكية الأرض ما بعد الإنتاج أثر أساسي، وكذلك في العمليات الأخرى المترتبة على هذه الملكية من الاستثمار والتنمية والتبادل التجاري[125].

كما إن الإسلام حث على العمل المنتج والنشاط الاقتصادي بشكل عام مما يعني ترك الباب مفتوحا بشكل واسع أمام القطاع الخاص لممارسة النشاط الاقتصادي في أثر الإنتاج، والتحديد الوحيد الذي وضعه المشرع في هذا المجال هو الحدود الكيفية لنوع العمل وطريقة الاستثمار[126]، وفي هذا المجال يسجل السيد الحكيم بعض المؤشرات التي تذهب إلى أن الدولة العربية الإسلامية على الرغم من كونها صاحبة الملكية العامة إلا أنه لم تسجل في التاريخ نشاطا تجاريا عاما قامت به، بل ربما العكس هو الصحيح تماما ومن تلك المؤشرات:

1 ـ تقسيمها الأراضي المملوكة على عامة للمسلمين من اجل استثمارها في الزراعة أو الإجارة ولم تقم الدولة باستثمارها بشكل مباشر.

2 ـ عندما كان بعض الخلفاء ورجالات الدولة يقومون بإحياء الأراضي بشكل مباشر ويريدون لها أن تبقى ذات منفعة عامة كانوا يحولونها إلى أوقاف عامة، كما حدث في زمن الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وبعض حكام بني امية وبني العباس، ومعنى ذلك أنهم يعتبرون عملية إحياء الأرض عملية فردية وخاصة وألا فكان من الممكن أن تبقى ذات منفعة عامة[127].

3 ـ وحتى في حالة إقامة بعض المشاريع العامة لإحياء الأرض كمشاريع الري لم تكن الدولة تحتفظ بالأرض بل كانت تقسمها على الأفراد.

ومن خلال ذلك يرى السيد الحكيم ان الشارع المقدس قد تبنى فكرة دعم ورعاية القطاع الخاص في الإنتاج، وجعل أثر الدولة مقصورا على رسم السياسة الإنتاجية والإشراف على الالتزام بها[128]. ومع إن سماحته أكد على أثر الفرد في الإنتاج وحل المشكلة الاقتصادية عن طريق الإنتاج وإعادة التوزيع العادل، إلا انه يرى ان السماح للأفراد بامتلاك وسائل الإنتاج قد يقتصر على المشاريع الصغيرة فقط، ذلك أن الثروات الكبيرة تتصف وكما أسلفنا بالملكية العامة أو الإباحة، ومع إن الإسلام قد أباح للإنسان الاستثمار إلى ابعد الامكانات إلا إن الفرد سوف يواجه مشكلتين عند استثماره في المشاريع الكبيرة احدهما قانونية والأخرى اجتماعية[129].

الأولى: إن إحياء هذه الأرض واستثمار مواردها يكون بالحيازة المباشرة و الاحياء ولا يمكن للأحياء أو الحيازة المباشرة أن تقوم بالمشاريع الكبرى لأنها مهما كانت واسعة واستخدمت فيها أجهزة حديثة تبقى محدودة في إنتاجها[130]. إما الثانية فهي اجتماعية، إذ إن قيام الأفراد بالمشاريع الكبرى قد يؤدي إلى اختلال التوازن الاجتماعي وبالتالي فلابد لولي الأمر من التدخل لمنع حدوث ذلك[131].

وقد وضع السيد الحكيم الحلول العملية المناسبة لهذه المشاكل عن طريق إتباع الآراء الفقهية فيما يخص المشكلة الأولى ويمكن استحصال الحيازة بواسطة الإجارة أو الوكالة، أما الثانية فيمكن حلها بإتباع نظام الشركات المساهمة على أساس عقد المضاربة، ويمكن للمصرف الإسلامي ان يضطلع بعمل كبير في ذلك[132].

الخاتمة

خلاصة البحث وأهم الاستنتاجات مع التوصيات والمقترحات

أولا ـ الخلاصة واهم الاستنتاجات:

قال تعالى: (خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)[133]. لا بد لنا ونحن نخط خاتمة البحث (آثار الإمام الحكيم في الاقتصاد الإسلامي)، من أن نقدم بنقاط عدداً من الأمور المهمة، التي تشكل بإطارها العام ملامح الرؤية الاقتصادية الإسلامية، ومنها:

1 ـ كان الإمام الحكيم عالماً موسوعياً على طراز جهابذة علماء المسلمين الأوائل الذين ذاع في الآفاق صيتهم، وتركوا أثراً واضحاً في مجالات العلم كافة، يدل على ذلك كثرة مؤلفاته وتنوع موضوعاتها.

2 ـ نبع فكر السيد الحكيم من فكر أهل البيت (عليهم السلام) إذ كانت رواياتهم وسننهم (عليهم السلام) من أهم المصادر العلمية لسماحته.

3 ـ تميز الإمام الحكيم بمنهج علمي استند الى النقد والتحليل والمقارنة، لغرض الوصول الى الحقائق وتوظيفها للوصول الى أحكام يمكن تبنيها، كما تميز منهج سماحته بالواقعية والاستقراء واحترام آراء الآخرين وغيرها.

4 ـ أكد السيد الحكيم على العقل، واعتبره الأداة التي يمكن للإنسان من خلالها تفسير صالح الأعمال من طالحها.

5 ـ الإيمان المطلق لدى السيد الحكيم بضرورة ان يتبنى النظام الاقتصادي الإسلامي أولاً وقبل كل شيء على أسس خلقية تتمثل بالتزام الفرد بالإرادة الالهية التي جاءت بمثابة خارطة طريق وبرنامج متكامل يوصل المسلم الى اقرب درجات الكمال النفسي والمادي.

6 ـ يركز السيد الحكيم في رؤيته الاقتصادية على أثر الفرد (منتجاً وموزعاً ومستهلكاً) كونه محور الوجود في قسم كبير من أبعاده، لذلك نراه يحمل الفرد مسؤولية إدارة النظرية الاقتصادية قبل الإنتاج وبعده.

7 ـ تستمد رؤية السيد الحكيم لأثر الفرد على أساس ان فطرة الطبيعة هي التي أوجدت له هذا أو هذه الآثار.

8 ـ يشخص السيد الحكيم المشكلة الاجتماعية والاقتصادية السائدة في العالم واختلاف الموازين على أساس انها مشكلة خلقية بالدرجة الأولى كونها تنبع من استئثار الفرد بالنتائج لنفسه دون الإسهام في التوزيع العادل الذي يسمح بإعادة تقسيم الثروات والإنتاج بين أفراد بني البشر.

9 ـ وضع السيد الحكيم عدداً من الحلول للمشاكل الاقتصادية وخصوصاً الاختلال الاقتصادي والتباين الاجتماعي، ومن ذلك تركيزه على الإنفاق وأثره في إعادة توزيع الثروات والإسهام باستمرارية تداول السيولة النقدية في الأسواق؛ مما يساعد على إعطاء مرونة عالية وفرصة كبيرة للعمل والاستثمار.

10 ـ على الرغم من تعويل السيد الحكيم على أثر الإنفاق وأهميته الا انه قيده بشروط استناداً الى فهمه مصادر التشريع الأساسية، أولها وليس اخرها النية الصادقة والإيمان وعدم الإنفاق مع المن وغيرها.

11 ـ يخالف السيد الحكيم بعض المراجع والعلماء في خصوص مسألة ملكية الأرض، فهو مع إقراره بصحة الرأي القائل بان الأرض لا تمتلك ملكية خاصة الا انه يعد إمكانية حدوث ذلك إذا ثبتت الملكية الخاصة في الأرض في بعض مراحل ما بعد الإنتاج.

12 ـ ينظر السيد الحكيم الى الدولة أو الحكومة العادلة (حكومة الإمام) باعتبارها رقيباً على النشاط الاقتصادي في المجتمعات الإسلامية، وبالتالي هي تمثل الرقيب الذي عليه التدخل وحماية مصالح المجتمع الأوسع إذا ما أحس بان نشاط الفرد قد ينعكس سلباً على المجتمع، ولا ينظر الى الدولة في كونها مقيداً شرعياً أو قانونياً في وجه الفرد ورغبته في الاستثمار.

13 ـ يؤمن السيد الحكيم بان الإذن العام الذي منحه الشارع المقدس للفرد من اجل الاستثمار انما هو اذن مفتوح، وليس إذناً مقيداً أو مرحلياً اقتضته الضرورة، وبالتالي بالإمكان إلغاؤه، ويستند في ذلك الى استمرار العمل في صدر الإسلام والدولة الأموية والعباسية.

14 ـ لا يعطي السيد الحكيم وزناً علمياً ومنطقياً للنظريتين الشيوعية والماركسية بما يتعلق برؤيتهما وفلسفتهما للاقتصاد والمشاكل المتعلقة به، لانه يرى ان النظرية الإسلامية هي الأكمل كونها نظرية الهية ليست وضعية من جهة، وكون النظريتان جاءتا تعبيراً عن ظروف مرحلية معينة، مثلت أفكار ومبادئ تلك النظريات فجعلتهما يتحركان في أفق ضيق غير متكامل.

 ثانياً ـ التوصيات والاستنتاجات:

1 ـ اعتماد بعض مؤلفات السيد الحكيم مثل: (الحب في الله) و (التوبة) في المدارس المتوسطة والإعدادية، وذلك لتهذيب سلوكهم وتقويمه وخلق جيل واع على الفكر الإسلامي عارف به.

2 ـ تضمين المناهج العلمية في كليات التربية والآداب في العراق بعدد من مؤلفاته، ولا سيما التي خصصها لمخاطبة العقول المتقدمة، مثل: (المجتمع الإنساني في القرآن الكريم).

3 ـ اعتماد أفكار السيد الحكيم في معالجة الارتباك الذي يسود المرحلة الحالية، ولا سيما قضية الوحدة الإسلامية التي تعد مفتاح الوصول للنجاة، التي أشار إليها مراراً وتكراراً في خطاباته وأحاديثه، وجمع بعضها في كتاب هو (الوحدة الإسلامية من منظور الثقلين).

4 ـ دراسة فكر السيد الشهيد بتمعن من قبل الأكاديميين، وكل حسب تخصصه، لان سماحته ترك آثاراً في فنون العلم المختلفة (الدين، التاريخ، الاجتماع، التربية).

قائمة المصادر والمراجع

1 ـ خير ما يبتدئ فيه القرآن الكريم.

2 ـ إطلالة على السيرة الذاتية لسماحة المرجع الديني آية الله محمد باقر الحكيم، دار التبليغ الإسلامي، (د.م ـ 2003). الأسدي، محمد هادي.

3 ـ محاضرات في منهج البحث التاريخي، (بغداد ـ 2006). جابر، فاضل.

4 ـ الفكر الاقتصادي للماوردي، كتاب قيد الطبع. جاسم، عطا سلمان.

5 ـ آية الله العظمى الشهيد السيد محمد باقر الحكيم من النجف إلى النجف، مطبعة العترة الطاهرة، مؤسسة تراث الشهيد الحكيم، (النجف ـ 2006). الجياشي، وفاء جواد.

6 ـ الأصالة والمعاصرة، منشورات مؤسسة تراث الشهيد الحكيم، مطبعة العترة الطاهرة، (النجف ـ 2005). الحكيم، الإمام محمد باقر.

7 ـ تفسير سورة الحديد، منشورات مؤسسة تراث الشهيد الحكيم، مطبعة العترة الطاهرة، (النجف ـ 2006). الحكيم، الإمام محمد باقر.

8 ـ الحب في الله، منشورات مؤسسة تراث الشهيد الحكيم، مطبعة الرائد للطباعة والتصميم، (النجف ـ 2005). الحكيم، الإمام محمد باقر.

9 ـ الحج تاريخه، أبعاده، أحكامه، منشورات مؤسسة الشهيد الحكيم، مطبعة عترت، (النجف ـ 2006). الحكيم، الإمام محمد باقر.

10 ـ دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة، ط2، مطبعة عترت، (د.ت ـ 1424ﻫ). الحكيم، الإمام محمد باقر.

11 ـ دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي، منشورات مؤسسة تراث الشهيد الحكيم، مطبعة العترة الطاهرة، (النجف ـ 2005). الحكيم، الإمام محمد باقر.

12 ـ رفض الطغيان، منشورات مؤسسة تراث الشهيد الحكيم، مطبعة الرائد، (النجف ـ 2005). الحكيم، الإمام محمد باقر.

13 ـ الزهراء (عليها السلام) أهداف، مواقف، نتائج، مطبعة العترة الطاهرة، (النجف ـ 2006). الحكيم، الإمام محمد باقر.

14 ـ الشعائر الحسينية، منشورات مؤسسة تراث الشهيد الحكيم، مطبعة العترة الطاهرة، (النجف ـ 2005). الحكيم، الإمام محمد باقر.

15 ـ المجتمع الإنساني في القران الكريم، ط2، منشورات مؤسسة تراث الشهيد الحكيم، مطبعة العترة الطاهرة (النجف ـ 2006). الحكيم، الإمام محمد باقر.

16 ـ نافذة على الإنفاق، منشورات مؤسسة تراث الشهيد الحكيم، مطبعة الرائد، (النجف ـ 2005). الحكيم، الإمام محمد باقر.

17 ـ الوحدة الإسلامية من منظور الثقلين، منشورات مؤسسة تراث الشهيد الحكيم، مطبعة الرائد، (النجف ـ 2005). الحكيم، الإمام محمد باقر.

18 ـ اقتصادنا، منشورات المؤتمر العالمي للامام الشهيد الصدر، مطبعة شرعت، (قم ـ 1424ﻫ ). الصدر، الإمام محمد باقر.

19 ـ مجمع البيان في تفسير القران، تحقيق مجموعة من العلماء، مطبعة العرفان، (صيدا، 133). الطبرسي، الفضل بن الحسن.

20 ـ بشارة المصطفى، تحقيق جواد القيومي الأصفهاني، مطبعة مؤسسة النشر الإسلامي، (قم ـ 1420ﻫ). الطبري، محمد بن علي.

21 ـ مجمع البحرين، ط2، تحقيق السيد احمد حسين، مكتبة نشر الثقافة الإسلامية، (د.م ـ 1408ﻫ). الطريحي، فخر الدين.

22 ـ وسائل الشيعة، تحقيق مؤسسة ال البيت لاحياء التراث (قم ـ 1409ﻫ). العاملي، محمد عبد الحسين، تحقيق والوسائل (قم ـ 1409ﻫ).

23 ـ شهيد المحراب مفسراً، بحث منشور ضمن المؤتمر العلمي الأول لإحياء التراث الفكري والعلمي للشهيد الحكيم، مطبعة الرائد، (النجف ـ 2006). علي، أياد محمد.

24 ـ الخراج وصناعة الكتابة، شرح وتعليق محمد حسين الزبيدي، دار الحرية للطباعة، (بغداد ـ 1981). قدامة بن جعفر.

25 ـ الكافي، تصحيح وتعليق علي اكبر الغفاري، دار الحكمة الإسلامية، (طهران ـ 1407ﻫ). الكليني، محمد بن يعقوب.

26 ـ الأحكام السلطانية والولايات الدينية، دار الكتب العلمية، (بيروت، 1978م). الماوردي، علي بن محمد البصري.

27 ـ محاولات لتغيير الواقع الاقتصادي، بحث منشور ضمن ندوة الاقتصاد الإسلامي، (بغداد ـ 1983). منصور، محمد إبراهيم.

[1] ينظر: كلمة مؤسسة تراث الشهيد الحكيم في مقدمة كتاب دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي، ص 11.

[2] الحكيم، الإمام محمد باقر، دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي، ص 13 ـ 16.

[3] الأنعام: 165.

[4] الحكيم، الإمام محمد باقر، دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي، ص 14.

[5] الحكيم، الإمام محمد باقر، دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي، ص 17 ـ ص 26.

[6] المصدر نفسه، ص 26 ـ ص 59.

[7] المصدر نفسه، ص 59 ـ ص 64.

[8] كلمة مؤسسة تراث الشهيد الحكيم في مقدمة كتاب نافذة على الإنفاق، ص 16 ـ ص 17.

[9] الحكيم، الإمام محمد باقر، نافذة على الإنفاق، ص 19.

[10] المصدر نفسه، ص 19 ـ 23.

[11] المصدر نفسه، ص 23 ـ ص 27.

[12] المصدر نفسه، 30 ـ ص 35.

[13] الحكيم، الإمام محمد باقر، نافذة على الإنفاق، ص 36 ـ ص 47.

[14] المصدر نفسه، ص 48 ـ ص 58.

[15] كلمة مؤسسة الشهيد الحكيم في مقدمة كتاب تفسير سورة الحديد، ص 8 ـ ص 9.

[16] علي، اياد محمد، شهيد المحراب مفسراً، ص 24 ـ ص 26.

[17] المصدر نفسه، ص 21 ـ ص 24.

[18] الحكيم، الإمام محمد باقر، تفسير سورة الحديد، ص 14.

[19] المصدر نفسه، ص 16.

[20] ينظر المبحث الرابع من هذا البحث.

[21] النجم: 39.

[22] الحكيم، الإمام محمد باقر، تفسير سورة الحديد، ص 67 ـ ص 87.

[23] المصدر نفسه، ص 87 ـ ص 114.

[24] المصدر نفسه، 178 ـ ص 181.

[25] المصدر نفسه، ص 183 ـ ص 203.

[26] الحكيم، الإمام محمد باقر، الحج، ص 46 ـ ص 48.

[27] كلمة مؤسسة شهيد المحراب، ص 8.

[28] الحكيم، الإمام محمد باقر، الحج، ص 86.

[29] طبع هذا الكتاب طبعتين، كان اخرها في مطبعة عترت عام 1424 ﻫ.

[30] ال عمران: 110.

[31] الحكيم، الإمام محمد باقر، دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة، ج 1/ ص 9.

[32] المصدر نفسه، ج 1/ ص 13.

[33] المصدر نفسه، ج 1/ ص 21 ـ ص 22.

[34] ينظر: الحكيم، الإمام محمد باقر، دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة، ج1 / ص 369 ـ ص 461.

[35] ينظر: المصدر نفسه، ج1 / ص 371 ـ 374.

[36] ينظر: المصدر نفسه، ج1 / ص 377 ـ ص 400.

[37] ينظر: المصدر نفسه، ج1 / ص 405 ـ ص 430.

[38] ينظر: المصدر نفسه، ج1 / ص 430 ـ ص 461.

[39] الحكيم، الإمام محمد باقر، المجتمع الإنساني في القران الكريم، ص 18 ـ ص 19.

[40] المصدر نفسه، ص11 ـ 25.

[41] المصدر نفسه، ص 31 ـ ص 87.

[42] الحكيم، الإمام محمد باقر، المجتمع الإنساني في القران الكريم، ص 31 ـ ص 103.

[43] ينظر: المصدر نفسه، ص 147 ـ ص 245.

[44] ينظر: المصدر نفسه، ص 249 ـ ص 311

[45] ينظر: المصدر نفسه، ص 311 ـ ص 361.

[46] ينظر: المصدر نفسه، ص 365 ـ ص 530.

[47] ينظر: المصدر نفسه، ص 262 ـ ص 265.

[48] ينظر: المصدر نفسه، ص 326 ـ ص 341.

[49] طبع هذا الكتاب ضمن سلسلة منهجنا برعاية مؤسسة تراث شهيد الحكيم (النجف ـ 2005).

[50] طبع هذا الكتاب ضمن سلسلة منهجنا برعاية مؤسسة تراث شهيد الحكيم (النجف ـ 2005).

[51] الإمام الحكيم، الاصالة والمعاصرة، ص 36.

[52] ينظر على سبيل المثال: الحكيم، الإمام محمد باقر، دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة، ج1 / ص 369 ـ ص 430.

[53] طبع هذا الكتاب ضمن سلسلة منهجنا برعاية مؤسسة تراث شهيد الحكيم (النجف ـ 2005).

[54] الجياشي، وفاء جواد، الشهيد محمد باقر الحكيم، ص 80.

[55] المصدر نفسه، ص 80.

[56] الحكيم، الإمام محمد باقر، دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة، ج2 / ص 398.

[57] الحكيم، الإمام محمد باقر، دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي، ص 13.

[58] ال عمران: 103.

[59] الحكيم، الإمام محمد باقر، الحب في الله، ص31 ـ ص 32.

[60] الحكيم، الإمام محمد باقر، الزهراء (عليها السلام)، ص 179 ـ 187.

[61] ينظر على سبيل المثال: الحكيم، الإمام محمد باقر، دور الأئمة في بناء الجماعة الصالحة، ج2 / ص 410 و ص 418.

[62] ينظر على سبيل المثال: المصدر نفسه، ج2 / ص 180  وص 258 وص 306.

[63] الحكيم، الإمام محمد باقر، الزهراء (عليها السلام)، ص181 ـ 182.

[64] الطبري، بشارة المصطفى، ص 236.

[65] ونعني بها معجمات اللغة العربية، مثل كتاب (لسان العرب) لابن منظور، وكتب التعريفات مثل كتاب (التعريفات) للحرجاني وكتاب (التوقيف على مهمات التعاريف) للمناوي وغيرها من المعاجم والكتب التي يزخر بها تراثنا الإسلامي.

[66] الحكيم، الإمام محمد باقر، المجتمع الإنساني في القران الكريم، ص 335 ـ 337.

[67] القمر49.

[68] الصدر، الإمام محمد باقر، اقتصادنا، ج1 / ص 36.

[69] الحكيم، الإمام محمد باقر، دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي، ص 13.

[70] الحكيم، الإمام محمد باقر، دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة، ج1 /ص 372 ـ 373.

[71] البقرة: اية 177.

[72] الحكيم، الإمام محمد باقر، دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي، ص 20.

[73] الزخرف: اية 32.

[74] الحكيم، الإمام محمد باقر، دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي، ص 23 ـ ص 24.

[75] المصدر نفسه، ص17.

[76] الحكيم، الإمام محمد باقر، دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي، ص 25.

[77] المصدر نفسه، ص 26.

[78] هو كل ما أخذه المسلمون من الكفار في الحرب من غير قتال، ويسميه بعض الفقهاء (فيئاً)، وهو لله ولرسوله ومن قام مقامه، يصرف حين يشاء مصالحه ومصالح عياله، وفدك من الأنفال. الطريحي، مجمع البحرين، ج4 / ص255.

[79] الحكيم، الإمام محمد باقر، دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي، 26 ـ 27.

[80] الأعراف، آية 10

[81] الحكيم، الإمام محمد باقر، دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي، ص 26 ـ ص 27.

[82] الكليني، الكافي، ج5 / 279.

[83] الحكيم، الإمام محمد باقر، دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي، ص 29؛ الصدر، الإمام محمد باقر، اقتصادنا، ج2 / ص744 ـ 749.

[84] الحكيم، الإمام محمد باقر، دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي، ص31.

[85] العاملي، وسائل الشيعة، 9/ 523.

[86] الحكيم، الإمام محمد باقر، دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي، ص 25.

[87] المصدر نفسه، ص 23 ـ ص 24.

[88] الحكيم، الإمام محمد باقر، دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي، ص 31.

[89] الصدر، الإمام محمد باقر، اقتصادنا، ج2 / 727 ـ 739.

[90] الحكيم، الإمام محمد باقر، دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي، ص 40 ـ ص 41.

[91] المصدر نفسه، ص 41.

[92] إبراهيم: 32 ـ 33.

[93] الأعراف: اية 96.

[94] الحكيم، الإمام محمد باقر، نافذة على الإنفاق، 45.

[95] الأنعام: اية 141.

[96] لقد أصدر سماحتة كتاب تحت عنوان (نافذة على الإنفاق) قدمنا له وصفاً موجزاً في المبحث الثالث من هذا البحث، فضلاً عن إن معظم كتبه تقريبا تكاد لا تخلوا من إشارة هنا أو حديثا هناك عن الإنفاق وأهميته.

[97] الحكيم، الإمام محمد باقر، نافذة على الإنفاق، ص 41.

[98] التوبة: 34.

[99] الفرقان: 67 .

[100] الحكيم، الإمام محمد باقر، نافذة على الإنفاق، ص 19.

[101] هو ما يؤخذ من أموال الكفرة بالقتال، ويتوجب في هذا المورد الخمس. المصدر نفسه، ص 23.

[102] الجهاد لغة مأخوذ من الجهد ـ بالفتح ـ بمعنى التعب والمشقة، أو من الجهد ـ بالضم ـ بمعنى الطاقة، والمراد منه في الفقه: القتال لإعلاء كلمة الإسلام وإقامة شعائر الدين. وينقسم الى ابتدائي وهو: ما يبادر به جيش المسلمين من قتال أعداء الدين، لأجل الحذر من تمترسهم او قوة شوكتهم، ولأجل نشر الإسلام، وهو واجب كفائي: يسقط وجوبه عن المكلفين إذا قام من فيهم الكفاية، وفي اصل وجوبه خلاف بين الفقهاء: منهم من قال به حتى في زمن الغيبة، ومنهم من خصه بزمن حضور المعصوم. ودفاعي وهو: القتال لأجل رد جيش الكفر، وهو واجب عيني لمن تحققت فيه شروط الجهاد حتى في زمن الغيبة. المصدر نفسه، ص 24.

[103] الحكيم، الإمام محمد باقر، نافذة على الإنفاق، 23 ـ ص 24.

[104] الحكيم، الإمام محمد باقر، نافذة على الإنفاق، 25 ـ ص 27. وورد ان بعض الفقراء شكوا حالهم الى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما نزلت الآيات التي تدعو إلى الإنفاق والآثار المترتبة عليه فقالوا: يا رسول الله إن هذه العبادة التي دعي الناس إليها كأنها خاصة بالأغنياء لان لديهم الأموال التي يمكن أن ينفقوها ونحن سنحرم من هذه الآثار لفقرنا فأجابهم الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم): «أن الكلمة الحسنة والكلمة الخير تدخل في الإنفاق الذي أوصت به الشريعة». انظر: الطبرسي، مجمع البيان، ج10 / ص7 ـ 8.

[105] الحكيم، الإمام محمد باقر، نافذة على الإنفاق، ص 28 ـ ص 29.

[106] ينظر: المصدر نفسه، ص 30 ـ ص 35.

[107] التوبة: اية 53.

[108] التوبة: اية 54.

[109] النساء: 38.

[110] البقرة: 264.

[111] البقرة: 195.

[112] الحكيم، الإمام محمد باقر، المجتمع الإنساني في القران الكريم، ص 335 ـ ص 336.

[113] المصدر نفسه، ص 337.

[114] المصدر نفسه، ص 341.

[115] الحكيم، الإمام محمد باقر، المجتمع الإنساني في القران الكريم، ص 342.

[116] المصدر نفسه، ص 341.

[117] الكليني، الكافي5/ 319 .

[118] الحكيم، الإمام محمد باقر، دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي، ص 57.

[119] الحكيم، الإمام محمد باقر، دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي، ص 60.

[120] الحكيم، الإمام محمد باقر، المجتمع الإنساني في القران الكريم، ص 58.

[121] المصدر نفسه، ص 60.

[122] الحكيم، الإمام محمد باقر، دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي، 65.

[123] الحكيم، الإمام محمد باقر، دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي، 65.

[124] المصدر نفسه والصفحة.

[125] المصدر نفسه، ص 66.

[126] المصدر نفسه، ص 66.

[127] الحكيم، الإمام محمد باقر، دور الفرد في الاقتصاد الإسلامي، ص 67.

[128] المصدر نفسه، ص 68.

[129] المصدر نفسه، ص 42.

[130] المصدر نفسه، ص 42.

[131] المصدر نفسه، ص 42.

[132] المصدر نفسه، ص 43.

[133] المطففين: 26.

]]>
http://al-hakim.com/?feed=rss2&p=2971 0
مفهوم الامة في السياق القرآني http://al-hakim.com/?p=2961 http://al-hakim.com/?p=2961#respond Thu, 21 May 2015 04:32:40 +0000 http://al-hakim.com/?p=2961 tt

بحث شارك في المؤتمر الثاني لإحياء التراث الفكري والعملي للشهيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم 

الباحث: الاستاذ المساعد د. محمد جعفر العارضي

                  كلية الآداب ـ جامعة القادسية

إذا أردنا أن نُقيم شبكة المعنى القرآني أو منظومته المعارفية كما ينبغي للقرآن الكريم علينا أن نلحظ في تعاطينا دلالة الخطاب القرآني مجموعة متظاهرة و متماسكة من المطالب و الابعاد في الطريق الى كمال المعنى لهذا الخطاب المتفرد، و ينبغي من جهة اخرى عدم اختزال دلالة الخاصة القرآنية في بعد نعرفه أو ندَّعي أنَّنا نعرفه …

ومجموعة المطالب المتظاهرة التي يفيض بها الخطاب القرآني تتوزع بين المطالب النفسية، و المجتمعية، والاخلاقية، والتربوية، والادارية، والاقتصادية، والسياسية … و هذه المطالب و آليات النظر الدلالي هي ما يقودنا الى الدعوة الى نظر دلالي مخصوص بالقرآن الكريم من الممكن أن يتمثله علم دلالة يمكن تسميته «علم الدلالة المعارفي» يمتلك من الآليات ما تتكشف به الحقائق القرآنية كلها، من خلال الوقوف على النظام اللغوي و ما يحوي من امكانات اختيارية، تتضمن طاقات دلالية متعددة و متنوعة يتحدد على ضوء منها اختيار هذه الامكانية او تلك في الطريق الى انتاج معنى ما، من دون أن يغيب عنا أنَّ القرآن الكريم يوظف أمكانات النظام اللغوي و يتعاطى طاقاتها الدلالية على نحو الكمال، و هذه آية تفرده و اعجازه. و لابد من سياسة ذلك كله في اطار استظهار سياقي شامل تتجلَّى فيه الموازنات السياقية لموارد الاستعمال الذي يبدو متقاربا … فنكون أمام نظر دلالي ينفتح الى حد أن يسع بين جنبيه آفاق الفكر، ومقتضيات الحياة، والعقيدة كلها …

ونجد السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) قد اجتمعت في منجزه القرآني كثير من المطالب المهمة، جعلها تتمحور حول البعد الاجتماعي؛ فما كان منه الا أن سعى الى تقديم النموذج المجتمعي لبني الانسان في المنظور القرآني، فالدارس للمنجز الفكري للسيد الحكيم (قدس سره) يتوافر على اهتمام مخصوص بالفكرة المجتمعية، على نحو استشرافي متكامل، و تقديم «النماذج الثابتة» … فقد تلمس في بحث البناء المجتمعي الانساني «المثل الاعلى» و «آليات التغيير» و «التكامل» …

و ما دام المجتمع لا يبتعد عن كونه مجموعة من المؤسسات المنتظمة المتفاعلة[1]، التي لا تغيب عنها «مقتضيات الارادة الجماعية»[2]؛ فإنَّ النظر القرآني يقدم نموذجا مجتمعيا كاملا …

و يظل مفهوم «الأُمَّة» في الاستعمال القرآني مفهوما مركزيا و رائدا في الفكرة المجتمعية عند الشهيد الحكيم (قدس سره)، و يظل هذا المفهوم ـ قبل ذلك ـ المنطلق القرآني الذي يتضمن التأسيس الأكمل و الرؤى الحقة في ميدان بناء مجتمع الانسان … و هكذا قرأه السيد الحكيم (قدس سره)؛ و من ثمَّ قدَّمه لنا و قد استوفى عناصر الحياة و الفكر.

و ما يُلاحظ أنَّ المنظومة الدلالية القرآنية التي عالجت هذا المفهوم و صاغته صوغا شاملا تقدِّمه وقد بنت له صرحا من العلائق و التجاذبات مع مجموعة من الافاهيم المتنوعة؛ فيأتي مصوغا على نحو فكري متماسك …

واللافت للانتباه أنَّ هذا التعالق الدلالي ما غاب عن قراءة السيد الحكيم (قدس سره) لهذا الافهوم؛ إذ نلمح أنَّه تعامل معه و تمثَّله تمثُّلا كما ينبغي للاستعمال القرآني و مساحة الدلالة المعارفية الكبرى التي يتحرَّك فيها؛ ذلك أنَّه يتناول «الأُمَّة» بلحاظ ابعاد من التعدد و التنوع ليست تقف عند حدود المساحة المجتمعية (المألوفة)، بل تقوم على أساس من التخطي الواعي لتحل في منطقة النظر العقيدي، و الفكري، و البناء الانساني الأكملي.

«الأُمَّة» و آفاق النظر الدلالي الأفقي

اضحى من الواضح بمكان أنَّ الكلام على مفهوم «الأُمَّة» لا يكون منتجا ما لم يُقرأ هذا المفهوم في سياقه المجتمعي العلائقي، و بين مصاحباته المجتمعية؛ وصولا الى نظر متكامل يتخذ من الطابع الفكري الشامل سمة له، و هذا ما كان قد فعله السيد الحكيم (قدس سره)، واكَّده كما يتضح خلال البحث.

و لا ريب أنَّنا مدعون في هذا السياق الى أن نتناول هذا المفهوم اعتمادا على استثمار بعدي النظر الدلالي: البعد الأفقي، و البعد العمودي.

يتضمن البعد الدلالي الأفقي لأي استعمال قرآني مجموعة من المصاحبات و العلائق التي تشكل نسقا دلاليا عاما، و لا مندوحة ـ تبعا لذلك ـ عن لحاظ المعنى بالنظر الى شبكة الألفاظ التي تشترك مع هذه القيمة اللفظية أو تلك و تستغرق في دلالتها العامة … و علينا في هذه الطريق أن نتطلع ـ متأملين مستشعرين ـ الى ما تتمتع به هذه الوحدات الدلالية من خاصَّة المعنى؛ فنكون بهذا الصنيع ـ وحده على مقربة من دقائق الاستعمال و تحسس المعنى الملتصق بكل لفظ من ألفاظ هذه الطائفة الدلالية أو تلك. و اقرب ما يُمثِّل طائفة (الحقل اللغوي) «الأُمَّة» و يُؤسس لمشروعها الدلالي:

القوم

جماعة الرجال[3]، و قليلا ما تدخله النساء في الاستعمال العربي، وإن دخلته فعلى التبعية[4] للرجال.

و توسعت دلالة هذا الاستعمال في السياق القرآني، فجاء للدلالة على الرجال و النساء في اغلب مواضعه[5]، كما في قوله تعالى: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ)[6]. ومما جاء دالا على جماعة الرجال قوله تعالى في سياق الكلام على اخوة يوسف (عليه السلام) وكيدهم إيَّاه: (لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ)[7].

و كان ورودها في الاختيار القرآني (383)[8]، و قد اريد بها الدلالة على ثلاث جماعات[9]، هي: جماعة البشر، كما في قوله تعالى: (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ)[10]. و جماعة الجن، يقول تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [11] وجماعة الملائكة، كما في قوله تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ)[12]. وثمة استفادة هنا هي أنَّ استعمال «قوم» مع الجن و مع الملائكة كان في سياق يتكلم على اقترابهم المكاني من البشر، و كأنَّ في ذلك اشارة الى الالفة، فضلا عن أنَّ السياق يتضمن الدلالة على الفكر، و العقيدة، و الاصلاح .

و ما يعنينا في هذا البحث استعمال «قوم» للدلالة على جماعة البشر، فقد توزع على سياقات متعددة أشار سماحة السيد الحكيم (قدس سره) الى ثلاثة منها:[13].

1 ـ استعمالها في سياق الكلام على الجماعة التي ينتمي اليها الانبياء (عليهم السلام) بأواصر القربى و النسب، او بأواصر العلاقات الاجتماعية الواحدة، التي تقوم على أسس من الروابط التواصلية، كاللغة، و النصح، و الموقف … كما في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[14]، و قوله تعالى: (وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ)[15].

2 ـ استعمالها مع الجماعة التي يوحدها الايمان بالله سبحانه، وتشترك في صفات الكمال من العلم، و التقوى، و التفكر … و من ذلك قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ * وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[16].

3 ـ استعمالها في سياق الكلام على الجماعة البشرية عموما، كما في قوله تعالى: (قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ)[17].

و بعد فإنَّنا مثلما لا نخطئ دلالة «قوم» على القرب و الاتصال، لا نخطئ ايضا الايحاء بالاختلاف و العداء[18] و الجفاء، و مثال ذلك قوم فرعون، يقول تعالى: (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى)[19]، فإنَّ ضلال فرعون جعله ابعد ما يكون عن هداية قومه؛ و من ثم نكون أمام ملحظ سياقي يدفع نحو «الخيانة والايذاء، و هما من دواعي العداء»[20]. و لعلنا هنا نلمح اشارة القرآن الكريم الى أنَّه «لا يخص العلاقة بين القوم بوحدة المكان او النسب، وإنَّما يتجاوز بها الى العلاقة العقدية، والاخذ بايدي القوم الى الصلاح»[21]، فإنَّ هذه اللفظة «قد تتطور فتطلق على الجماعة التي تربطها روابط معنوية»[22].

الجمع ـ جميع

الجمع: هو الضم[23]. وجماعة الناس[24]، ويقال لها جميع[25] ايضا. أمَّا الجُمَّاع فهو ما اجتمع من قبائل شتى[26].

و ما جاء في الاختيار القرآني «جمع»، و «جميع»، و من ذلك قوله تعالى: (سيُهزم الجمع و يُولُّون الدُّبر)[27]، و «الجمع» في هذا السياق «مجتمع المشركين بصورة عامة»[28]، و قوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ)[29]. يدل «الجمعان» على «الجماعتين الممثلتين لمجتمعين متقابلين متحاربين هما: مجتمع المسلمين، و مجتمع المشركين»[30]. وثمة ملحظ بياني دقيق هو أنَّ في القرآن الكريم لم يأت «الجمع» او «الجمعان» الا في سياق الحرب حيث مواضع النصر والهزيمة من جهة، و حيث موطن الوفاق على فكرة واحدة و رأي واحد ـ إن على الحق و إن على الباطل ـ من جهة ثانية.

أمَّا «جميع» فقد استعملت في سياق الحشر، كما في قوله تعالى: (إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ)[31]. و استعملت في سياق التأهب للحرب، وذلك في قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ)[32]. و معناها جمع مستعدون للحرب[33].

و ليس يخفى الترابط الدلالي بين السياقين «سياق الحشر» و«سياق التأهب للحرب»؛ ففيهما معا تُلحظ الغلبة او الهزيمة، و هذا ما لا يبعد لفظة «جميع» عن الدلالة السياقية التي عليها «الجمع» و «الجمعان». بمعنى أنَّ هذه الألفاظ تشترك في الدلالة على الجماعة المحاربة؛ و من ثمَّ يأتي الايحاء بالقوة. غير أنَّ ما تنماز به «جميع» (الحربية) أنَّها اختصت بالجماعة الكافرة الضالة المحاربة، و كأنَّ هذا الاختصاص يأخذنا الى اشارة دلالية تتمثل في ضعف هذه الجماعة من الداخل الى حد لا يُستبعد معه تخيل حالة من الانقسام. أمَّا الفشل و الهزيمة بلحاظ الموقف العسكري او الموقف المعنوي فهما يلازمان جماعة محاربة عبَّر عنها الاختيار القرآني بـ «جميع».

إذن نحن مع هذه الوحدات الدلالية أمام المضمون القيمي و الاخلاقي و الفكري للجماعة البشرية، و هذا ما المح اليه سماحة السيد الحكيم (قدس سره)؛ إذ يقول عن «الجمع» «هي اللفظ الاقرب الى لفظة «المجتمع» من ناحية المادة و الاشتقاق اللغوي، كما أنَّها قريبة من ناحية المعنى ايضا»[34].

الشعب ـ القبيلة

الشعب: ما تشعَّب من القبائل[35]. و قيل اكبرها[36]؛ فهو اكبر من القبيلة[37]، و ما كان عظيما من القبائل[38].

و القبيلة: الجماعة التي يُقبل بعضها على بعض[39]، و تعود الى أب واحد[40]. و القَبيل: جمع قبيلة[41]، او هم جماعة من قوم شتى[42].

واستعمل القرآن الكريم «الشعب و القبيلة» مجموعين في مورد واحد هو قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[43]، و هذا الاستعمال يؤكد رابطة النسب او اللغة التي ترتبط بها الجماعات البشرية[44]، مع لحاظ حالة «التمايز بينها، و لكن بهدف توثيق العلاقات الانسانية، من خلال التعارف و التعاون على ادارة هذه الحياة و التكامل في مسيرتها»[45].

و لعلنا بعد هذا الاستعراض السياقي المعارفي ننتهي الى أنَّ «القوم ـ الجمع ـ جميع ـ الشعب ـ القبيلة» عناصر داخلة في بطن «الأُمَّة» و تكوينها الحضاري و الثقافي و القيمي، فضلا عن أنَّها تمثل طاقاتها البشرية و الفكرية التي تعمل على نشر روح التغيير و الفضيلة تارة، و نشر الشر تارة اخرى…

«الأُمَّة» و آفاق النظر الدلالي العمودي

إنَّ رسم الطيف الدلالي لمفهوم «الأُمَّة» و تمثله على نحو قرآني دقيق يقتضي منا العمل على التعايش الدلالي مع ما يدل عليه هذا المفهوم كله، و صوغ اشعة الدلالة بلحاظ الترابط فيما بينها من جهة، و العدول عن الألفاظ الاصول في الدلالة على ما تضمن هذا المفهوم الدلالة عليه؛ بغية الوقوف على «اسرارية» التعدد الدلالي، و ما يمنحه من قيم تأثيرية و جمالية في رحاب الخطاب المتفرد.

الأمَّة: جماعة تجتمع على أمر ما، من دين، او مكان ،او زمان[46].

وردت لفظة «الأُمَّة» في القرآن الكريم في دلالتها الاجتماعية (56 مرة). وعلى الرغم من تعدد السياقات التي تحتوي هذه اللفظة، وكثرة تفريعاتها، ومن ثمَّ كثرة دلالاتها، الا إنَّنا نجد السيد الحكيم (قدس سره) قد أدار هذا التعدد السياقي وعالجه معالجة شاملة منتجة، فبدا ممهدا تارة، و مستنتجا تارة اخرى … فتناول مفهوم «الأُمَّة» بلحاظين هما[47]:

تناوله بلحاظ دلالته على البعد الاجتماعي المجرد، بمعنى دلالته على «مجرد الجماعة» البشرية «التي تربطها رابطة الاجتماع». و من ذلك قوله تعالى: (نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)[48].

وتناوله بلحاظ دلالته على البعد المعنوي و الفكري للجماعة البشرية. نعم لا يخلو التأسيس للأمَّة في المنظور القرآني من توخي الجوانب الفكرية والتربوية و المعنوية، و لعلي استطيع تقسيم هذا التناول على عدد من المحاور:

1 ـ جماعة الانبياء. و هو ما خرجت «الأُمَّة» للدلالة عليه في سياق عدد من الآيات المباركة. و من ذلك قوله تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)[49]. لقد «اشارت الآية الكريمة الى جماعات من الناس متعددة بحسب الواقع اللغوي و التأريخي و الشعوبي، و لكنها ترتبط فيما بينها بروابط فكرية و عقائدية و سلوكية، و اهداف سياسية و حركية، بحيث تعبر بمجموعها عن مجتمع كامل، و هذه الجماعات هي جماعة الانبياء عبر التأريخ الانساني التي كانت ترتبط فيما بينها برباط الايمان بالله تعالى و توحيده، و بالغيب و الوحي الالهي، و بالدعوة الى الاخلاق الفاضلة، و التكامل في السيرة الانسانية»[50]. و قريب من هذا اشارة «الأُمَّة» في هذا السياق الى «ملة واحدة»[51] ينهل منها الانبياء (عليهم السلام)؛ فيأتي خطابهم الاصلاحي موحد الاهداف متعدد الادوار والمراحل.

2 ـ تأريخ الأُمَّة الاسلامية. من روائع الوقفات التأملية و التحليلية التي كانت للسيد الحكيم (قدس سره) بين يدي مفهوم «الأُمَّة» في البناء القرآني متابعته «تأريخ الامَّة الاسلامية و تأسيسها و معالمها» و ذلك في مقطع طويل من سورة البقرة المباركة[52]. فوجد أنَّه يتضمن استعراضا لموقف الوثنيين، و موقف اهل الكتاب من هذه الأمَّة، فضلا عن عرض العقيدة السليمة للاسلام الحنيف؛ و كذلك تقسيم أمم الانبياء على أساس من «الملة»[53]، و العقيدة، والفكر، والسلوك[54].

ويتكلم القرآن الكريم على المظاهر التي تميز الأمَّة المسلمة من غيرها، وهي مظاهر سلوكية، ومعنوية. من قبيل:[55].

أ ـ الايمان بكل الرسالات. وذلك في قوله تعالى: (قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)[56].

ب ـ الوسطية. و ذلك في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً…)[57].

و «الوسطية» تعني ـ فيما تعنيﻫ أنَّ هذه الامَّة عدل، والحق معها[58]، وتجمع الكمالات والسعادات المادية و المعنوية[59]، من دون أن يغيب عنها التوازن بين الاتجاه الجماعي و الاتجاه الفردي في الحياة[60] وصولا الى
«قيادة البشرية الى الاهداف الكبيرة»[61] من خلال تأكيد ثقة المسلمين أنَّ الناس يدخلون في مسؤوليتهم؛ لأنَّهم يحملون الرسالة القائدة[62]. وتبقى «الوسطية» ابرز ما تنماز به امَّة المسلمين.

ومما تقدم نصير مع السيد الحكيم (قدس سره) الى أنَّ القرآن الكريم «حينما يؤكد هنا على مفهوم «الأُمَّة» يعبر بها عن الجماعة التي يشترك افرادها في التأريخ المعنوي (العقائدي و السلوكي)… وكذلك يشترك ابناؤها في العقيدة و السلوك الاجتماعي القائم على هذه العقيدة»[63]؛ فتظهر رابطة السلوك الاجتماعي العام متمثلا بالدعوة الى الخير و الامر بالمعروف و النهي عن المنكر، كما في قوله تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[64]. وقوله تعالى: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)[65]. و تظل للفظة «الأُمَّة» دلالتها على «جماعة العلماء»[66] في هذا السياق؛ فيكون العلم من مظاهر السلوك العام الذي تتبناه هذه الامَّة. ويظهر ايضا الأجل المعنوي، و«هو الاجل للعلاقات التي تربط بين هؤلاء الاشخاص عقائديا وسلوكيا، والتغييرات الرئيسة التي تحصل في الجوانب المعنوية للروابط والعلاقات السائدة في تلك الامم، حيث يترتب على هذه التغييرات العقائدية والسلوكية التغييرات الاجتماعية»[67]. ومن ذلك قوله تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ)[68]. و هنا اشارة لطيفة من السيد الحكيم (قدس سره) الى أنَّ «ما يصدر من الناس من اعمال سلوكية و اجتماعية، و ما يقومون به من نشاطات فكرية و معنوية صالحة او طالحة يؤثر بشكل مباشر في حركة التأريخ و الاوضاع الاجتماعية للناس و في تحديد عمر هذه الامَّة او تلك»[69]. و لا شك أنَّنا بازاء عمر قيمي و اخلاقي لهذه الامَّة او تلك، فضلا عن العمر التأريخي.

وفي التفاتة رائعة من السيد الحكيم (قدس سره) تأتي مسألة الفروق الدلالية التي تنم عن ذائقة لغوية و مقدرة عالية يتمتع بها في التماس المعنى و التحليل الدلالي السياقي، ولا سيما التفريق بين لفظتي «الأمَّة» و «القوم»؛ إذ يلحظ أنَّ لفظة «قوم» تستعمل للدلالة على «الجماعة التي تكون الروابط فيما بينها روابط شعوبية ذات علاقة بالدم و التأريخ المادي و الارضي … أمَّا «الأمَّة» فهي لفظة يراد منها بمعناها اللغوي مجرد الجماعة، و لكنَّها تطورت في الاستعمال القرآني فاصبحت كلمة تعني الجماعة التي ترتبط فيما بينها بالروابط الفكرية والعقائدية والسلوكية»[70].

وبعد يكون «لفظ «الأمَّة» هو اللفظ القرآني الاقرب مضمونا الى مصطلح المجتمع… و حينئذ تكون الآيات التي تناولت موضوع «الأمَّة» هي الآيات التي تناولت موضوع المجتمع الانساني بشكل عام»[71].

ولعلنا في ختام هذه المقاربة الفكرية ـ و في رحاب السيد الحكيم الخالد (قدس سره) ـ نستشعر أنَّ «الأمَّة» مجتمع يسوده الحوار، و التعايش السلمي، بعيدا عن الاقصاء و العدوان … مجتمع متعلم، متماسك، وطني، حركي (ثوري) يتطلع الى الكمال و القرب الالهي … مجتمع يمتلك أدوات التغيير، ومقومات الاستمرار … مجتمع الاسوة الحسنة، و التكافل …

و لعلنا أيضا نلمح في «الأمَّة» تجمعا او تأسيسا لملامح ثقافية، وسياسية، و اجتماعية، و اقتصادية … كأنَّها لا تنفصل عن بعض.

[1] ينظر. علم الاجتماع الديني / د. احسان محمد الحسن 25 ـ 26 .

[2] مفهوم الدولة / عبد الله العروي 20. و فيه كلام على بداية التفكير في «الدولة» قاربته الى مفهوم «المجتمع» .

[3] ينظر. مفردات ألفاظ القرآن / الراغب الاصفهاني (قوم) 693.

[4] ينظر. الفروق اللغوية / ابو هلال العسكري 313.

[5] ينظر. الدلالة النفسية للألفاظ في القرآن الكريم / محمد جعفر العارضي (اطروحة دكتوراه) 133.

[6] الانبياء: 11.

[7] يوسف: 7 ـ 9.

[8] ينظر. المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم / محمد فؤاد عبد الباقي 739 ـ 746.

[9] ذهب اصحاب «الوجوه و النظائر في القرآن الكريم» الى أنَّ لهذه اللفظة وجهين هما: بنو آدم، و الملائكة. ينظر. وجوه القرآن / ابو عبد الرحمن الحيري 474.

[10] الانعام: 133. و هكذا تكون دلالته في باقي المواطن، خلا ما اذكره مع «جماعة الجن» و «جماعة الملائكة».

[11] الاحقاف: 29 ـ 31.

[12] الذاريات: 24 ـ 25. و هكذا كانت دلالته في: الحجر: 62.

[13] ينظر. المجتمع الانساني في القرآن الكريم / السيد محمد باقر الحكيم 96 ـ 97.

[14] ابراهيم: 4.

[15] الحج: 42 ـ 43.

[16] الانعام: 97 ـ 99.

[17] الجاثية: 14.

[18] ينظر. الدلالة النفسية للألفاظ في القرآن الكريم 134 ـ 136. و فيها تحليل سياقي تفصيلي يقف على الدلالة المعاكسة (العداء) للفظة «قوم».

[19] طه: 79.

[20] الدلالة النفسية للألفاظ في القرآن الكريم 134.

[21] الدلالة النفسية للألفاظ في القرآن الكريم 134 ـ 135.

[22] المجتمع الانساني في القرآن الكريم 103.

[23] ينظر. مفردات ألفاظ القرآن (جمع) 201.

[24] ينظر. اقرب الموارد في فصيح العربية و الشوارد / سعيد الشرتوني (جمع) 1/ 463.

[25] ينظر. مفردات ألفاظ القرآن 201.

[26] ينظر. مفردات ألفاظ القرآن 201، اقرب الموارد في فصيح العربية و الشوارد 1/ 463.

[27] القمر: 45.

[28] المجتمع الانساني في القرآن الكريم 95.

[29] آل عمران: 166 ـ 167.

[30] المجتمع الانساني في القرآن الكريم 96.

[31] يس: 53. و اللفظ في: يس: 32، القمر: 44.

[32] الشعراء: 52 ـ 56.

[33] ينظر. التبيان في تفسير القرآن / الطوسي 8/ 23.

[34] المجتمع الانساني في القرآن الكريم 95.

[35] ينظر. مفردات ألفاظ القرآن (شعب) 455.

[36] ينظر. مختار الصحاح / الرازي (شعب) 338.

[37] ينظر. فقه اللغة و سر العربية / ابو منصور الثعالبي 218.

[38] ينظر. مختار الصحاح 338.

[39] ينظر. مفردات ألفاظ القرآن (قبل) 654.

[40] ينظر. مختار الصحاح (قبل) 520.

[41] ينظر. مفردات ألفاظ القرآن 654.

[42] ينظر. مختار الصحاح 520 .

[43] الحجرات: 13.

[44] ينظر. المجتمع الانساني في القرآن الكريم 97.

[45] المجتمع الانساني في القرآن الكريم 98.

[46] ينظر. مفردات ألفاظ القرآن (امّ) 86.

[47] ينظر. المجتمع الانساني في القرآن الكريم 98 ـ 99.

[48] النحل: 92. و اللفظ في: النساء: 41، الانعام: 42، 48، الاعراف: 160، 168، يونس: 47، النحل: 36، 63، 84، 89، المؤمنون: 44، النمل: 83، القصص: 23، 75، العنكبوت: 18، فاطر: 24، غافر: 5.

[49] الانبياء: 92. و اللفظ في: البقرة: 213، المائدة: 48، يونس: 19، هود: 93، 118، الرعد: 30 (مرتان)، المؤمنون: 52 (مرتان)، فصلت: 25، الشورى: 8، الزخرف: 33، الاحقاف: 18.

[50] المجتمع الانساني في القرآن الكريم 99.

[51] الوجوه و النظائر في القرآن الكريم / هارون بن موسى 46.

[52] الآيات: 130 ـ 143.

[53] يعزز ذلك أنَّ القرآن الكريم استعمل «امَّة» للدلالة على الملة، كما مر. و هكذا كانت دلالتها في: البقرة: 128، فاطر: 42، الزخرف: 22، 23، الجاثية: 28.

[54] ينظر. المجتمع الإنساني في القرآن الكريم 99 ـ 100.

[55] ينظر. المجتمع الانساني في القرآن الكريم 100 ـ 101.

[56] البقرة: 136.

[57] البقرة: 143.

[58] ينظر. التبيان في تفسير القرآن 2/ 5.

[59] ينظر. الميزان في تفسير القرآن / محمد حسين الطباطبائي 1/ 322.

[60] ينظر. من وحي القرآن / محمد حسين فضل الله 3/ 54.

[61] من وحي القرآن 3/ 54.

[62] ينظر. من وحي القرآن 3/ 54.

[63] المجتمع الانساني في القرآن الكريم 101.

[64] آل عمران: 104. و ينظر. المجتمع الانساني في القرآن الكريم 101.

[65] الاعراف: 181. و اللفظ في: آل عمران: 110، 113، الاعراف: 159.

[66] تأويل مشكل القرآن / ابن قتيبة 345.

[67] المجتمع الانساني في القرآن الكريم 102.

[68] الاعراف: 34. و اللفظ في: المائدة: 66، الانعام: 108، الاعراف: 34، 38، 164، يونس: 49، الرعد: 30، الحجر: 5، المؤمنون: 43، 44، الحج: 34، 67.

[69] المجتمع الانساني في القرآن الكريم 102.

[70] المجتنع الانساني في القرآن الكريم 103. و لعل هذا لا يتعارض مع توخي «الروابط المعنوية» في لفظة «قوم»، كما مر في موضع متقدم ؛ فقد كان ذلك على نحو الاحتمال و «التطور الدلالي».

[71] نفسه 104.

]]>
http://al-hakim.com/?feed=rss2&p=2961 0
دور المرجعية الدينية والحوزة العلمية في بناء المجتمع الاسلامي من وجهة نظر السيد الحكيم (قدس سره) http://al-hakim.com/?p=2950 http://al-hakim.com/?p=2950#respond Wed, 20 May 2015 08:17:33 +0000 http://al-hakim.com/?p=2950 tt

بحث شارك في المؤتمر الثاني لإحياء التراث الفكري والعملي للشهيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم 

الباحث: الاستاذ المساعد د. كاظم عبد الموسوي

قسم اللغة العربية ـ كلية التربية ـ جامعة ميسان

المُقدمة

في ضوءِ العطاءِ الفكري الثر للسيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) يتَعذَّر على الباحثِ الإمساك بموضوعٍ ما من المواضيع التي طرحها؛ لِما عُرِف به من تَعدد زوايا النظر للموضوع الواحد فيما ألَّف وكتَب، غير أنَّ هذا لم يكن بالمانع بقدرِ ما كان حافزاً للولوج في موضوع (دور المرجعية والحوزة العلمية في بناء المجتمع الاسلامي) من وجهةِ نظره (قدس سره)، الذي أخذَ حيِّزاً كبيراً من المساحةِ الفكرية في كتاباتهِ، سواء أكانَ في العناوين الجانبية والمُضَمَّنة في ثنايا الكُتب، أم في طَرحها كعناوين بارزة لمُؤلَّفات حَملت تصريحاً مُصطَلح (المُجتمع)، كما في كتابه ذائع الصيت (المجتمع الإنساني في القرآن الكريم)[1].

لقد أولى (قدس سره) المجتمع جلَّ عنايته، فلا يمرّ بنا مُؤلَّف مِن مؤلفاتهِ إلا وجدنا هذا الجانب قد أخذَ حّيِّزا فيه، لإدراكهِ خطورة هذا الموضوع في الحياة السياسية والفكرية والعقائدية للمسلمين .

وكان المُنطلق البحثي لهذا الموضوع هو العَطاء الفكري الثر في المؤلفات المُتنوعة للسيد الحكيم (قدس سره)، لاسيَّما موسوعته التي تناول فيها قضايا المرجعية والمَراجع بالتفصيل، لذا فقد كان لها الحضور الكبير في هذا البحث الذي توزَّع على مباحث عِدَّة أتت بعد هذه المُقدمة، والتمهيد الذي تناول الباحث فيه (المرجعية وحركة الواقع الاجتماعي).

إنَّ أوَّل هذه المباحث جاء لبيان (الحَوزة والقضايا الاجتماعية)، وما لها ولرجالاتها من دورٍ في المُجتمع الإسلامي والإنساني، والثاني منها خُصِّص لدراسة (المَرجعية وفَهم المجتمع وقيادته وادارته)، وبَيان كَيفية فَهم هذا الدور،أما الثالث فقد جاءَ لتناول (المَرجعية والمَشروع الحضاري في إصلاح المجتمع الإنساني)، والوقوف عند أهمِّ مَحاور ومَصاديق هذا الدور في الإصلاح الاجتماعي الإنساني.

لقد اعتمد الباحث مصادر عِدَّة، ومن أبرزها مُؤلَّف السيد الحكيم (قدس سره) الذي خَصَّصه لدراسةِ الحَوزة العلمية والمَرجعية في الموسوعة الكبيرة، التي كانَ مَوضوع البَحث في الجزءِ الأوَّل مِنها على وجهِ الخُصوص.

التمهيد

المَرجعية ُوحركةُ الواقعِ الاجتماعي

عند دراسةِ حركةِ المَرجعية في الواقع الاجتماعي واثرها في بناء ذلك الواقع، فأنَّ علينا أن نفهم المنطلق الأساس لتلكَ الحركة من خلال النظرة الاجتهادية الإسلامية في خط أهل البيت (عليهم السلام)، والذي انطلقَ من فكرة أنَّ الساحةَ لايمكن أن تخلو من حضور الإمام في حَركِيَّةِ إمامته، فالله لا يترك الأرضَ خالية من الحجة ،سواء أكانت الحجةُ حجةً أوليةً فيما تعطيه النبوة أو الإمامة مِن أصالتها أو كانت حجةً ثانوية فيما تتحرك فيه الإمامةُ لتمنح للعلماء امتداداتها؛ من خلال امتدادات كل المفاهيم التي تتحرك في الحياة سواء في المضمون الفكري الذي يُغني الذهن بالإسلام عقيدةً وفقهاً ومنهجاً وقاعدةً للحياة، أو في المَضمون الحَركي الذي يدور في الفَلَك الاجتماعي، أو على الأقل حين يكون الأفق الاجتماعي مِحورا رئيسياً من مَحاوِرهِ.

ولعلَّ المنطلقَ لتلك الحركية للمرجعية ما جاء في التوقيع المبارك للإمام المنتظر: «أما الحوادثَ الواقعة فارجعوا فيها إلى رواةِ حديثنا، فانَّهم حجتي عليكم، وانا حجةُ الله»، من هنا نهضَ العلماء بهذا العِبء الثقيل الذي حفظ الشريعة، وأنار الدربَ للأجيال والشعوب على مرِّ العصور بعد الغَيبة الكبرى. إنَّ في الفقه الإسلامي ما يُؤسَّس لتلك الحركية الاجتماعية للمرجعية بالإضافة إلى ما تقدَّم، وهو أن بعضَ المفردات الفقهية يُمكن أن تمنح الفقيهَ حركيةَ الواقع بحيث يستطيع أن يُوجِّه الناسَ إلى أن يدخلوا في صَميم الواقع حتَّى لو كان العنوان الكبير للواقع عنواناً لا يملك الشرعية، هناك عنوان (حفظ النظام)، ومسألة حفظ النظام العام الذي تحفظ به أموالُ الناس ودماؤُهم وأعراضُهم وكل خط السير في حياتهم هذا من الواجبات الكفائية على الناس جميعا، لا يجوز لأي إنسانٍ سواء أكان الحكم شرعيا أم غير شرعي أن يسيء إلى نظام الناس باعتبار أنَّ ذلك لا ينسجم مع الخط الشرعي في أنَّ اللهَ لا يريد الفوضى من أي إنسان في الوضع الاجتماعي، من هنا نجد الفقهاء يتفقون ـ على الرغم من بعض الاختلافات الاجتهادية ـ على انه إذا توقف حفظ النظام على إدارة الواقع من قبل حاكم أو سلطة ودار الأمرُ بين الفقيهِ وبينَ غير الفقيه، فان الفقيهَ يكون هو المتعين، فيكون وليا لا من خلال أنَّ موقعَ الفقاهة يفرض ولايته ولكنه وليّ باعتبار توقف حفظ النظام على أن يكون هناك قائد، وعندما يدور الأمر بين الفقيه وغيره، فأن قيادة الفقيه هي التي تفرض نفسها على ذلك الأساس، ومن هنا نجد الدورَ الفعال للمرجعية في قيادة المجتمع بصورة مباشرة أو غير مباشرة، والحفاظ على مصالح المستضعفين في فترات حكم أنظمة الجَور حتى زرعوا ارضَ التاريخ بقوافل الشهداء، والسعي بالمجتمع نحو مراتب الكمال التي رسمتها النظم الإسلامية ولاسيما النظام الاجتماعي منها.

إذن لم يكن العلماءُ بمنأى عن المجتمعِ الذي عاشوا فيه تبعاً لمسؤولياتهم الشرعية، فاصبحوا في خِضَم الأحداث لاسيَّما الاجتماعية منها، فوقفوا بوجه الحركات الهدَّامة والدخيلة مثلما تصدَّى أئمتنا من قبلهم لمثل هذه الأخطار التي تَتَجدَّد بتجدد الأعداء للملة والدِين، والتي انتهت بسلسلة الاستعمار الحديث للامة في القرون الماضية، وما جَرى للعالم الإسلامي بُعيد الحرب العالمية الثانية، وما أستتبعها من الحركات التبشيرية، والغزو الثقافي بوجوهه المُتعددة والتي انتَهت أخيرا بعنوانها البراق (العولمة).

أمام هذا كله وقفت المرجعيةُ طوداً صامداً، تكسَّرت عليه أمواجُ الغواية والتضليل، التي نادرا ما خرجت منه الأمم الأخرى سالمة، بل على العكس من ذلك استطاعت إعادة بناء الأمة بعد التشرذم والخواء الفكري والتردي الاجتماعي، فأسَّست حلم الأنبياء المُتمثل في قيامِ الجمهوريةِ الإسلامية في إيران، في الوقت الذي نشهد فيه ضَياع الآخر في تيه الغزو الثقافي حتى نزعَ حروفه واستبدلها بالحرف الغربي، وغدا جزءاًً لا يتجرأ من البِناء الغربي المُتَهَتِّك كما هو الحال في تركيا، ولعلَّ ذلك يعود إلى غياب المرجعية في البناء العقائدي لاولئك.

وهكذا اصبح َمن اليسر والسهولة أن نُشير الى العشرات من العلماء المُجتهدين الذين تركوا آثارهم في البناء السياسي والفكري والاجتماعي على وجهِ الخصوص في جَسَد الأمة، الذي اصبح مَنيعا أمام كلّ صنوف العَداء والتَّخريب، وحتى أولئك الذين تركوا بعضاً من هذه الآثار عند إخواننا في الطرف الآخر، نلمح آثارَ مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في تركيبتهم ومنظومتهم الثقافية كما هو الحال عند السيد (جمال الدين الأفغاني)، والشيخ (عبد الرحمن الكواكبي).

لم يقتصر الدور العلمائي على الفِقه والعلوم الدينية فقط بقدر ما كان دوراً شاملا لكل نواحي الحياة، والدليل على ذلك ما نجده في التقسيم الواضح في الرسائل العملية من (عبادات) و(معاملات) في معالجة الأمور الدينية والدنيوية لدَيمومة بناء المجتمع المُحمَّدي الأصيل.

إنَّ الحوزةَ العلمية مُؤسسةٌ رئيسة من مؤسسات الدولة الإسلامية عندما شاء الله أن يكون نصيب الرسالة الخاتمة التي هي خاتمة الرسالات الإلهية قيام الدولة والكيان السياسي بكل إمتداداته[2]، والتي يُعد البُعد الاجتماعي واحدا ًمن أبرزها لارتباطه ببناء الُّلحمة الأساسية للمجتمع الإسلامي، ثم أنَّها تُشكل جزءاً مُهِمَّا من أجزاء الرسالة المحمدية[3]، وكانت المشروع الرئيسي لأهل البيت (عليهم السلام) الذين كانوا يُحققون من خلاله أهدافَهم، ويُمارسون نشاطَهم العام في المُجتمع الإسلامي[4].

واستطاعت الحوزة ُبعلمائِها المُجتهدين أن تصمد عِبر العصور أمام المِحَن والابتلاءات، وعمليات الَقمع، والإبادة، والمُطاردة التي واجهتها في التاريخ، فقدمت الشهيد تِلوَ الشهيد في سلسلةٍ ذهبيةٍ كان آخرها السيد محمد باقر الحكيم شهيد المحراب (قدس سره)، ولم ينحصر رجالُها في المَساجد والتكيات او في أبراجٍ عاجية كما أراد لها أعداءُ الأمة.

لقد تعدَّدت الأدوارُ والساحاتُ التي خاضها المُجتهدون، ولم يتركوا مساحةً دونما اثر إصلاحي، بالإضافة إلى دورهم في حِفظ الشريعة ومعالم الدين الحَنيف، فكانوا المُحرِّك الفعَّال للامةِ الذي يُحسَب له الأعداءُ ألفَ حِساب كما هو الحال في مراجعنا اليوم والذي يُمثل السيد السيستاني (دام ظله) مِصداقاً من مصاديقهم.

المَبحث الاول

الحوزةُ العلمية والقضيةُ الاجتماعيةُ في رأيِ السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره)

بيَّن السيدُ الحكيم (قدس سره) خصائصَ الحوزة العلمية، والتي حَدَّدها في:

أوَّلاً: العالمية في الحوزة العلمية, والتي قصد بها عالمية المِحور الحركي للحَوزة وعلمائها على الصُعُد كافَّة، باعتبارها تنبع من رسالةٍ عالمية جاء بها المصطفى للعالم اجمَع.

ثانيا: الحالة التطوعية للحوزة، فهي تطوعية في كلِّ شيء، فالانتماء لها والارتباط بها ليس مُجرَّد ارتباط بمهنة أو حرفة، حتَّى لو كانت تلك المِهنة من المِهَن الشريفة.

ثالثا: الاجتهادُ المِنضَبط، لذا فأن إبقاء الحركة العلمية نشيطة مُنفتحة قادرة على مواجهة كل المشكلات والحوادث التي تعيشها الأمة،وفي ضِمن الضوابط والأصول الموضوعية لهذه الحركة، من القضايا التي جعلت هذه المؤسسة قادرة على التكيف ومواجهة المشكلات والأحداث والتطور والنمو، وعدم الجمود أوالوقوع في حالة الانفلات، والخروج عن الحالة الضبطية، وهذا واحد من الأسباب التي يجب أن تجاهد لاجلها، وتقف فيها موقفاً صلبا، كما وقفه أئمةُ أهل البيت (عليهم السلام).

رابعا: التقوى والاخلاق، وهي من أهمِّ المميزات في حوزتنا العلمية التي أكَّد عليها الإسلام، فلا بدَّ أن يتمتع المجتهد بالروحية التي كان يُجسدها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة الأطهار (عليهم السلام)، ليكونوا قدوة كما كان رسول الله، وليكونوا قادرين على التأثير في حركة مسيرة الأمة.

خامسا: استقلالية الحوزة، وهو أحد العناصر المُهمة، وهذه قضية مهمة جدا في مسيرة الحوزة وعلمائها، فقد أُريدَ لها أن تُعبر عن الإرادة الإلهية، وان لا تخضع لأيَّةِ إرادةٍ أخرى، فقد أُريد للحوزة أن يكون لها هذا الدور (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً)[5]، فاحتفظ العلماءُ بالاستقلالية في قرارهم على مرِّ العصور ولم يتأثروا بالوعد أو الوعيد الصادرين عن الأمراء والسلاطين، مِمَّا جعل لهم صورةً مُشرقةً ومُشَرِّفَة إلى يومنا هذا، واصبح لهم تأثير في النفوس والعقول في قيادة الأمة والتأثير فيها.

سادسا: الاهتمامُ بالقضية السياسية، باعتبار أنَّ السياسة جزءٌ رئيسيٌّ من قضايا الأمة، واعتبار الحركة السياسية حركة ربانية إسلامية يُراد مِنها إبلاغ الرسالات، وهي افضل عمل عند الله يُمكِن أن يقومَ بهِ الإنسانُ عندما يكون ضِمن الضَّوابط والالتزامات الشرعية التي وضَعها اللهُ سبحانه وتَعالى.

سابعا: اهتمام الحوزة بالقضية الاجتماعية، فالحوزات العلمية بعلمائها أُريد أن يكون لها دور في حركة الأمة وبنائها الاجتماعي، فالإنسان عنصرٌ مُهمٌ ورئيسيٌ في الرسالةِ الإسلامية[6]، وهذه الخِصِّيصةُ هي التي ينطلق منها البحث في العنوان المَطروح.

ولعلَّ المُنطلق في هذه الخصيصة ـ في ضوءِ رُؤيةِ السيد الحكيم ـ «هو أنَّ المجتهد عند انتمائه للحوزة لايعني أن يكون متعبدا فيلزم الحرمَ الشريف بالعبادة، ويكون مُكِبًّا على الكتاب ليلا ونهارا، وان يكون زاهدا متواضعا، ولكن لابُدَّ أن يَفهم أنَّ هذا الانتماء هو انتماء إلى الرسالةِ وليس انتماء إلى الذات، فمن يريد أن يكمل نفسه ببعض الأمور، يفقد هدفه وغايته ودوره، وبالتالي يفقد نفسه، ولذلك دلَّلت الروايات ُعلى أنَّ طالبَ العلم افضل من العابد، لان طلب العلم يُراد منه نشر العلم والعمل به، فإذا فقدت هذه الغاية فقد اصل هذا الانتماء»[7].

ويرى (قدس سره) أنَّ الحوزةَ العلمية ـ بعلمائها ـ تحتاج إلى أن تَنفَتِح بمجموع حركتها على الأمة، وهذا وعيٌ لا بُدَّ أن يترسخ في أعماق هذه الحوزة فمن الضروري أن تنفتح على مشاكل الأمة، لانَّ امتَنا الإسلامية تعيش مشاكل كثيرة من خلال الغزو الفكري والثقافي للأعداء[8]، وانتهى ذلك كله بالتأثير في القيم الاجتماعية وبُنيتِها التي رسمها القرآنُ الكريم، لانَّ الغزوَ الثقافي يُقابَل بما تقوم به الحوزة والمرجعية مِن إعطاء الجواب الصحيح، والرؤية الواضحة التي تنطلق من الإسلام في قِبال ما يُشاع من ضَلالات، وانحرافات، وبِدع، واثارات تُؤدِّي إلى تشويش أفكار الناس، وبالتالي يَعم الخرابُ الاجتماعي حين يتفرقون ويتمزقون، ويضرب بعضُهم رقابَ بعض.

إنَّ الأمةَ كما يرى (قدس سره) لديها مشاكل اجتماعية حقيقية، والرسالة الإسلامية رسالة كاملة، وفيها حلٌّ لكلِّ مشكلةٍ وحادثة، والحوزة والمرجعية هي التي تقوم بذلك كله[9]، من هنا تحتاج إلى الانفتاح على الأمةِ لحلِّ مشاكلها والرقي ببنيتها الاجتماعية.

وقبل هذا وذاك تأخذ المرجعية دورَ الإصلاح على عاتقها، بل أخذته طيلة قرون طوال، ولعلَّ الحقبة الأخيرة التي تمثَّلت بفترةِ ما بعد الحرب العالمية الثانية وما استتبعها من أحداثٍ، ولغايةِ سقوط صدام أخرجت للناسِ أمثلةً واضحةً للمُصلح المرجع ابتداءً بالسيد الحكيم الأب (قدس سره) ومُرورا بالشَّهيدين الصَدرين (قدس سرهما) وانتهاءً بالدورِ الفعَّال للسيد الخميني (قدس سره) في قيادة الأمة والعروج بها نحو مَدارجِ الكَمال، وبِما يَقوم بهِ المَراجع اليوم في رَدمِ الخراب الاجتماعي الذي حلَّ بعراقِ اليوم بسببِ الانفتاح المُفاجئ على العالم بصورةِ كاملةٍ، وما ينهض به السيد السيستاني (دام ظله) يعتبر مِصداقا من مصاديق هذا التصدي.

المبحثُ الثاني

المَرجعيةُ وفَهم المُجتمع وقيادته وادارته

رسم السيدُ الحكيم (قدس سره) صورةً كاملة وواضحة في بيان فهم المرجعية للمجتمع، وقيادته، وادارته، على أساس نظرية الإسلام الكاشفة عن دور الأنبياء (عليهم السلام)، والأوصياء من بَعدهم ؛ ومِنهم أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، ثم العلماء باعتبارهم ورثة الأنبياء، كما جاء في الحديث النبوي الشريف: «إنَّ العلماءَ هم ورثةُ الأنبياء»[10]، وباعتبارهم أُولي الأمر، وهُم في الوَقتِ نفسه يُمثلون القيادة السياسية للمجتمع، والقضاة الذين يفصلون الخلافات بين الناس[11].

إنَّ لهم في ذلك اسوة بأهل البيت (عليهم السلام) الذين قاموا بدورهم في قيادة المجتمع الإسلامي، وادارة شؤونه على الرغم من الاستبداد الأموي والعباسي لهم، فقضوا بين مَقتولٍ ومَسمومٍ باستثناء الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، الذي سيكون له الدور العالمي في قيادة البشرية نحو العدل ليملأ الأرض قَسطاً وعَدلًا، بعد أن مُلِئَت ظلما وجورا .

وتمثَّل هذا الدور في الطليعة الأولى للمرجعية حتى يومنا هذا، بِدءا من مُؤسس حوزة النجف الاشرف ـ قَبل اكثر من ألف عام ـ المُلقَّب
ب ـ (شيخ الطائفة)، إذ تَعرَّض للمُطاردة والتَّشريد، فَهُجِم على بيته، وأُحرِقت مَكتبتُه، ومِنبره، وهكذا الأمرُ بالنسبةِ للشهيدين الأول والثاني[12]، اللَّذَين يُعتبران مِن أعلام المَراجِع الكِبار، وما زالت مؤلفاتهم تُدَرَّس إلى يومنا هذا، وهكذا توالت شهاداتُ العلماء نتيجة قيادتهم للأحداث التي ترتبط بمصالح الأمة حتَّى تُوِّج بالانتصارِ الكبير الذي حَقَّقه الإمام الخميني (قدس سره) بإقامة دولةِ الإسلام، بعد أن تعرَّض لألوانِ النفي والتَّشريد، مثلما تعرَّض للسجن والاعتقال[13].

وفي المُجتمع العراقي تصدَّى الكثيرُ من المراجع الذين كان لهم دورٌ ريادي في حركة المجتمع بكلِّ أبعادها ومُرتكزاتها، ومن ابرز هؤلاء المراجع العظام الذين أشار السيد الحكيم (قدس سره) في معرض حديثه عن الدور الريادي للمرجعية في المجتمع نجد:

1) مرجعية السيد مُحسن الحَكيم (قدس سره)

وقد كان عالماً رباَّنيا شهدت له الحَوزات العلمية بكلِّ حواضرها، من خلال كُتبهِ وطلابهِ، على الرغم من ابتلاءه بمختلف الأمراض في أواخر أيام حياته، غير انَّه لم يترك دورَ التربية والتعليم، إلى جانب وقوفه مع حقِّ الأمة، والتصدي للظالمين، فعبَّأ الأمةَ روحيا ومعنويا، وحاول وضع الحواجز بينَ البعثيين والشعب العراقي[14]، لِدرءِ الخَطر الهدَّام عن بُنيةِ المُجتمع العراقي وكيانهِ .

وحِرصا منهُ على وحدةِ المجتمع العراقي بسنتِهِ وشيعَتِه، بكُردهِ وعُربهِ، أصدر تلك الفتوى ذائعةِ الصيت التي حرَّم فيها القتالَ ضدَّ الاخوة الكُرد بجانبِ النظام البعثي أبان الحملة القمعية التي قام بها النظامُ البعثي المقبور ضدَّ الأكراد، والتي حقنت دماء الكثير من أبناء المجتمع الواحد، وما زال الكرد يذكرون أثرَ تلك الفتوى في حقنِ دمائهم التي استرخصها فقهاءٌ كثيرون مِمَّن هُم يُحسَبون على مَذهبهم، واستطاع النظامُ البعثي الحصول على فتاوى جاهزة جَهلا مِن هؤلاء بدور العلماء في وحدة الأمة، أو خرابها لا سامح الله.

لقد استطاع هذا العالم الربَّاني أن يقود الأمة ليَصِل بها إلى حَدِّ الامتثال للأمر الإلهي، الذي يضمن وحدةَ وقوة َنسيج المجتمع العراقي الواحد في اشدِّ ظروف القَمعِ السياسي.

2) مَرجعية الإمام الشهيد الصَدر (قدس سره)

وهو العالم بكلِّ ما تعنيه الكلمة من معنى، الذي كان عارِفا وعالِما بمُختلف أبعاد المعرفةِ الإسلامية، ومُؤلَّفاته، وكُتبهِ، وأبحاثهِ، ونتاجاتهِ، وآثارهِ العلمية التي أصبحت واضحة للعيان، وقد كان مُتميزا في عملهِ، وفضلهِ، وعُمقهِ، وسِعتهِ، وتناوله لكلِّ الأبعاد العلمية … لكنه في الوقت نفسه كانت له مواقف تَضحوية لا يُمكن أن يتحملها إلاَّ مثل هذا العالم الربَّاني[15].

لقد أخذَ دوره الفاعل قي قيادة المجتمع من خلال تصَدِّيه للواقع أبان انتصار الثورة الإسلامية في إيران، مع علمه بخطورة هذا الموقف وبكلِّ مأاستتبعه من أخطار، و «قدَّم نفسه بعد ذلك قُربانا من اجلِ القِيم والمُثل والمَبادئ، وضحَّى بنفسه، وأخته العلوية الفاضلة الشهيدة، ليضرب المَثل الأعلى للتضحية في هذا العصر»[16].

وللدليل على حركيته الإصلاحية الاجتماعية نجد الكثيرَ من الشباب والشابات المُؤمنين والمؤمنات من أطباء، ومهندسين، وموظفين، وعسكريين، وفلاحين، وكَسبة، من مُختلف الطبقات الاجتماعية قد انخرطوا في العمل تَحت لواء هذا العالم الربَّاني العامل بكلِّ تفان واخلاص، «وكانت الواجهة والوجه الناصع الصحيح لهذه الحركة كانت دائما هي الحوزة العلمية التي تتقدم في هذا الطريق، لان هذا الموقف يُمثل أصلا من أصولها، ولا يمكن بأيِّ حالٍ من الأحوال أن تتنازل عنه»[17].

3) مَرجعية الإمام الخُوئي (قدس سره)

وله (قدس سره) دوره الفاعل والمؤثر في البُعد الاجتماعي في حياته الشريفة، والتي من أوضح مصاديقها ما كان له من دور في الانتفاضة الشعبانية التي اندلعت في (15) شعبان عام 1411ﻫ بعد هزيمة صدام في حرب الخليج الثانية، التي عبَّر فيها الشعبُ العراقي المُسلم عن موقفه الواقعي والحقيقي تجاه حزب البعث الكافر، فهو (قدس سره) مع انشغاله بالدرس والتدريس، وقيادة الحوزة العلمية التي كان زعيمها، قام بوظيفة الشرعية عندما تصَدى لقيادة الأمة، وتحمَّل في سبيلِ هذه الوظيفة مُختلف ألوان الأذى والاضطهاد، ويقول السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) في هذا الخصوص: لازلت أتذكر تلك الرسالة الشريفة التي أرسلها الإمام الخوئي لي على يدِ بعضِ العلماء عندما جاؤوا إلى (قم) وطلبوا لقاء خاصًا، وكان اللقاء من اجلِ إبلاغي هذه الرسالة، التي كان يقول فيها هذا العالم «قُل لفلان ـ ويقصد السيد الحكيم ـ إنَّني بذلتُ كلَّ ما في وِسعي من اجلِ هذا الأمر، وهذا ما أستطيعه»[18].

ونظراً للظروف القاسية التي عاشها بعد اعتقاله تدهورت صحتُهُ فتوفي في 8 /8/ 1991م في الكوفة، وكانت وفاتُه أشبه بالشهادة إن لم تًكن كذلك.

إذن فالعلماء من ناحيةِ التفاعل مع الحدث الاجتماعي كان لهم دورُهُم في قيادة الأمَّة وتوجيهها، فقدَّموا مُختلف ألوان التضجية والفِداء، وتركوا آثاراً في الصلاح والإصلاح الاجتماعي، ابتداءً من الأسرةِ وانتهاءً بالبُنيةِ الاجتماعية الكُبرى للامة.

المبحث الثالث:

المرجعيةُ والمَشروع الحَضاري في إصلاحِ الُجتمع الإنساني

لا يخفى على أحدٍ دورُ الإسلام في بناءِ المَشروع الحضاري للمجتمع الإنساني، والذي أصبحت المرجعية فيه مَرحلة من مراحل استكمال هذا البناء، الذي تَهيَّأ وانطلق من ضرورة قيادة العلماء للامة بعد الغَيبة الكُبرى للإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، لذا فقد اصبح مِن السَّهل أن نتصور حيوية الإسلام ونُظُمهِ وحركية علماء الأمة في عمليةِ صِنع الحضارةِ الأنسانية بكلِّ أبعادها، والتي كان البُعدُ الاجتماعي واحداً مِنها.

إنَّ المرجعيةَ هي الضامِن لصَون الأمة مِن العَثرات ومُواجهة التحديات، وانفتاحها على التجربةِ الإنسانية والإسهام في التَّفاعل الحضاري للأمم والشعوب، والذي باتَ اليوم يُمثل هاجِسا للأمم والشُّعوب مِمَّا يُعرف بالعولمة، إذ لولا الدور الريادي للمرجعية في إدارة دفة المُجتمع الإسلامي وسط هذا السَّيل العالمي من الشُبَه والانحرافات والابتذال المَعرفي، لَغَدَت الأمةُ واحدةً من الأمم التي جرفها السيلُ، فتغدو بعيدةً عن دينها وثقافتها ولُغتِها كما هو الحال في كثيرٍ من الشعوب حتَّى في الإطار الإسلامي عند أخوتنا أصحاب مدرسة الخلفاء، كَما حَصل للشعبِ التركي حين فَقَد هويَّته الإسلامية وانسلخَ مِنها بسببِ غياب المَرجعية في البُنيةِ الاجتماعية، في الوقت الذي حاول فيه المستعمرون تطبيق مثل هذا الأمر على الشعب الإيراني المُسلم ابان حُكم الشاه وابيه، إلا أنَّ الوجودَ المبارك للمرجعية وقفَ حائِلا دون ذلك، بل واصل مِشواره ليُحقق حلمُ الإنبياء على يدِ مُؤسِّس الثورة الإسلامية السيد الخميني (قدس سره).

ولم يقف الأمرُ عند هذا الحدِّ بل تعداه ليجعل من المُجتمع الإسلامي رائداً في بِناء الحضارةِ الإنسانيةِ على الصُعُد كافة لاسِيَّما الصَعيد الاجتماعي منها[19].

مناهِج الإصلاح

وضَّحَ السيدُ الحكيم (قدس سره) مناهجَ الإصلاح من وجهةِ نظرهِ، فوضعه في مَنهجين رئيسين، قد يلتقيان في بعضِ المُفردات والمصاديق، ولكنهما يختلفان بشكلٍ رئيسي في المُنطلقات الأساسية والتصور العام، وهُما :

1 ـ مَنهج الإصلاح الكُلِّي، وهو الانطلاق بالإصلاح من النظرية الإسلامية، عقائدياً، وفكرياً، وسياسياً، واجتماعياً ـ وهو محل البحث ـ والنظرة العامة في هذا المنهج هي نظرةٌ كليةٌ وشمولية، تُؤمن بالتَّرابط المَوضوعي والعلاقة التركيبية، والتأثيرات المُتبادلة الإيجابية أو السلبية بينَ المُفردات والأجزاء والمَصاديق، وهو مَنهجُ ينطلق من الرؤية الكلية العامة والمسؤوليات الرئيسة للامة، والقضايا التي تعيشها في أيِّ عصرٍ وزمان، وهذا المَنهج ينطلق من تصورٍ شاملٍ وعامٍّ بحيث يرى ارتباطاتها بعضُها بالبَعض الآخر، ويتفاعل معها، ويُؤثِر العملَ في هذا الميدان من قضايا الأمةِ على الميادين الأخرى، إذاً فهذا المنهج ينطلق من نظرةٍ كليةٍ شموليةٍ لمجموع ِقضايا الأمة، ويمثل هدفاً رئيساً شامِلا بالنسبةِ لاهداف الأمةِ، ويرتَكزُ على نِقطتَين:

* النظرةُ للقضايا العامة لا الجزئية والمُفردات التفصيلية هنا وهنالك.

* يُركِّزُ بينَ هذه القضايا بنظرة شمولية، بحيث يعتبر القضايا الكبيرة تمثل جزءاًً من الكلِّ، وينظر إلى ذلك الكل الذي يربط القضايا بعضها مع البعض الآخر.

وهنا أمران يُؤكِّدان على جانبين مُهِمَّين هُما :

أ ـ اعتبار الحَوزة وعلمائِها المنطلق للإصلاح والإطار العام له.

ب ـ الأهداف والهموم الكلية التي يتبناها هذا المنهج، ومن خلال خصوصيةِ الأهداف والهموم يمكن أن تنطلقُ من اصغرِ قضايا الأمة وابسطِها .

2 ـ منهجُ الانطلاقِ بالإصلاح من مفرداتِ المشاكل القائمة في المجتمع الإنساني وتفاصيلها الجزئية لمعالجتها واحدةً بعد الأخرى ضِمن النظامِ القائم والواقع المُعاش، وحسبِ الإمكانات المَيسورة في هذا الشَّخص وهذهِ الجَّماعة، والأولويات في فَهمِ المُشكلة وحَجمها وأهميتها في المُجتمع، أو دورها في الإصلاح العام[20].

والنظرةُ في هذا المَنهج نظرةٌ تجزيئية، وهي تَرى أنَّ إصلاح الأجزاء والمفردات والمصاديق، وضمِّ بعضِها إلى الآخر يُؤدي في النهاية إلى إصلاح الكل، لانَّ الكلَّ هو مجموع هذه الأجزاء، أو إنَّها ترى: أنَّ المَيسور من الإصلاح أو المُمكن منهُ هو الإصلاح الجِزئي في هذه المفردة أو تلك،لانَّ الإصلاح العام يَتَعذَّر[21].

ويرى السيدُ محمد باقر الحكيم أنَّ هذين المَنهجين يلتقيان في الاهتمام بهذه المُفردة أو تلك إلا انهما يختلفان بينهما بصورةٍ أساسيةٍ في المنطلقات لِفَهم عملية الإصلاح والنظرة العامة للأشياء، أو التقدير للظروف الأساسية والاجتماعية[22].

ويرى (قدس سره) أنَّ حركةَ الإصلاح التي قامت بها الحَوزةُ وعلماؤها شهدت في تاريخها المعاصر كِلاًّ من المَنهجَين، ولكلٍّ منهما رجالُه وشخصياته، من الناحية الخارجية والظاهرية، والتي استُكشِفَت من خلال السلوك والمواقف[23].

وتمثَّل دورُ المرجعية في قيادةِ حركةِ الإصلاح من وِجةِ نظرِ السيد الحكيم (قدس سره) في محاورِ ولكلِّ مِحورٍ روَّادُهُ وهي:

1 ـ مِحور الحركة الإصلاحية المُنطلق من مؤسَّسةِ الحوزة ورجالِها إلى إطارٍ عام للعمل الإسلامي، ليستوعِب أوساط الأمةِ كلها تنظيميا لتَتَبنَّى هموم الأمة وقضاياها المَصيرية من اجلِ إصلاح المجتمع والأوضاع العامة للامة للانطلاق بها لقيادة المجتمع الإنساني، وتمثَّل ذلك في مَصاديق عديدة منها ما قامَ بهِ علماءُ الحَوزة العلمية في قيادة ثورة العشرين في العراق، في الخامس عشر من شعبان سنة 1338ﻫ ضدَّ التسلط العَسكري بعد الحرب العالمية الأولى، ومن العلماء الذين قاموا بذلك ـ فأبعدتهم قوات الانتداب البريطاني ـ آية الله الشيخ الخالصي، والمرجع آية الله الشيخ النائيني، وآية الله السيد الاصفهاني، ومن مصاديقها أيضاً المرجع السيد محسن الحكيم (قدس سره) في العِقدَين الثامن والتاسع الهِجرِيَّين، حينَ تصدَّى للمدِّ الشيوعي الذي غزا العالمَ اجمع وامتد خطرُه إلى العالمِ الإسلامي، فاستطاع أن يُوقِف ذلك المدَّ ويَحدَّ من خطورتِهِ.

2 ـ محور الالتزام في اتجاه الاصطلاح بالحَوزة العلمية ومؤسساتها التي قامت بالأعمال الآتية:

أ ـ إيجاد المؤسسات المُساندة المُختصة للقيام بالأعمال والنشاطات الخاصة، كمؤسساتِ النشر والتحقيق أو المكتبات العامة أو الأعمال الخَيرية.

ب ـ محاربة الفئات الضالة في الأمة الإسلامية ـ عَقائدياً ـ كالبَهائية والوهابية والنواصب والغِلاة، وحركاتِ التَبشير المسيحي.

ت ـ تأسيس المدارس الدينية الحديثة التي تجمع بينَ المَنهج العام والتربية الدينية الخاصة،وكذلك المؤسسات الثقافية الحديثة الدينية كالمنتديات والجمعيات والدراسات التأهيلية.

ث ـ الانفتاح على أوساط المذاهب الإسلامية، علماء، ومثقفين، ومفكرين، وأدباء بهدف التقريب المَذهَبي والتَّعاون المُشترك.

ج ـ تطوير وتنشيط حركة التبليغ وإرسال البعثات التبليغية في مناطق الفراغ أو الحَج، واستخدام الأساليب الجَّديدة في التبليغ والنشر، كإصدار المَجَلات والمنشورات والدوريات، وتَبسيط المَفاهيم الدينية وشَرحِها.

ومن مصادبق علماء هذا المِحور السيد البروجردي  والشهيد البهشتي و آية الله العظمى السيد شرف الدين، والمرحوم الشيخ الاخوند الخراساني[24].

3 ـ محورُ الحَركة الإصلاحية في الالتزام بالمَنهج الشمولي الكلِّي في الإصلاح، والذي كان معنياً بإصلاح الأوضاع السياسية العامة، والتي استخدم المراجعُ العلماءُ فيها المؤسساتِ الدينية والنشاطاتِ الشعائرية العامة كالاحتفالات والمجالس الحسينية بالحوزة واجهات لاعمالها ونشاطاتها أو مراكز تنطلق منها، ولعلَّ من ابرزِ الأحزاب الإسلامية التي أسَّسها العلماءُ حزب (جمعية النهضة الإسلامية) التي أسَّسها السيدُ (محمد علي بحر العلوم) والعلامة الشيخ (محمد جواد الجزائري)، وآخرون أثناء حركة الجهاد ضد الاستعمار الإنجليزي ،والتي يُنسَب إليها ولبعض أفرادها عملية ثورة النجف الاشرف سنة 1338ﻫ، وكذلك حركة (فدائيان إسلام) في إيران التي قادها العلامة السيد (نواب صفوي) وبرعاية ودعم من آيةِ الله السيد أبى القاسم الكاشاني، وحركة (أمل) التي أسَّسها العلامة السيد (موسى الصدر) في لبنان، ومن ابرز مصاديق هذا المحور رائد الإصلاح الاجتماعي في العصر الحديث آية الله العظمى السيد الخميني (قدس سره) والذي حقَّق حلم الأنبياء بتأسيسهِ دولةَ الإسلام في إيران[25].

وذهبَ السيدُ محمد باقر الحكيم بتفصيلٍ دقيق ليُبَيِّن الدورَ الفاعل للحوزةِ ورجالِها في قيادة الأمة والسَّعي بها إلى معارجِ النور في موسوعتهِ التي خصَّصها لهذا الموضوع، بالإضافة إلى ما سجَّله قلمُهُ الشريف مِن كتابات مُتناثرٍة بينَ ثنايا المُؤلفات الكثيرة له (قدس سره).

المصادر والمراجع

ـ القرآن الكريم.

ـ بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، ت (1111) ﻫ، مطبعة مؤسسة الوفاء، بيروت، 1983م.

ـ الكافي، ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني، دار الأضواء، بيروت، 1405ﻫ ـ ق.

ـ الكنى والألقاب، عباس ألقمي ت ( 1359) ﻫ، مطبعة النجف الأشرف (د.ت).

ـ المجتمع الإنساني في القرآن الكريم، السيد محمد باقر الحكيم، المركز الإسلامي المعاصر، بيروت، لبنان، 2003م.

ـ موسوعة الحوزة العلمية والمرجعية، السيد محمد باقر الحكيم، مؤسسة تراث الشهيد الحكيم (قدس سره)، النجف الاشرف، 2005م.

[1] صدر عن المركز الإسلامي المعاصر، بيروت، لبنان، 2003م، ويقع في (507) صفحة.

[2] ينظر: موسوعة الحوزة العلمية والمرجعية، السيد محمد باقر الحكيم، مؤسسة تراث الشهيد الحكيم (قدس سره)، النجف الاشرف، 2005م، ج 1: 23.

[3] ينظر: المصدر السابق: 25.

[4] ينظر: المكان نفسه.

[5] سورة الأحزاب: 39.

[6] فصَّل السيدُ الحكيم (قدس سره) هذه الخصائص بالتفصيل، وقد ذكرناها للانطلاق إلى الخصيصة الأخيرة باعتبارها مَحل الدراسة والبَحث، فمن أراد التفصيل فعليه الرجوع إلى: موسوعة الحوزة العلمية والمرجعية، الجزء الأول: 34 – 69.

[7] المصدر السابق ج 1: 65 ـ 66.

[8] المكان نفسه.

[9] ينظر: المصدر السابق، ج 1/ ص: 67.

[10] ينظر: ما ورد في خصوص هذا الحديث في: بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، ت (1111) ﻫ، مطبعة مؤسسة الوفاء، بيـروت، 1983م، ج 108 / 24. والكافي، ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني، دار الأضواء، بيروت، 1405ﻫ ق، ج 1/ 32، الحديث الثاني.

[11] ينظر: الحوزة العلمية والمرجعية، ج 1/ 227.

[12] وهما: الشهيد الأول الفقيه (محمد بن مكي جمال الدين العاملي، ولد عام 734 هجرية في جنوب لبنان واستشهد في سنة 786 ﻫ على يد الملك (بيدمر) في دمشق، والشهيد الثاني هو الشبخ (زين الدين بن نور الدين العاملي الجعبي)، ولد في 13 من شوال سنة 911 في جنوب لبنان، واستشهد سنة 965 ﻫ، بعد أن قُبض عليه بأمر السلطان سليم ملك الروم، وفُتل على طريق البَحر إلى  قسطنطينية، وبقي مَطروحاً ثلاثة أيام، ثم القوا جسده الشريف في البَحر.  ينظر: بحار الأنوار، ج 104/ 178. و: الكنى والألقاب، عباس ألقمي ت (1359) ﻫ، مطبعة النجف الأشرف، ( د.ت) ، ج 2/ 378.

[13] ينظر: الحوزة العلمية والمرجعية ، ج 1/ 238 ـ  239.

[14] ينظر: المصدر السابق، ج 1/ 241.

[15] ينظر: المصدر السابق ، ج 1/ 242.

[16] المصدر السابق، ج 1/ 243.

[17] المكان نفسه.

[18] المصدر السابق، ج 1/ 245.

[19] ينظر: المصدر السابق ج 1: 273.

[20] ينظر: المصدر السابق ج 1: 274 ـ 275.

[21] ينظر: المكان نفسه.

[22] ينظر: المكان نفسه.

[23] ينظر: المكان نفسه.

[24] ينظر المصدر السابق، ج 1/ 288 ـ 299.

[25] ينظر: المصدر السابق،ج 1/ 300 – 301.

]]>
http://al-hakim.com/?feed=rss2&p=2950 0
تفسير القرآن في أدبيات الشهيد السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) http://al-hakim.com/?p=2943 http://al-hakim.com/?p=2943#respond Wed, 20 May 2015 07:33:26 +0000 http://al-hakim.com/?p=2943 tt

بحث شارك في المؤتمر الثاني لإحياء التراث الفكري والعملي للشهيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم

الباحث: الاستاذ المساعد د. فيصل مفتن اللامي

رئيس قسم اللغة العربية ـ كلية التربية ـ جامعة ميسان

الحمد لله الذي انزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله الذي ارسله ربه شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بأذنه وسراجاً منيراً فكان القرآن هو الهداية والحجة، ولم يكد هذا القرآن يقرع أذان القوم حتى وصل إلى قلوبهم، وتملك عليهم حسهم ومشاعرهم،وكان القوم عرباً خلّصاً يفهمون القرآن ويدركون معانيه ومراميه فهما لاتعكره عجمة، ولا يشوبه تذكير.

التفسير في اللغة: هو الايضاح والتبيين، ومنه قوله تعالى في سورة الفرقان اية: 33: (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) أي بياناُ وتفصيلاً، وهو مأخوذ من الفسر وهو الابانة والكشف، وقال في القاموس: الفسر: الابأنه وكشف المعاني كالتفسير، والفعل كضرب ونصر…[1].

وقال في لسان العرب: الفسر: البيان: فسُر الشئ يفسر بالكسر ويفسره بالضم فسراً، وفسره ابانه[2].

وقال أبو حيان في البحر المحيط.. «ويطلق التفسير أيضا على التعرية للانطلاق»[3]. ومن هذا يتبين لنا أن التفسير يستعمل لغة في الكشف الحسي وفي الكشف عن المعاني المعقولة واستعماله في الثاني أكثر من استعماله في الاول.

أما التفسير في الاصطلاح، فيرى بعض العلماء: أن التفسير ليس من العلوم التي يتكلف لها حد، لأنه ليس قواعد او ملكات ناشئة من مزاولة القواعد كغيره من العلوم التي امكن لها أن تشبه العلوم العقلية، ويكتفي في ايضاح التفسير بأنه بيان كلام الله او انه المبين لألفاظ القرآن ومفهوماتها[4].

ويرى بعض آخر منهم: أن التفسير من قبيل المسائل الجزئية او القواعد الكلية او الملكات الناشئة من مزاولة القواعد، فيتكلف له التعريف، فيذكر في ذلك علوماً اخرى يحتاج إليها في فهم القرآن كاللغة والصرف، والنحو، والقراءات وغير ذلك[5].

وعرفه بعضهم بأنه علم نزول الايات، وشؤونها، واقاصيصها، والاسباب النازلة فيها ثم ترتيب مكيها ومدنيها، ومحكمها ومتشابها، وناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامها ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفسرها وحلالها وحرامها، ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها، وغيرها وامثالها[6].

وهذه التعاريف تتفق كلها على أن علم التفسير علم يبحث عن مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية، فهو شامل لكل ما يتوقف عليه فهم المعنى وبيان المراد.

أما التأويل في اللغة: التأويل من الاول وهو الرجوع: قال في القاموس: ال اليه اولاً ومالا: رجع، وعنه ارتد.. ثم قال وأول الكلام تأويلاً وتأوله دبره وقدّره وفسره، والتأويل لعبارة الرؤيا[7].

أما التأويل في الاصطلاح: فالتأويل عند المتأخرين من المتفقه والمتكلمة والمحدثة والمتصوفة: هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل تقترن به[8].

التفسير عند اية الله السيد محمد باقر الحكيم

لقد تناول الشهيد السيد محمد باقر الحكيم موضوع التفسير في ابحاثه وكتبه، وفي محاضرات قد وفق لالقائها على طلبة كلية اصول الدين في بغداد ومنذ بداية تأسيسها في عام 1348ﻫ / 1964م، وقد راعى في هذا التدوين المستوى العلمي البسيط لهذه المرحلة، ولكنها مع ذلك جاءت هذه الكتابة مشتملة على لفتات علمية وابتكارات نظرية في هذا العلم الشريف. فقد تناول موضوع التفسير والمفسرين كأبحاث معنى التفسير والتأويل وشروط المفسر، والتفسير بالرأي، وتأريخ التفسير عند اهل البيت (عليهم السلام).

فقد ذكر معنى التفسير في اللغة والاصطلاح، فالتفسير في اللغة والبيان والكشف في القرآن الكريم بهذا المعنى قال تعالى: (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) فتفسير الكلام ـ إي كلام ـ معناه الكشف عن مدلوله، وبيان المعنى الذي يشير اليه اللفظ.

وسيراً مع هذا الاتجاه لايكون من التفسير الا اظهار احد محتملات اللفظ، واثبات انه هو المعنى المراد، او اظهار المعنى الخفي غير المتبادر واثبات انه هو المعنى المراد بدلاً عن المعنى الظاهر المتبادر، واما ذكر المعنى الظاهر المتبادر من اللفظ فلا يكون تفسيراً، وهذا الاتجاه يمثل الرأي السائد لدى الاصوليين، ولكن الصحيح هو أن ذكر المعنى الظاهر قد يكون في بعض الحالات تفسيراً أيضا واظهار لامر خفي، كما انه في بعض الحالات الاخرى قد لايكون تفسيراً لأنه يفقد عنصر الخفاء والغموض، فلا يكون اظهارا لأمر خفي او ازالة لغموض[9].

ومن اجل التعرف على موارد الظهور التي ينطبق عليها التفسير والموارد التي لاينطبق عليها معنى التفسير نقسم الظهور إلى قسمين احدهما: الظهور البسيط: وهو الظهور الواحد المستقل المنفصل عن سائر الظواهر الاخرى.

والاخر: الظهور المعقد: وهو الظهور المتكون نتيجة لمجموعة من الظواهر المتفاعلة..

ولاجل توضيح هذا التقسيم نضرب مثالاً لذلك من العرف، بأنه يقول شخص لولده: اذهب إلى البحر في كل يوم، او يقول له: اذهب إلى البحر في كل يوم، واستمع إلى كلامه، فبالنسبه إلى القول الاول يعد الظهور ظهوراُ بسيطاً اذ لايوجد في الكلام الا صورة واحدة تتبادر إلى الذهن وهي: صورة بحر من الماء يطلب الاب من ولده أن يذهب اليه في كل يوم.[10]

لقد انفرد الشهيد الحكيم عبر دراساته المتنوعة للقرأن الكريم في الاسلوب والمنهجبية او الهدف، اذ يسلط الضوء على الجانب التربوي والتغييري في القرآن حيث يقول: «أن الهدف الأساس للقرآن الكريم هو عملية التغيير الجذري للمجتمع وبيان المنهج الموضوعي والمنهج التجزئي حيث أن الاخير يعمد إلى المعالجة الميدانية للحالات الروحية والاجتماعية والسياسية له دور في عملية التغيير التي يواجهها المجتمع الانساني بشكل عام والاسلامي بشكل خاص»[11].

لقد طرق سيدنا شهيد المحراب تفسير القرآن الكريم من اوسع ابوابه، لأنه يؤمن بحاجة المجتمع الماسة إلى فهم القرآن وفق نظرة منهجية حديثة، ولذلك فقط امتاز بالتفسير الموضوعي الذي يقدم الرؤية الكاملة للحياة بمختلف ابعادها، كما قدم نماذج عملية ولاسيما في محوري السنن التأريخية وعناصر المجتمع.

لقد قسم السيد الحكيم التفسير إلى قسمين باعتبار الشئ المفسر:

1 ـ تفسير اللفظ.

2 ـ تفسير المعنى.

وتفسير اللفظ عبارة عن بيان معناه لغة، واما تفسير المعنى فهو تحديد مصداقه الخارجي الذي ينطبق عليه ذلك المعنى.

وامثلة ذلك في القرآن الكريم كثيرة، فنحن نلاحظ في القرآن الكريم أن الله سبحانه يوصف بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، ونواجه بالنسبة إلى هذه الكلمات بحثين:

احدهما: البحث عن مفاهيم هذه الكلمات من الناحية اللغوية، والاخر: البحث عن تعيين مصداق تلك المفاهيم بالنسبة إلى الله تعالى فكيف يسمع سبحانه؟ وهل يسمع بجارحه اولاً؟ وكيف يعلم؟ وهل يعلم بصورة زائدة على ذلك؟

التفسير المعنوي او تفسير المعنى

ومن امثلة ذلك قوله تعالى: (وَﻫذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ)[12]. وقوله: (وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ)[13]، وقوله: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ)[14]. فنحن بصدد دراسة اللفظ نشرح معنى (النزول) لغة ونحدد مفهوم كلمة انزلناه الواردة في الايات الثلاث، ونعرف انها تستبطن معنى (الهبوط من جهة عالية مرتفعة)، وتفسير المعنى هو أن ندرس حقيقة هذا الانزال ونوع تلك (الجهة العالية) التي هبط منها الكتاب والحديد والماء، وهل هي جهة مادية او معنوية؟[15] أن أهمية التمييز بين تفسير اللفظ وتفسير المعنى عند السيد الحكيم هو التميز بين تفسير اللفظ على صعيد المفاهيم وتفسير المعنى بتجسيده في صورة محددة على صعيد المصاديق، ويعد نقطة جوهرية جداً في تفسير القرآن الكريم، واداة لحل التناقض الظاهري الذي قد يبدو بين حقيقتين قرآنيتين وهما:

الحقيقة الاولى: أن القرآن كتاب هداية للبشرية انزله الله سبحانه لإخراجها من الظلمات إلى النور وارشادها إلى الطريق الأفضل في جوانب حياتها، وقد وصف نفسه بأنه (هدى للناس)[16] و (كتاب مبين)[17]، وهذه الحقيقة تفرض أن يجئ القرآن ميسر الفهم وان يتاح للانسان استخراج معانيه منه، اذ لايمكن للقرأن أن يحقق اهدافه ويؤدي رسالته لو لم يكن مفهوماً من قبل الناس.

والحقيقة الاخرى: أن كثيراً من المواضيع التي يستعرضها القرآن او يشير إليها، لايمكن فهمها بسهولة، بل قد تستعصي على الذهن البشري ويتيه في مجال التفكير فيها لدقتها وابتعادها عن مجال الحس والحياة الاعتيادية التي يعيشها الانسان، وذلك نظير مايتعلق باللوح، والقلم، والعرش، والموازين، والملك، والشيطان، وانزال الحديد، ورجوع البشرية إلى الله، والخزائن، وملكوت السماء والارض، وما إلى ذلك من مواضيع. أذن فحقيقة اهداف القرآن الكريم ورسالته تفرض أن يكون ميسر الفهم، وواقع بعض مواضيعه يستعصي على الفهم ويتيه فيها الذهن البشري.

لقد بحث السيد الحكيم في موضوع التأويل بوصف التأويل كلمة اخرى ظهرت إلى جانب كلمة (التفسير) في بحوث القرآن عن المفسرين، فالكلمتان معاً تدلان على بيان معنى اللفظ والكشف عنه، قال صاحب القاموس: (أول الكلام تأويلاً: دبره وقدره وفسره)[18]، والمفسرون الذين كادوا أن يتفقوا على التوافق بين الكلمتين بشكل عام اختلفوا في تحديد مدى التطابق بين الكلمتين. ونحن هنا نذكر بعض الاتجاهات والمذاهب في ذلك.

1 ـ الاتجاه العام لدى قدماء المفسرين الذين يميلون إلى القول بالترادف بينهما، فكل تفسير تأويل، والعكس صحيح أيضا، وعلى هذا فالنسبة بينهما هي التساوي.

2 ـ الاتجاه العام لدى من تأخر عنهم من المفسرين الذين يميلون إلى القول بأن التفسير يخالف التأويل في بعض الحدود، أما في طبيعة المجال المفسر والمؤول، او في نوع الحكم الذي يعتمد عليه التفسير والتأويل.

والبحث في تعيين مدلول كلمة التأويل والمقارنة بينها وبين كلمة التفسير يتسع في الحقيقة بقبول كل هذه الوجوه حيث يكون بحثاً اصطلاحياً يستهدف تحديد معنى مصطلح لكلمة التأويل في علم التفسير، لأن كل تلك المعاني داخلة في نطاق حاجة المفسر، فيمكنه أن يصطلح على التعبير عن إي واحد منهما بكلمة التأويل، لكي يشير إلى مجال خاص او درجة معينة من الدليل، ولاحرج عليه في ذلك، ولكن الامر يختلف عندما يكون البحث عن معنى كلمة (التأويل عندما ترد في الكتاب والسنة فأن الخطر يكمن في اتخاذ المعنى المصطلح وحيداً للفظ، وفهم كلمة التأويل على اساسه اذا جاءت في النص الشرعي (القرآن أو السنة)[19].

ونحن اذا لاحظنا كلمة التأويل وموارد استعمالها في القرآن نجد لها معنى الاخر لايتفق مع ذلك المعنى الاصطلاحي الذي يجعلها بمعنى التفسير ولا يميزها عنه الا في الحدود والتفصيلات، فلكي نفهم كلمة التأويل يجب أن نتاول اضافة إلى معناها الاصطلاحي معناها الذي جاءت به في القرآن الكريم. وقد جاءت كلمة التأويل في سبع سور من القرآن الكريم احداها سورة ال عمران كما في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ)[20]، وبدراسة هذه الايات نعرف أن كلمة التأويل لم ترد فيها بمعنى التفسير، وبيان مدلول اللفظ إلاّ في هذه الاية؛ لأن التأويل فيها اضيف إلى الايات المتشابهة.

ونستخلص من ذلك امرين:

احدهما: التأويل جاء في القرآن بمعنى مايؤول اليه الشئ لا بمعنى التفسير، وقد استخدم بهذا المعنى للدلالة على تفسير المعنى لاتفسير اللفظ إي على تجسيد المعنى العام في صورة ذهنية معينة.

والاخر: أن اختصاص الله سبحانه وتعالى والراسخين في العلم بتأويل الايات المتشابهة ليس لها معنى مفهوم، وان الله وحده الذي يعلم مدلولي اللفظ وتفسيره، بل يعني أن الله وحده يعلم بالواقع الذي تشير اليه تلك المعاني ويستوعب حدوده وكنهه.

والواقع أن عدم التمييز بين تفسير اللفظ وتفسير معنى اللفظ الذي أدى الى الاعتقاد بان التأويل المخصوص علمه بالله هو اللفظ وبالتالي إلى القول بأن قسماً من الايات ليس لها معنى مفهوم لان تأويلها مخصوص بالله، فلذا ميزنا بين تفسير اللفظ وتفسير المعنى، إذ نستطيع أن نعرف أن المخصوص بالله هو تأويل الايات المتشابه بمعنى تفسير معانيها لاتفسر الفاظها[21]. وهكذا يمكننا ـ على ضوء ذلك ـ أن نضيف إلى المعاني الاصطلاحية التي مرت بكلمة التأويل معنى آخر يمكن استنباطه من القرآن الكريم هو: تفسير معنى اللفظ والبحث عن استيعاب مايؤول اليه المفهوم العام ويتجسد به صورة ومصداق.

تفسير سورة الممتحنة عند السيد الحكيم

يبدأ السيد الشهيد محمد باقر الحكيم في تفسيره لسورة الممتحنة ببيان سبب التسمية ثم فضل السورة واثارها، فيذكر لنا روايات عدة في هذا المجال، ثم تاريخ نزولها، كما يتطرق إلى العلاقات الايمانية واهميتها، حيث أن الموضوع العام الذي تتناوله سورة الممتحنة هو العلاقات الايمانية، والذي يعتبر من أهم الموضوعات في القرآن المجيد، فجاء ذكرها في سور عديدة، وخلاصة ما يقدمه القرآن حول هذا الموضوع هو: أن العلاقة الاساسية بين المؤمنين تقوم على اساس الولاء لله. فموضوع السورة هو العلاقة بين المؤمنين وارحامهم من الكافرين، فيتناول العلاقة السياسية في ابعادها الاجتماعية. ومضافاً إلى ما تقدم تناولت السورة الشريفة موضوعات اخرى مثل قضية القدوة في مجال العلاقة، والموقف العملي من النساء المؤمنات اللاتي هاجرن إلى المدينة بعد عقد المواثيق مع المشركين في صلح الحديبية. وعند التأمل في السورة الشريفة يرى السيد الشهيد الحكيم معلمين مهمين تدور الايات الكريمة في رحابهما، هما:

الاول: الموقف العام تجاه العلاقات بين المؤمنين والكافرين.

الثاني: علاقة النساء بشكل خاص ضمن إطار ذلك الموقف العام.

وعند التدقيق في ايات السورة نجد انها تناولت هذين المعلمين وخصوصاً الاول بشكل مفصل مما يجعلنا نقسم البحث في السورة إلى اربعة مقاطع هي:

المقطع الاول قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ * إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ * لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

ويتناول المقطع الاول الموقف العام من الكافرين والمشركين ومبرراته واثاره.

المقطع الثاني قوله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *‏ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) ويتناول المقطع الاسوة الحسنة وجذرها التأريخي في الرسالات السماوية.

المقطع الثالث قوله تعالى: (عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ويتناول المقطع الحكم الشرعي الخاص بالموقف العام من الاعداء وتفاصيله.

المقطع الرابع قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ *يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) ويتناول المقطع العلاقة الزوجية واحكامها.

المصادر والمراجع:

ـ القرآن الكريم

ـ الاتقان في علوم القرآن. مطبعة مصطفى الحلبي 1935م.

ـ البحر المحيط. أبو حيان. السعادة. 1328ﻫ .

ـ تفسير سورة الممتحنة. شهيد المحراب/ السيد محمد باقر الحكيم. مؤسسة تراث الشهيد الحكيم. النجف الاشرف 2006م مطبعة العترة الطاهرة.

ـ التفسير والمفسرون. د. محمد حسين الذهبي 1976م.

ـ علوم القرآن. السيد الشهيد محمد باقر الحكيم.ط3 جمهورية ايران الاسلامية.

ـ قاموس المحيط. الفيروز ابادي. المعرية 1935م .

ـ لسان العرب. ابن منظور. الاميرية 1302 ﻫ.

[1] القاموس المحيط : ج 2: 110.

[2] لسان العرب مادة «فسر»: ج 6: 36.

[3] البحر المحيط: ج 1: 13.

[4] التفسير والمفسرون د. محمد حسين الذهبي ج 14: 1.

[5] المصدر نفسه: ج 14: 1.

[6] الاتقان: ج 2 ص 174.

[7] القاموس المحيط: ج 3: 33.

[8] التفسير والمفسرون: ج 18: 1.

[9] علوم القرآن السيد محمد باقر الحكيم: 24.

[10] علوم القرآن. السيد محمد باقر الحكيم: 240: 241.

[11] تفسير سورة الممتحنة. السيد محمد باقر الحكيم: 8.

[12] الانعام: 92.

[13] الحديد: 27.

[14] المؤمنون: 18.

[15] علوم القرآن: السيد الحكيم: 242: 243.

[16] البقرة: 185.

[17] المائدة: 15.

[18] القاموس المحيط: مادة «أول».

[19] علوم القرآن: السيد الحكيم: 250.

[20] ال عمران: 7.

[21] علوم القرآن: 253.

]]>
http://al-hakim.com/?feed=rss2&p=2943 0
الحوار الحضاري في فكر السيد الشهيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) http://al-hakim.com/?p=2939 http://al-hakim.com/?p=2939#respond Wed, 20 May 2015 07:01:33 +0000 http://al-hakim.com/?p=2939 tt

بحث شارك في المؤتمر الثاني لإحياء التراث الفكري والعملي للشهيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم 

الباحث: الاستاذ د. فليح كريم الركابي

       عميد كلية الآداب ـ جامعة بغداد

الحضارة موضوع واسع يصعب الخوض فيه؛ لاهميته واختلافه من شعب الى اخر بحسب الظروف أو البيئة التي ينشأ فيها الافراد، وهي شيء معنوي يولد معهم ويخلد بعدهم، وقد أسست حضارات كثيرة في العالم، وكان لكل واحدة طابعها المميز سواء أكان باللغة أم بالعادات والتقاليد السائدة، فكانت تحصيل حاصل ينتج عن طريق التقاء الفرد بالمجتمع، والحضارة «ظاهرة اجتماعية نفسية تحمل في اذهان الافراد ولاتجد لنفسها تعبيرا الا بهم»[1] وتكون خارجة عن ارادتهم حين ولادتهم، وتكتسب من البيئة التي ينشأون فيها، وحينما يكبرون يعونها تماما ويتأثرون بها ويؤثرون فيها، وتكبرمعهم وهم بناتها.

والحضارة ظاهرة مستمرة متطورة تواكب عجلة المجتمع، هدفها احداث نقلة نوعية في تفكير اعضائه وهي «استجابة لكل احتياجات المجتمع الذى يتبناها»[2]، فضلا عن انها افراز واقعي يتأثر بالموروث المتوفر لأمة ما، أو قد لاتتاثر فتكون اكتسابا عن طريق التعلم تفرضه الظروف المحيطة، وحينما ينتقل الفرد الناضج من حضارة الى اخرى يتحتم عليه مسايرة الحالة الجديدة كي لايعيش في عزلة تؤثر في سلوكه اذا كان ينوى الاقامة في المجتمع الجديد، أى الاقرار بالحاضر وعدم تناسي الماضي، وأن يترك لابنائه حرية الاختيار في العيش مع مجتمعهم الجديد، وهذه القضية لازمت بعض الافراد الذين هاجروا وعاشوا في مجتمعات جديدة، فلم يتمكنوا من تحديد طريقهم في الحضارات الاخرى، وكانت المرحلة انعطافة حادة في حياتهم انعكست سلبا عليهم، وصارت سببا في ضياع ابنائهم في خضم المجتمعات الجديدة[3].

ان الحوار الحضارى سمة الاعتدال والتجاذب الايجابي بين الحضارات الانسانية، والحوار بحد ذاته يظهر كوامن الشخصية وايجابياتها او ايجابيات تلك الحضارة، وذلك مااتسمت به شخصية السيد الشهيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) في طروحاته الفكرية، التي رفدت المجتمع الانساني بقبسات من الفكر المحمدى الاصيل في حوارها مع الحضارات الانسانية المسلمة وغير المسلمة، سواء أكان هذا على مستوى دولة العراق أم على المستوى العالمي فيقول «الكردي من حقه احترام ثقافته، والعربي من حقه احترام ثقافته، والشيعي من حقه ان تحترم ثقافته ومذهبه في المناطق الشيعية، وتدرس في مدارسهم ويعلم ابناءهم، كما من حق السني أيضا أن تحترم ثقافته في مناطقه وبلاده، والمسيحي في مدارسه ومجتمعاته، وهذه الخصائص والمكونات لابد من أخذها بنظر الاعتبار في الحكم المستقبلي»[4].

هذا حوار حضاري واسع جدا تناول فيه السيد الشهيد الشرائح الاجتماعية والفكرية والقومية في العراق، داعيا الى تفاهم من اجل بناء دولة بعيدة عن الصراعات الطائفية والعرقية والدينية. فالعراق وطن الجميع، وكل مواطن له حقوق فيه، وعليه واجبات، وان هذه النظرة الحضارية المنصفة تبعد البلد عن سيادة جانب وطغيانه على الجوانب الاخرى، وتقضي على الدكتاتورية المقيتة، فضلا عن ان ذلك يلغي التهميش الذى عانى العراقيون منه كثيرا.

فكان حوار الشهيد عربيا كرديا، حوارا بين ثقافتين وقوميتين، تعايشتا منذ قرون عديدة، واسلاميا مسيحيا، أى حوارا ثقافيا بين حضارتين ودينين سماويين، وهذه دعوة الى عدم الغاء أي طرف لطرف أخر. فكان شعاره التعايش السلمي المنصف بين الاطياف والحضارات المختلفة في البلد الواحد وفي العالم، يقول السيد الشهيد «ان الحياة الانسانية تتصف بالحركة والتغيير، وليست جامدة راكدة، وهذا أمر وجداني في التاريخ الانساني، ونراه واضحا في الوسائل والاساليب، وفي الامكانات والقدرات والموارد التي يملكها الانسان في حياته، وفي الرغبات والميول والارادات، وفي المصالح والمفاسد»[5].

الخطاب الفكري للسيد الشهيد منفتح على الافاق الانسانية كافة، حوار مفكر يعي المرحلة الراهنة، وماذا ينبغي أن يضع لها من حلول ومعالجات تنسجم معها ولكن ضمن حدود الشريعة الاسلامية واحترامها للانسان، فالدعوة صريحة للعمل الصالح الذى ينبغي ان يعم الانسانية جمعاء؛ لان فيه صلاحها وفيه درء للمفسدة، فضلا عن ان الحوار كان دقيقا جدا بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم. ان هذه النظرة المتفتحة و احترام حضارة الاخرين وحريتهم وتفكيرهم تدل على عمق النظرة الفاحصة لمكونات المجتمع العراقي الذى عانا الاقصاء والتهميش. وقد ركز السيد الشهيد على جوانب مهمة في حواره، الجانب الاول: العقيدة، والثاني: التعليم، والثالث: الثقافة، وهي ركائز مهمة في بناء حضارة ما.

ان هذه النظرة لاتعجب بعض الناس، والسبب تخوفهم من مواجهة الحقيقة، وخوفهم على ابنائهم في المستقبل من حدوث انقلاب فكري وعقيدي في حياتهم، وذلك مالايخشاه المذهب الشيعي، الذي تعايش ابناؤه مع شتى المعاملات القاسية الثقافية والدكتاتورية، وخرج معافى وبقي شامخا؛ بسبب اصالة المنبع وقوة الجذور الضاربة في العمق. أن مسالة تدريس الاديان والمذاهب نحن لانخاف منها ابدا، بل ندعو الى ذلك، ولانضع الاصابع في الاذان، وانما الاخرون يخشون ذلك، وهذا مايثير بعض المتاعب على المستويات كافة، ولاسيما في مجتمعنا العراقي الذى يواجه موجة شرسة.

ان المواجهات الفكرية محتدمة منذ قرون، وعلى الرغم من البطش والاقصاء والالغاء الاان الفكر الصحيح هو الذى يكتب له البقاء الراسخ حتى يوم الدين.

وينظر السيد محمد باقر الحكيم الى التاريخ على أنه حركة انسانية مشتركة، تتفاعل فيما بينهما تفاعلا حضاريا وفكريا من اجل خدمة المجتمع، فكانت دعوته حوارية ايجابية «إذ لايمكن أن ينفصل الحاضر في وجوده عن حركة الماضي، كما لايمكن أن ينفصل هذا الحاضر عن المستقبل؛ لان حركة الانسان هي حركة تكاملية ووضع هذا الانسان منذ البداية»[6] هذه دعوة للحوار الحضارى فيما بين ابناء المعمورة، لانهم مخلوقون من اجل التفاعل والتكامل للوصول الى الكمال المطلق، وهذا ماستكون عليه الارض بعد ظهور الامام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

ويرى السيد الشهيد ان النظرية الاسلامية قائمة على أساس أن الحق واحد والعدل واحد، فلا تعددية في ذلك، وهو في حواره الحضاري ذلك يكشف لنا عن ان النظرية الغربية التي «ترتبط برغبات الناس وميولهم ومصالحهم الخاصة في هذه الدنيا، واما الحياة الاخرة فهي غير منظور فيها، والانسان هو الذى يختار مصلحته، بل يحق له ان يختار الاشياء على خلاف مايدرك من مصلحته ومصلحة الجماعة اذا كانت رغبته ذلك»[7]. هذا الحوار بين الحضارتين يضعنا أمام رؤية واعية لواقع مجتمعين مختلفين فكريا، والغرض من الحوار كشف نقاط الضعف والقوة، وماينبغي على المجتمع الغربي اتباعه من أجل الوصول الى الحقيقة ونبذ الحياة الدنيوية فهذه تبصرة للعاقلين، فضلا عن أن العامل الخارجي الغربي بثقافته وحضارته المختلفة يختلف تماما عن ثقافتنا وحضارتنا، ويحاول جاهدا منذ قرون فرض تلك الحضارة والثقافة على مجتمعنا، باستخدام الوسائل القسرية والحرية لغرض الضلال والتشتت والضعف والتمزق، وهذا اصبح من الامور المهمة والفاعلة في تهشيم هيكل المجتمع، الاان دور علماء الامة دعا افراد المجتمع الاسلامي الى الوقوف بوجه تلك التحديات وممارسة دورهم «في الصراع الحضارى على اساس الحوار ومخاطبة العقل والوجدان، والعمل على خلق المجابهة الحضارية في داخل جبهة الاستكبار، من خلال فرض الحرية الفكرية والسياسية، والتركيز على نقاط ضعف الحضارة المادية واخطارها المستقبلية»[8].

لقد كان السيد الشهيد يطرح للمتلقي ضعف الحضارة المادية، ومتانة قواعد وأسس الحضارة المثالية التي بني عليها الإسلام، ان هذا الحوار جاء من داخل أدبيات الحضارة المادية، وهو اسلوب اقناعي يؤكد بقاء وديمومة الحضارة الإسلامية، التي جاءت منسجمة مع العصور كافة بدستورها القرآن الكريم، وتعرض السيد الشهيد الى الصراع الحضاري القائم منذ ان فشلت الحضارات الانسانية في احترام الانسان ككيان انساني ونجح الاسلام في احترامه، فقد كانت نظرة السيد الشهيد نظرة متوازنة قائمة على الحوار المعتدل بين الحضارات حين يقول «ولذا فمن الممكن العمل على ادارة الصراع الحضاري على أساس الحكمة والموعظة الحسنة والحوار بالمنطق ومخاطبة العقل والوجدان والفطرة الانسانية، بل واستخدام المصالح الانسانية المادية والروحية في ادارته، حسبما تفرضه مقتضيات هذا الصراع»[9].

ان محاور ادارة الصراع الحضاري التي أكدها السيد الشهيد هي الحكمة ومخاطبة العقل والوسائل الروحية، وهذا ماتفيض به روحه المتسامحة في حواره مع الحضارات الاخرى القائمة على استيعاب الجانب الاخر وعدم الغائه خدمة للمصالح الاسلامية التي فرضها الله سبحانه وتعالى، وهذا مايؤكد انسانية الاسلام وانسانية علمائه الافاضل في احترام الخلق الالهي واحترام حضاراتهم وافكارهم؛ وذلك ما ادى الى سعة انتشار الاسلام في العالم، وسعة انتشار المذهب الذى أصبح اعتداله وتسامحه مخيفا للكثيرين، الذين يرون فيه إستيعاباً كاملا لافكار الإسلام، التي هي افكار آل البيت الاطهار (عليهم السلام)؛ لذا راحوا يشنون عليه الغارات القاسية حتى وصلت اراقة الدماء الزكية انهارا، ولكن ذلك لن يثني للمجاهدين عزيمة، يقول السيد الشهيد «فيجب ان يتضمن خطابنا السياسي التأكيد على الصبر والاستقامة والثبات، وجميع الاثار واللوزام التي تترتب على العمل الجهادي والمواجهة التغييرية، وبروح الشجاعة والصبر والثبات لا بروح الهزيمة والخوف»[10].

لقد خلق السيد الشهيد بخطابه هذا حوارا حضاريا مع فئات ذات اعراق مختلفة، بيد أن توجهها واحد هو الخلاص من الجور والظلم، وذلك ماتحقق فعلا على أرض الواقع.

لغة الحوار من العناصر الرئيسة في بناء النص الذى كان يوجهه المرسل وهو السيد الشهيد الى عموم المتلقين؛ إذ كانت تفصيلة واضحة يبرز فيها الجانب التعبوي والتشريعي الفقهي القائم على احترام الطرف الاخر، بيد انها في جوانب أخرى تكون فلسفية فكرية في معالجتها الحضارية، سواء أكان من وجهة نظر مقارنة أم من وجهة نظر قدم وتأصيل؛ لان الحضارة الاسلامية ايجابية في نشأتها واحترامها للاخرين واستيعابها كل الحضارات الانسانية، وهذا سر وجود العناصر السلبية التي تحسب على الحضارة الإسلامية، وعلى وجه العموم كانت حضارتنا ايجابية «لان الحضارة سلوك ايجابي يتبعه الانسان في حياته، ويكمله من بعده الاخرون وتخلد بعدهم، وكل شعب يمتلك كما حضاريا تراكميا يكون له الاثر في مستواه الفكري والثقافي، وقد أثرت الحضارات الانسانية بعضها في بعض سلبياً أو ايجابيا»[11].

كانت لغة السيد الشهيد خطابية مباشرة، وهذا من متطلبات مقتضى الحال، فضلا عن كونها حوارية استوعبت مقومات الثقافة الاسلامية وحضارتها، وقد استثمر الزمن الذي يعد عاملا مهما في الحديث، فكانت الافعال ماضوية تحدثت عن الفكر والتراث الخالدين لتحريك مشاعر المتلقين، وإفهامهم بقيمة الحضارة العربية الاسلامية، ومضارعة لعرض الحال والمستقبل الذى ستكون عليه وذلك ما يتطلب شد الازر في مواجهة الظلم والطغيان، وفعلها امر يحث على الثورة.

وختاماً ان فكر السيد الشهيد جاء من خلال تراكمات ثقافية هائلة، أدت الى تعرضه الى شتى صنوف المضايقة والحيف، مما اضطره الى ترك العراق مجبراً، وكان اسلوبه في الحوار الحضاري واعياً شفافاً، ربط الحاضر بالماضي والمستقبل، مستثمراً الماضي لإضاءة الحاضر، واقحام عناصر الحضارات الاخرى. ان الاسلام دين حضاري قويم متسامح يحترم اراء وافكار الاخرين على اختلاف مستوياته الفكرية سواء في العراق ام في العالم، يقول السيد الشهيد «نحن ندعو الى نظام جمهوري وبرلماني يحترم الشريعة الاسلامية والحريات العامة والاقليات الدينية، ويلتزم بحقوق الانسان والمساواة والعدالة والحقوق السياسية والمدنية والثقافية والدينية لجميع ابناء الشعب العراقي ومنها الاقليات العرقية والدينية، ويقيم علاقات حسن الجوار مع الدول العربية والاسلامية المجاورة، وعلاقات الاحترام المتبادل والمنافع المتقابلة مع المجتمع الدولي، ويتجه الى الاعمار وإصلاح ما خربه صدام»[12]، انها نظرة واعية متفتحة على الحضارات الاخرى، تكُنّ لها الاحترام وتتبادل معها المنافع، خدمة للمصلحة العامة واصلاحا للخراب الذي لحق بالعراق جراء السياسية التعسفية التخريبية للنظام المقبور.

[1] الحضارة ومفهومها ومكوناتها د. شاكر مصطفى سليم، مجلة معهد البحوث والدراسات العربية ع13 1984 ص 9.

[2] نفسه ص 10.

[3] ينظر الصراع الحضاري في رواية من يوميات السيد علي سعيد أ. د. فليح كريم الركابي مجلة كلية التربية الاساسية الجامعة المستنصرية ع47 2006 ص 1.

[4] دموع القلم مقالات نشرت بمناسبة استشهاد شهيد المحراب، اعداد دائرة الاعلام مؤسسة تراث الحكيم النجف الاشرف ط1 2005 ص 5.

[5] الاصالة والمعاصرة شهيد المحراب اية الله العظمى محمد باقر الحكيم النجف الاشرف 2005 ص 20.

[6] المنهاج الثقافي السياسي والاجتماعي شهيد المحراب اية الله العظمى السيد محمد باقر الحكيم، مؤسسة تراث الحكيم النجف الاشرف 1/ 13.

[7] الامر بالمعروف والنهي عن المنكر شهيد المحراب اية الله العظمى السيد محمد باقر الحكيم، مؤسسة تراث الحكيم النجف الاشرف 2005 ص 29.

[8] ـ الخطاب الاعلامي وسر النجاح شهيد المحراب اية الله العظمى السيد محمد باقر الحكيم مؤسسة تراث الحكيم النجف الاشرف 2005 ص 44.

[9] نفسه ص40.

[10] نفسه ص 32.

[11] التألف الحضاري في رواية أبعد من ذاكرة المدنية أ. دفليح كريم الركابي مجلة كلية الاداب ع67 2004 ص 175.

[12] وبشر الصابرين شهيد المحراب اية الله العظمى محمد باقر الحكيم مؤسسة تراث الحكيم النجف الاشرف 2005 ص 5.

]]>
http://al-hakim.com/?feed=rss2&p=2939 0
مشروع التغيير السياسي في فكر الشهيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الحكيم http://al-hakim.com/?p=2920 http://al-hakim.com/?p=2920#respond Wed, 20 May 2015 06:08:20 +0000 http://al-hakim.com/?p=2920 tt

بحث شارك في المؤتمر الثاني لإحياء التراث الفكري والعملي للشهيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم 

الباحث: م.م. علي عبد الامير ساجت

              كلية الاداب ـ جامعة بغداد

المقدمة:

موضوع التغيير السياسي في العراق أثار العديد من التساؤلات، واهم هذه التساؤلات ما ارتبطت بالعلاقة بين هذا التغيير وموقف المرجعية الدينية والسياسية من هذا الحدث، وهناك العديد من هذه الأسباب التي دعتنا للكتابة في هذا الموضوع؛ من أهمها محاولة التوصل لإجابات عن بعض الأسئلة المرتبطة بالتغيير السياسي في العراق وشهيد المحراب السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره)، ومنها موقف شهيد المحراب من التغيير الذي حدث في العراق، وهل لديه مشروع للتغيير حينها؟ وما هي تفاصيل هذا المشروع؟ وما هو دور الشعب العراقي في هذا التغيير وفي مشروع التغيير المعدّ من قبل سماحته؟ وهل لدى سماحته مشروعاً لما بعد التغيير الحتمي الذي حدث في العراق؟ وما هي تفاصيله؟ وماذا على الشعب العراقي ما بعد التغيير وقبله؟ حاولنا التعرف على بداية قيادة شهيد المحراب للعملية التغييرية، وأسباب هذه القيادة، ولماذا لم يتحاور (قدس سره) مع هذا النظام؟ وما هي الوسائل التي استخدمها في تحقيق أهداف حركته؟

جميعها أسئلة سنحاول الوصول إلى إجابة عنها في هذا البحث، والذي نعتقد انه من الواجب الشرعي والإنساني علينا كشف بعض قبسات هذا العالم ـ الغني عن التعريف ـ إلى شعبنا العراقي؛ لمحاولة الاستفادة منه في حياتنا العملية.

السيد شهيد المحراب (قدس سره) وقيادته لعملية التغيير في العراق

قاد السيد الحكيم (قدس سره) عملية التغيير السياسي في العراق منذ عقود كونه مرجعية وقيادة دينية وسياسية، وجمعت شخصيتهُ شروط القيادة من الفقاهة والعدالة، والكفاءة والتصدي، والقدرة على تمييز المصالح الإسلامية واتخاذ القرار المستقل، وكان لتأييد الولاية العامة له والمرجعية العليا التي انيطت بها زعامة الأمة، وانسجامه مع الخطوط العامة في الساحة السياسية الدور الكبير في هذه القيادة.

السيد الحكيم (قدس سره) أفرزته الساحة السياسية من خلال تصوراته السياسية وتصديه المستمر وتفوقه على الآخرين في الكفاءة والاقتدار والفاعلية، والتفاف الناس حوله، وتوفر الشروط المشار إليها فيما سبق، وكان لهذه الشخصية موقعها القيادي الخاص، فاختارت الأمة مرجعها السياسي بنفس طريقة اختيار مرجعها الديني، وهو اختيار تفرزه المرحلة لا انتخاب ولا تعيين، ومن هنا فان اختيار السيد الحكيم (قدس سره) لقيادة العملية التغييرية لم يكن امرأ اعتباطياً أو عشوائياً، بل إفرازات مرحلة وتشخيص من قبل الأمة.

فهو (قدس سره) عندما يقول قولاً أو يذكر رأياً لا يعد هذا الأمر سياسياً فحسب بل مرتبطاً بموقف شرعي.

ويذكر سماحته أهداف حركته بصورة واضحة بقوله: «هدفنا من التغيير[1] ليس السلطة والحكم، وإنما هدفنا الإصلاح في أمة رسول الله وإصلاح الشعب العراقي»[2].

وانطلاقا من اعتقاده بأن هذا التغيير هو هدف أساسي لإحداث تغيرات على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والحضاري في العراق، انتهج نهج المقاومة انطلاقاً من إيمانه بان المقاومة السياسية والعسكرية هي الطريق الوحيد لإحداث هذا التغيير، وان المقاومة هي أفضل عمل يمكن التقرب به إلى الله حيث يقول: «أفضل عمل يمكن أن يقوم به الإنسان في حياته ليقربه إلى الله تعالى هو أن يمارس دور المقاومة …. نجد أفضل الناس اللذين اصطفاهم الله تعالى ضمن عباده واختارهم للقيام بالمسؤوليات والمهمات الرئيسية في تاريخ البشرية هم الأنبياء (عليهم السلام)، وكان عملهم الأساس هو المقاومة السياسية أو القتالية»[3]. لماذا لم يتحاور السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) مع النظام؟

يجب القول إن السيد شهيد المحراب ينظر إلى النظام بأنه غير قابل للتفاهم والتحاور، وعده الخطر الأكبر. انه نظام غير قابل للتعديل أصلا مع ملاحظة انه لم يترك أي كرامة، وهو المسؤول الأول عن القتل والإبادة …. الخ، وليس هنالك فرص للتحاور[4].

وهنا يذكر (قدس سره): «إن النظام الحاكم في العراق هو نظام فريد في المنطقة والعالم بما يتصف به من دكتاتورية مطلقة وعنصرية وطائفية ووحشية»[5].

فهو نظام فريد من نوعه غير قابل للتحاور أو الاتفاق، وهذا ما يفسر لنا عدم تحاوره (قدس سره) مع النظام أو الدخول معه في مفاوضات، ولم يكن أمامه (قدس سره) سوى العمل على تغيير هذا النظام بكل الوسائل.

لذا فأن سماحته لم ينتهج نهج المقاومة إلا لاعتقاده:

1. لا يمكن التحاوراو التفاهم مع هذا النظام، وهو الخطر الأكبر على العراق حيث يقول: «إن جميع المبررات والأسباب الشرعية لوجوب القتال والجهاد موجودة في هذا النظام»[6].

2. إن صدام غير قابل للتغيير والتعديل[7].

3. لم يترك هذا النظام أي كرامة للشعب العراقي، فقد مارس القتل والإبادة والتنكيل بحق الجميع[8].

أهداف حركة السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره)

كانت حركته السياسية (قدس سره) تهدف لتحقيق مطالب حيوية للشعب العراقي تمثلت في[9]:

1. تحرير إرادة الشعب العراقي، وتحقيق العدالة والاستقلال والحرية في كل أرجاء العراق؛ من خلال إقامة نظام حكم صالح يحقق هذه الأهداف.

2. إيجاد نظام حكم ديمقراطي دستوري، يتم فيه تداول السلطة سلمياً عن طريق الانتخابات المباشرة والإدارة اللامركزية.

3. كسر المعادلة الظالمة التي حكمت العراق لمدة ثمانين عاماً، والتي تقوم على التمييز العنصري والطائفي.

مما سبق تبين إن الهدف الأساس لحركة شهيد المحراب (قدس سره) هو تغيير النظام الدكتاتوري، ويعتبر هذا التغيير الأساس لتحقيق بقية الأهداف المرجوة من حركته (قدس سره).

الأساليب التي استخدمها (قدس سره) لتحقيق التغيير:

مارس شهيد المحراب (قدس سره) العديد من الوسائل لتحقيق التغيير، منها الانفتاح السياسي، والذي كان له دور في تحقيق أهداف حركته التي كان ينشدها (قدس سره) في التنسيق والتعاون والتحالف مع القوى غير الإسلامية وعلى محاور عدة؛ لاعتقاده (قدس سره) بان الانفتاح السياسي له الدور الأساسي في إضعاف وإسقاط النظام، وكانت محاور الانفتاح السياسي المرتبطة بالتغيير السياسي في العراق تشمل:

1. محور المعارضة العراقية، والتي لا تتبنى الدعوة للحكم الإسلامي، رغم إيمانها بالإسلام باعتباره ديناً.

2. محور الحكومات المخالفة لنظام صدام في العالم العربي والإسلامي، ولاسيما الدول المجاورة للعراق.

3. محور المجتمع الدولي كالدول ذات النفوذ في الموقف السياسي والرأي العام العالمي، أو التأثير غير المباشر على القضية العراقية، أو كالمؤسسات السياسية الدولية مثل منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان[10].

ولم يكن الاعتماد على القوى الخارجية من باب صورة الاعتماد الكامل عليها في العمل والتبعية لها في القرارات والسياسات بل كانت بصورة فرصة الاستفادة من الإمكانات[11]

وكان للانفتاح السياسي الذي مارسه (قدس سره) في عمله الدور الكبير في التغيير السياسي عن طريق:

1. كسب المزيد من الاعتراف بمواقف المعارضة.

2. الوقوف صف واحد ضد النظام.

3. إيجاد ضغط سياسي وإعلامي واقتصادي وعسكري على النظام.

وهنا يذكر (قدس سره): «بأنه لا يمكن للحركة الإسلامية أن تقطع صلاتها مع الكيانات السياسية الأخرى في العالم وتفرض على قضيتها عزلة خانقة دون مبرر حقيقي، وإلا لفقدت القدرة على تحقيق أهدافها، وفرضت على نفسها الموت البطيء، وعلى أساس ذلك وجدنا إن القيادة الشرعية تبارك حركة الانفتاح السياسي للحركة الإسلامية العراقية على سائر الجهات الدولية وأطراف المعارضة»[12].

ومن الوسائل الأخرى التي مارسها (قدس سره) لتحقيق التغيير في العراق هي العمل الجهادي في داخل العراق والإعلامي والتعبوي، والتي يطول الحديث عنها، ولا يخفى على القارئ الكريم بعض تفاصيله، ويمكن أن يكون موضوعاً مستقلاً، وقد ساهمت جميع تلك الوسائل بإضعاف وزعزعة النظام وبالتالي القضاء عليه.

موقفه (قدس سره) من التغيير السياسي الذي حدث في العراق

نجد في كلام السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) ما يشير إلى موقفه من التغيير السياسي الذي حدث في العراق، وفي مناسبات كثيرة جداً منها قوله: «إن جميع المؤشرات السياسية والمادية والميدانية في الداخل والخارج وعلى المستوى الإقليمي والدولي تؤكد إن الحرب قادمة، وهي بالرغم من رفضنا لها، ويكاد أن يشاركنا هذا الموقف دول العالم أجمعها، ولكنها أصبحت حقيقة واضحة بينة، وأصبح التغيير في العراق أمرا لابد منه في نظر جميع دول العالم، لان النظام الحالي في العراق أصبح مشكلة حقيقية لا يمكن إن يتحملها العالم، وهذا ما كنا نتحدث عنه منذ البداية»[13].

يشير سماحته إن التغيير سيحصل في كل الأحوال، ويؤكد رفضه وعدم قبوله بنوع التغيير الذي سيحصل، وهذا ما يفند الرأي القائل بقبوله (قدس سره) بالتغيير الذي حدث، وانه من استقدم هذه القوات عندما كان رئيساً للمجلس الأعلى، كما نجد رفضه بقوله: «قد أصرت الولايات المتحدة هذه المرة على انتهاج هذا الطريق لمعالجة مشكلة النظام العراقي، ولم تستجب لا للرأي العام العالمي ولا لأعضاء مجلس الأمن ولا لنداءات الدول العربية والإسلامية ودول عدم الانحياز في التخلي عن نهج الحرب والتزام القرارات الدولية، كما لم تستجب لجميع النداءات والأفكار التي طرحناها في معالجة مشكلة النظام العراقي عن طريق مساعدة الشعب العراقي ليقوم بدوره الأساس في التغيير، وتجنيب المنطقة والعراق الحرب»[14].

أي إن التغيير الذي حدث كان حتمياً، وأبدى شهيد المحراب اعتراضه عليه صراحة ً، ذاكراً بان لديه مشروعاً يمكن عن طريقه تغيير النظام.

ومع هذه الحتمية في التغيير الأمريكي يجب على السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) أن يحدد موقفه، ويطرح مشروعاً متماشياً مع هذا التغيير، ومنها يقول: «أمامنا في هذه الظروف الحساسة ـ ويقصد بها قرار الولايات المتحدة إسقاط النظام ـ عدة خيارات رئيسية هي[15]:

1. المشاركة في الحرب إلى جانب الولايات المتحدة للخلاص من النظام.

2. الوقوف في وجهها والدخول في معركة معها إلى جانب النظام.

3. الوقوف موقف الحياد السياسي في هذه المعركة غير الشريفة.

4. الوقوف إلى جانب الشعب العراقي، من اجل الخلاص من الاستبداد والطغيان، والاستمرار في العمل والصمود والصبر واستثمار جميع الفرص من اجل ذلك.

فالتغيير حتمي والمعركة غير شريفة كما يعبر عنها فيذكر (قدس سره) ويقول: «خيارنا الشرعي والسياسي والأخلاقي هو الخيار الرابع، الذي يحقق لنا الهدف والحفاظ على حريتنا واستقلال إرادتنا وعزتنا وكرامتنا ومصالح شعبنا، وذلك لان النظام يدافع عن وجوده في الحكم دون أي رعاية لمصالح الشعب، وإلا لأختار التنحي عن السلطة استجابة لرفض الشعب له في انتفاضة عام (1411ﻫ)، كما إن الولايات المتحدة تعمل من اجل مصالحها وأهدافها الخاصة في الهيمنة على مقدرات البلاد والاستيلاء على النفط وإشاعة الفساد في الأرض»[16].

لذا فقد اتخذ موقف الحياد في هذه المعركة، ونجد ذلك في قوله: «اتخاذ موقف الحياد تجاه الطرفين المتصارعين، حيث إن المعركة بينهما هي معركة المصالح والنفوذ الخاص، وليست معركة من اجل الشعب وخلاصه وعزته وكرامته»[17].

مما سبق تبين انه يرفض الوقوف مع النظام، لان النظام يدافع عن وجوده وهذا ما لا يريده الشعب، ويرفض الوقوف مع الولايات المتحدة لأنها تريد مصلحتها فقط، واختار الوقوف إلى جانب الشعب العراقي.

هذا الخطاب قبل التصعيد الأمريكي بشهرين تقريباً، وقد حدد سماحته موقفه من هذا التغيير مسبقاً، ولا يقف عند هذا الخيار فحسب بل يطرح مشروعه الخاص بالخيار الرابع، والذي سنتناوله في التغيير السياسي الذي أراده السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره). ونجد تكرار رفضه (قدس سره) للاحتلال وللتغيير على يد الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يرى أنها الدولة الوحيدة القادرة على تنفيذ هكذا قرار وتستطيع فرضه بالقوة، يقول (قدس سره): «فرضت الولايات المتحدة هذا الموقف لأنها الدولة الوحيدة القادرة على شن مثل هذه الحرب»[18] لاحظ عبارة فرضت.

وفي كلمته لاجتماع لجنة المتابعة والتنسيق في شباط عام (2003م) يذكر أنه: «يرفض اسلوب الاستعمار المباشر تحت أي شعارات، وان هذا التغيير هو لون جديد من ألوان الحروب الدينية والعقائدية ضد الشعب العراقي، كما إن الشعب العراقي ليس قاصراً ليحتاج إلى الوصاية»[19].

كما يؤكد ذلك في نفس المؤتمر بقوله: «نؤكد موقفنا الرافض للاحتلال والتسلط والهيمنة»[20].

ألا إن التغيير حدث في نيسان من العام (2003م)، وكان لا بد من موقف شرعي وسياسي يعلنهُ، حيث يعتبر سماحته هذا الوجود حسب قوله: «ويعتبر وجود هذه القوات الأجنبية في العراق مشكلة كبيرة جداً لابد من معالجتها»[21].

فهي تحدي وامتحان عسير ومحاولة للهيمنة من قبل قوى الاستكبار العالمي كما يصفها (قدس سره) وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.

بل يطالب سماحته بخروج المحتل بالطرق السلمية ويشير إلى ذلك بقوله: «نحن نعتقد انه لم تُستنفذ جميع الوسائل السلمية، ولا بد من استنفاذها بصورة كاملة، وان تبذل الجهود السلمية من اجل إنهاء الاحتلال»[22].

«ولا نرى الآن من المصلحة أن ندخل في مواجهات عسكرية، ولكن لدينا لساناً ومنطقاً وإرادة»[23].

ويذكر (قدس سره) أربع أمور يجب أن نقوم بها في تعاملنا مع وضع الاحتلال:

  1. نبذل كل الجهود المشروعة ذات الطابع السلمي لإنهاء الاحتلال.
  2. ضبط النفس في هذه المرحلة؛ لان هناك محاولة لجرّ العراق إلى حرب ضروس.
  3. ممارسة كل وسائل الاحتجاج والتعبير عن استنكار التصرفات الخاطئة، التي تتسم بالعنف واللامبالاة واللامسؤولة التي ترتكبها قوات التحالف ضد الناس الأبرياء.
  4. الاعتماد على القرارات الدولية التي تصب في صالح الشعب العراقي.

فشهيد المحراب لا يقف عند استنكار أو عدم الرضا عن هذا التغيير، بل يتعداه الى طرح مشروع وآلية لإنهاء الاحتلال، وتتلخص في قوله (قدس سره)[24]:

«نعتقد أن قرار مجلس الأمن (1483) الذي صدر بالإجماع، وقدمته الولايات المتحدة وبريطانيا إلى مجلس الأمن واقر من قبله، قرار يصلح أن يكون أساسا لهذا الحوار، وهو يؤكد على عدة مبادئ أوضحها للشعب العراقي ليعرفوا الحقيقة:

المبدأ الأول: يؤكد على السيادة، إذن لابد من وجود عمل جاد ليكون العراق حراً مستقلاً.

المبدأ الثاني: السرعة في إنهاء الاحتلال.

المبدأ الثالث: مساعدة العراقيين على تشكيل الإدارة العراقية، العراقيون هم الذين يشكلون الإدارة العراقية المؤقتة وعلى قوات التحالف أن تساعدهم على ذلك، وهذا ما ينص عليه قرار مجلس الأمن.

المبدأ الرابع: اتخاذ الإجراءات العملية والسريعة لإجراء انتخابات عادلة، يُنتخب فيها مجلس دستوري يدون الدستور، ثم بعد ذلك تجري انتخابات.

تداعيات التغيير السياسي على أيدي القوات الأجنبية

لم يرفض السيد الحكيم (قدس سره) التغيير الذي سيحصل حينها فقط، بل بالإضافة إلى ذلك طرحه مشروعه الخاص في التغيير، كما أشار إلى تداعيات وآثار سلبية لهذا التغيير الذي سيحصل من القوات الأجنبية، والتي ما كانت لتحصل لو تغير النظام على يد الشعب العراقي بتغطية وإسناد دولي وإقليمي ومن هذه التداعيات قوله[25]: «إن تداعيات الحرب ستكون خطيرة، بالرغم من تحقيقها لهدف محلي وإقليمي ودولي مشترك وهو التخلص من نظام صدام الدكتاتوري العنصري والطائفي الوحشي، ومن تداعياتها:

1. الدمار وتهديد الأرواح البريئة والبنية التحتية لمقدرات العراق؛ بسبب نوايا النظام السيئة وأهداف أمريكا السلطوية.

2. فقدان الأمن داخل العراق وفتح الأبواب إمام العنف والعنف المضاد.

3. التسلط والهيمنة الخارجية على العراق ومقدراته القصيرة والطويلة الأمد.

هذا ما ذكره (قدس سره) قبل العملية التغييرية بأشهر في بيان له، وهو ما حصل بالفعل.

ومن هنا أراد سماحته التغيير على يد الشعب العراقي، وبمقومات ومشروع متكامل لتجنب هذه الآثار وما حدث حينها وما زلنا نعاني من تداعياته وآثاره السلبية التي حذر منها سماحته (قدس سره).

ونجده يقول: «إن الهيمنة سوف تكون وبدون رغبة من أي طرف سبباً من أسباب إثارة دوافع العنف والإرهاب، وعاملاً يفسح المجال لجميع قوى الشر والتضليل والجهل لتجد الطريق أمامها مفتوحاً لبدأ سلسلة جديدة من القهر والعنف والعدوان وعلى حساب مصالح الشعب العراقي»[26].

وسيكون هذا التغيير سبباً لإثارة العنف والإرهاب والتي ستطال الشعب العراقي وليس بسبب القوات الأجنبية واحتلالها للعراق، بل إنها حجة لفسح المجال لجميع قوى الضلالة للقيام بذلك، هذا ما يريد قوله (قدس سره)، فهو حريص على أن تنتهي مرحلة القهر والعنف والعدوان على الشعب العراقي، ونجده يقولها بصراحة: «إننا إذ نرفض هذه الحرب لما ستؤدي إليه من أضرار ومخاطر مثل إزهاق الأرواح البريئة وتدمير البنية التحتية العراقية والهيمنة الخارجية»[27].

ويشير في مكان آخر إلى ذلك بقوله: «إن من أهم الأخطار التي نواجهها بسبب الحرب المتوقعة هو خطر الهيمنة الخارجية على العراق ومقدراته، مضافاً إلى الخسائر في الأرواح والممتلكات والبنية التحتية»[28].

وهي بالتحديد:

1. الهيمنة الخارجية على العراق ومقدراته.

2. الخسائر بالأرواح البريئة.

3. تدمير البنية التحتية العراقية.

إضافة إلى ما ذكرناه سابقاً جميعاً عده سبباً رئيسياً في رفضه لهذا التغيير تجنب تداعياته هذه التغيير، إضافة إلى انه قدم البديل عن هذا التغيير إلا انه لم يستجيب احد لهذا المشروع كما ذكر على لسانه (قدس سره) (انظر فيما سبق رفض سماحته للتغيير الخارجي).

مشروع التغيير السياسي عند السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره)

تبين لنا مما سبق أن التغيير الذي حدث في العراق كان حتمياً ومفروضاً كما عبر عنه (قدس سره)، وأعلن السيد الشهيد رفضه لهذا النوع من التغيير، مبيناً تداعيات هذا التغيير فيما لو حصل، ومقابل ذلك فأن للسيد الشهيد (قدس سره) مشروعاً تغييرياً شاملاً ومتكاملاً طرحه منذ بداية حياته الجهادية، وبشكل أوضح بعد انتفاضة الشعب العراقي في 15 شعبان (1991م)، بعدما انتفض الشعب العراقي وكان تغيير النظام قاب قوسين أو ادنى لولا استخدام النظام الأسلحة الثقيلة وعدم إسناد القوات الأجنبية للشعب حينها.

ويتلخص هذا المشروع في أن يقوم الشعب العراقي بمهمة التغيير بدعم وإسناد من الدول العربية والإسلامية وبحماية دولية، ويذكر سماحته ذلك واضحاً بقوله: «وقدمنا مشروعاً متكاملاً في هذا المجال ولكن القوى الدولية والإقليمية ـ إلا القليل منها ـ امتنعت عن تأييد هذا المشروع، إما لضعفها أو لعدم تطابقه مع مصالحها، فكان أن فرضت الولايات المتحدة الأمريكية هذا الموقف؛ لأنها الدولة الوحيدة القادرة على شن مثل هذه الحرب»[29].

هذا كلامه (قدس سره) والذي يلخص لنا مشروعه في التغيير . ونجد تفاصيل هذا المشروع أيضا وبكثرة في لقاءاته وخطبه ونداءاته وبياناته….الخ.

واستطعنا التعرف على البعض من تفاصيل هذا المشروع بقدر ما وقع بأيدينا من تلك اللقاءات والنداءات والبيانات، لضيق الوقت وقلة المصادر وبعد منابعها، وإلا فان هذا المبحث يجب أن يؤخذ تفصيلياً منذ بداية جهاد السيد الحكيم ومشروعه الأول، وتطور ذلك المشروع والمتغيرات التي مرت عليه وما دارت من أحداث.

ندعو السادة الباحثين للكتابة في هذا الموضوع بشكل تفصيلي، لان الدفاع عن شهيد المحراب ونشر أفكاره وأطروحاته أصبح من الواجب علينا لعدة أسباب:

1. تعريف العالم بقدرة هذه الشخصية.

2. محاولة الاستفادة من الأفكار والأطروحات لديه (قدس سره).

3. استلهام القوة والعزيمة.

4. معرفة الحقيقة ودفع الشبهات عن شخصه (قدس سره).

التغيير الذي أراده السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره)

طرح شهيد المحراب مشروعاً متكاملاً للتغيير في العراق، ولم تستجب الولايات المتحدة لهذا المشروع، ونجده (قدس سره) يشير إلى ذلك بقوله: «لم تستجب الولايات المتحدة لجميع النداءات والأفكار التي طرحناها في معالجة مشكلة النظام العراقي عن طريق مساعدة الشعب العراقي ليقوم بدوره الأساس في التغيير وتجنيب المنطقة والعراق الحرب»[30].

رغم انه (قدس سره) يشير إلى «وضع خطة شاملة متكاملة للتغيير، تعتمد على فكرة التكامل في العمل بين الجهد القتالي والجهد السياسي والثقافي والإعلامي، والعمل على توفير الظروف المناسبة لتنفيذها….. »[31].

ونجد في كتاباته وخطبه وكلماته (قدس سره) ما يشير إلى هذا المشروع المتكامل الذي تحدث عنه، ومنها ما ذكره حول الطريق لتحقيق هذا التغيير عبر العديد من العوامل، نشير إليها باختصار[32]:

1. تحمل الأمة والشعب في الداخل مسؤولياته تجاه عملية التغيير.

2. الاعتماد على الله تعالى، والذات، وإمكانات الشعب الداخلية وتعبئتها وتطويرها.

3. تنظيم قدرات وطاقات هذا الشعب ليخوض المعركة جهادياً.

4. التعاون مع القوات المسلحة مثل: أبناء الجيش العراقي المخلصين، وأفراد قوى الأمن الداخلي الواعين.

5. التعاون مع أبناء العشائر التي تمثل طاقة قتالية وجهادية وشعبية هامة.

6. السعي لإيجاد وحدة موقف عام سياسي وجهادي تجاه النظام بجميع فئات وطبقات الشعب العراقي بقومياته وجميع طوائفه.

7. القيام بعمل سياسي واسع على المستوى الإقليمي والدولي، وهذا ما تتحمله القيادة السياسية الشرعية؛ وذلك من اجل:

‌أ ـ  إيصال صوت ونداء المجاهدين إلى الرأي العام العالمي.

‌ب ـ إسناد ودعم حركة الشعب العراقي؛ من اجل إيجاد التغيير الحقيقي مادياً ومعنوياً.

‌ج ـ توضيح الصورة والرؤية حول أهداف وحركة الشعب العراقي في التغيير.

‌د ـ كشف الغطاءات والنشاطات المشبوهة أو المعادية لأهداف الشعب.

‌ﻫ ـ بيان حقيقة إن النظام لازال يشكل تهديداً حقيقياً للأمن والسلام، بالإضافة إلى تهديد الشعب العراقي.

‌و ـ بيان حقيقة الأوضاع المأساوية التي يعيشها الشعب العراقي.

8. وضع خطة شاملة متكاملة للتغيير، تعتمد على فكرة التكامل في العمل بين الجهد القتالي والجهد السياسي والثقافي والإعلامي، والعمل على توفير الظروف المناسبة لتنفيذها.

9. رسم الخطوات العامة للتحرك والعمل اليومي.

كما يطرح (قدس سره) سياسات عامة يجب الالتزام بها لتحقيق هذه الأهداف ولتحقيق التغيير السياسي في النهاية[33]:

‌أ ـ المطالبة دولياً تجاه القرارات الدولية بتقليص سيادة النظام ورفع الرقابة الدولية عليه.

‌ب ـ وتشخيص المطلوب من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي والدول الغربية والدول الإقليمية ضمن قرار الأمم المتحدة وتوصيات مؤسساتها الخاصة، لاسيما ذات العلاقة بالبعد الإنساني.

ومن هنا ينطلق في مشروعه التغييري، حيث انه يدعو إلى التغيير على يد الشعب العراقي بإسناد دولي وحسب قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، كما ويشير الى ذلك في قوله (قدس سره): «إن مساعدة الشعب العراقي في تحريره وحمايته من الدكتاتورية والعنصرية والطائفية التي يمارسها النظام الحاكم ضده هي من الواجبات التي تفرضها المواثيق الدولية وقرارات مجلس الأمن، ولكن المطلوب هو التعامل معها بصدق وشجاعة لا تترك مجالاً للمخاوف والآثار التي تتداولها الأوساط السياسية والشعبية في العراق والعالم العربي والدولي»[34].

ويذكر (قدس سره) إن الشعب العراقي بحاجة إلى المساعدة عن طريق تطبيق قرارات ومواثيق مجلس الأمن ومنها القرار (688).

فالشعب هو من يجب أن يقوم بالتغيير بدعم دولي وأممي ويذكر سماحته: «إن الشعب العراقي في الداخل هو المعارضة الحقيقية الفاعلة والقادرة على إيجاد التغيير في العراق»[35].

فالشعب أساس التغيير لديه، وأراد تغيير شعبي بغطاء دولي وفق قرار الأمم المتحدة، وهذا ما يعالج الخلل بالتوازن بين الشعب والسلطة، لذا فان تفعيل قرارات الأمم المتحدة ومنها القرار (688) في تقوية الشعب، يعادل هذا الخلل، وذلك لان إعطاء أي فرصة للشعب تعني إسقاط النظام حسب اعتقاده (قدس سره)، كذلك فان تضييق حركة النظام من خلال القرارات الدولية لها الأثر في التغيير.

ورفض السيد الحكيم في زيارة وفد المجلس الأعلى إلى الولايات المتحدة قبل سقوط النظام الاحتلال والتغيير الذي سيحصل، وطالب بتفعيل القرار(688)، وذكر بأن الشعب قادر على هذا الشيء، وكان صوتاً يختلف عن بقية الأصوات[36].

وطرح مشروعه الخماسي الجهادي، السياسي، التعبوي، الإعلامي، الثقافي،إلا أن فرض أمريكا لهذا التغيير وحتمية قيادتها له حالت دون هذا الخيار والمسعى، كما توضح سابقاً.

دور الشعب العراقي في إسقاط النظام والتغيير الذي حدث في العراق

يذكر السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) أن الشعب هو السبب في تغيير النظام وسقوطه وليس الولايات المتحدة الأمريكية[37].

ويشير إلى ذلك صراحة ً بقوله: «إن الشعب العراقي الذي جاهد وناضل وكافح وقدم التضحيات العظيمة من الشهداء والمشردين والمغتربين طيلة العقود السابقة وذلك من اجل أهدافه المقدسة في الحرية والاستقلال والعدالة والحقوق المشروعة لهو على استعداد أيضا للاستمرار في هذه المسيرة لمواجهة جميع التحديات الجديدة التي تقف أمام حركته وطموحاته، وإن ضعف النظام وعزلته وهوانه والإجماع العالمي على محاصرته والضغط عليه إنما كان بسبب هذه الجهود العظيمة التي بذلها الشعب العراقي في عملية الخلاص والإنقاذ من الطغيان والاستبداد، ولا يمكن لهذه الجهود إلا أن يكون استحقاقها الطبيعي في تحقيق هذه الأهداف المقدسة»[38].

بل وحتى قبل سقوط النظام فان الانفراج النسبي في بعض المجالات والذي حدث قبل التغيير ومنها في المجال الديني فهو سبب ثمرة جهود هذا الشعب.

دور الأمة في مشروع التغيير لدى شهيد المحراب (قدس سره)

الأمة هي موضوع عملية التغيير، حيث إن الهدف الأساس من الرسالات الإلهية وعملنا الإسلامي هو: إيجاد التغيير الصالح، هذا ما يشير إليه (قدس سره).

والأمة هي أداة التغيير في الواقع السياسي لديه، وهي الطريق لإيجاد التغيير في الواقع السياسي، وهي القوة الحقيقية التي يمكن الاعتماد عليها في مواجهة الطغيان والاستكبار في المجتمع،بل لا يجوز إجبار الأمة على قرار ما إلا حين وجود تهديد على الإسلام والأمة نفسها.

أما متى تكون الأمة قادرة على صنع الحدث السياسي فيذكره (قدس سره): «إن الأمة تكون قادرة على صنع الحدث السياسي عندما تكون مرتبطة بالمرجعية الدينية وبالتوجيه الديني والسياسي الصحيح»[39].

فلا يمكن أن تكون الأمة قادرة على التغيير بدون ارتباطها بالمرجعية الدينية والسياسية، وهذا ما حدث في انتفاضة شعبان عام (1991م) عندما كانت الأمة مرتبطة بالمرجعية الدينية والسياسية وكان التغيير السياسي قاب قوسين أو أدنى، لولا تدخل القوات الأجنبية التي حالت دون التغيير حينها.

فوعي الأمة وجهود العلماء هما أساس عملية التغيير، وفي جانب الأمة يطرح شهيد المحراب مبادئ التغيير السياسي الواجب توفرها في الأمة، ويدعوها:

«أخلاق التغيير السياسي»[40].

وأهم مفرداتها (الإخلاص والتقوى، الدقة في العمل، بذل كامل الجهد، الصبر والاستقامة، الحذر والكتمان، الحكمة، العلاقات الصالحة، ابتكار الأساليب، المسارعة في الخير، البذل بالنفس والأهل، الإيثار، مداراة الناس)[41].

يطرح سماحته مفردات يجب توفرها لدى الشعب والصفوة لنجاح مشروعه السياسي والتغييري والإسلامي. وأوضح سماحته إن بإمكان الشعب إحداث هذا التغيير بمساعدة المجتمع الدولي مع الشعب العراقي[42].

بل يجعل (قدس سره) التغيير على يد الأمة فرضاً، ونجد ذلك في قوله: «يفرض أن يكون للأمة الدور الأساس في عملية التغيير، وفي الاستعداد لملئ الفراغ السياسي والأمني الذي قد يواجهه العراق في المستقبل»[43].

ما يجب على الشعب العراقي بعد التغيير الذي حدث في العراق؟

لا يقتصر دور الأمة عند شهيد المحراب على التغيير السياسي فقط، بل يتعدى ذلك ليشمل ما بعد التغيير مهما كان نوعه وأسبابه ويشتمل دورها على[44]:

1. انتخاب القيادة الإسلامية.

2. انتخاب الإدارة المدنية للمجتمع الإسلامي.

3. تقديم المشورة بكافة أنواعها.

4. الرقابة على الإجراءات التي تقوم بها القيادة والإدارة.

5. الالتزام بالدعم والإسناد للقيادة.

فلابد أن تقوم الأمة بالاستعداد والتهيؤ للقيام بدورها في التغيير وفي إدارة الأمور في المستقبل عند شهيد المحراب (قدس سره).

هذا ما دعا إليه (قدس سره) بعد سقوط النظام وحدوث التغيير على أيدي القوات الأجنبية، حيث تركزت دعوته في إحدى جوانبها على دور الأمة بعد التغيير السياسي، ومع إن مشروع التغيير السياسي الذي طرحه (قدس سره) لم يلق أذن صاغية من القوات الأجنبية وأصبح التغيير حتمياً، فقد تحرك بمشروع لما بعد التغيير، ونجده يذكر بعض تفاصيل هذا المشروع في قوله (قدس سره): «إن على إخواننا العراقيين جميعاً عسكريين وإداريين ومدنيين في المدن والأرياف وأبناء القوات المسلحة ورؤساء العشائر العراقية و (قوى المعارضة الإسلامية) أن يبذلوا كل جهودهم وما في وسعهم في الفرصة المناسبة عندما يفقد النظام قدرته على مسك الأمور وفرض وجوده بالقوة والقهر، وأن يكونوا هم البديل الصالح، ويحافظوا على وحدتهم ويتمسكوا بأرضهم وبلادهم، ويتجنبوا كل أعمال الانتقام والثأر، وأن يكون رائدهم العفو والصفح و تحكيم القانون والشرع بصورة مضبوطة»[45].

هذا مشروع متكامل لما بعد التغيير، ويدعو (قدس سره) في مناسبة أخرى إلى الرجوع إلى إرادة الشعب في الإدارة ونظام الحكم، والمشاركة الشعبية الدستورية في القرار السياسي والاجتماعي وتشكيل الحكومة الوطنية المتماسكة.

ويجب على الشعب المحافظة على الأموال العامة، والسيطرة على الأرض والتمسك بها وعدم التخلي عنها للأجانب، والمحافظة على المؤسسات، كلها أمور واجب على الشعب العمل بها.

ويذكر (قدس سره) عشرة أمور يجب على الشعب العراقي القيام بها بعد التغيير تتلخص في[46]: الحضور من قبل الأمة، والتعاون فيما بينها، وعدم الوقوف مع أي من الأطراف المتصارعة ويقصد بها الولايات المتحدة الأمريكية ونظام صدام، ومسك الأرض، والمحافظة على الأمن والبنى التحتية، وتوظيف الطاقات البشرية، والالتزام بالأحكام الشرعية والتكاليف الإلهية، وتشكيل الهيئات واللجان للإنقاذ.

ومما سبق تبين لنا إن شهيد المحراب (قدس سره) كان له رأياً واضحاً تجاه التغيير الذي حدث في العراق، كما طرح مشروعه الخاص في التغيير الذي لم يلق أذناً صاغية، وأشار إلى أهم واجبات الشعب العراقي قبل وبعد التغيير، وما يجب عليه في الوقت الحاضر، ولا يسعنا في نهاية هذا البحث المتواضع وأمام هذا الفكر العظيم إلا أن نقف إجلالا معترفين بالعجز عن إدراكه.

والله ولي التوفيق…

[1] التغيير ويقصد به هنا التغيير السياسي عن طريق العمل السياسي وهو في الواقع عمل لتغيير المجتمع أي مجتمع العدل، والحق والإصلاح بين الناس والدعوة إلى الله تعالى. انظر المنهاج الثقافي السياسي الاجتماعي، السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) ج 1، الناشر مؤسسة تراث الشهيد الحكيم (قدس سره) مطبعة الرائد للطباعة والتصميم، ص 167.

[2] السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره)، بين مقاومتين، مؤسسة تراث الشهيد الحكيم (قدس سره)، النجف الاشرف ط1 2005، ص 78.

[3] السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره)، المصدر نفسه ص 105.

[4] حول أفعال النظام السابق بحق الشعب العراقي انظر:

* بيان السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره)، الملتقى السنوي للحجاج في مكة المكرمة، 1424ﻫ.

* محاضرة السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره)، بعنوان حقوق الشيعة في 26 /7/ 2003 م.

[5] بيان سماحة السيد الحكيم (قدس سره)، الملتقى السنوي للحجاج في مكة المكرمة 1424ﻫ.

[6] السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره)، بين مقاومتين، مصدر سابق ص 39.

[7] محاضرة للسيد محمد باقر الحكيم (قدس سره)، صدام فرعون العصر في 7 /6/ 1995م.

[8] سياسات النظام وانتهاكات النظام، حديث سماحته بعنوان حقوق الشيعة في 28 /7/ 1999م.

[9] منذر الحكيم، قبسات من حياة وسيرة شهيد المحراب، إصدار اللجنة العليا لإحياء الذكرى السنوية الثالثة لشهيد المحراب (قدس سره)، 2006 ص 281.

[10] السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) المنهاج الثقافي السياسي والاجتماعي، مصدر سابق ص 395.

[11] المصدر نفسه ص 361.

[12] المصدر نفسه ص 362 ـ ص 363.

[13] محمد باقر الحكيم (قدس سره)، بيان أمام الحجاج، مصدر سابق.

[14] محمد باقر الحكيم (قدس سره) نداء سماحته إلى الشعب العراقي بمناسبة الهجوم الأمريكي البريطاني 16 محرم 1424 ﻫ.

[15] محمد باقر الحكيم (قدس سره) بيان إلى الحجاج، مصدر سابق.

[16] المصدر نفسه.

[17] المصدر نفسه.

[18] المصدر نفسه.

[19] كلمة سماحة آية الله العظمى محمد باقر الحكيم (قدس سره) في اجتماع لجنة المتابعة والتنسيق المنبثقة عن مؤتمر المعارضة الوطنية في شباط 2003م.

[20] المصدر نفسه.

[21] لقاء سماحته مع قناة العربية، نقلاً عن منذر الحكيم، قبسات من حياة وسيرة شهيد المحراب، مصدر سابق ص 137.

[22] السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره)، خطبة الجمعة الخامسة في 27 /6/ 2003م.

[23] السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره)، خطبة الجمعة العاشرة في  1/ 8/ 2003م.

[24] السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره)، بين مقاومتين، مصدر سابق ص 147 ـ ص 148.

[25] بيان سماحته للحجاج، مصدر سابق.

[26] كلمة سماحته إلى لجنة المتابعة والتنسيق، مصدر سابق.

[27] نداء سماحته إلى الشعب العراقي بمناسبة الهجوم الأمريكي البريطاني، مصدر سابق.

[28] كلمة سماحته إلى لجنة المتابعة والتنسيق، مصدر سابق.

[29] بيان سماحته إلى الحجاج، مصدر سابق.

[30] نداء سماحته إلى الشعب العراقي بمناسبة الهجوم الأمريكي البريطاني، مصدر سابق.

[31] السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره)، بين مقاومتين ص 64.

[32] المصدر نفسه ص 61 ـ ص 64.

[33] المصدر نفسه ص 65.

[34] كلمة سماحته إلى مؤتمر لندن في 10 / 12/ 2002 م.

[35] محمد باقر الحكيم (قدس سره)، بين مقاومتين، مصدر سابق ص 87.

[36] لقاء مع سماحة الشيخ همام حمودي عضو الشورى المركزية في المجلس الأعلى في 5 /4/ 2007.

[37] انظر خطبة سماحة السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) عند وصوله في النجف الاشرف.

[38] كلمة سماحته إلى لجنة المتابعة والتنسيق، مصدر سابق.

[39] السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره)، المنهاج الثقافي، مصدر سابق، ص 315 ـ ص 316.

[40] المصدر نفسه، ص 165.

[41] انظر مفردات أخلاق العمل ألتغييري، محمد باقر الحكيم (قدس سره)، المنهاج الثقافي، المصدر نفسه، ص 185.

[42] انظر حول مزيد من دور الشعب في التغيير في فكر شهيد المحراب (قدس سره)، بين مقاومتين، مصدر سابق، ص 95.

[43] بيان سماحته إلى الحجاج، مصدر سابق.

[44] محمد باقر الحكيم (قدس سره)، المنهاج الثقافي، مصدر سابق، ص 260 ـ ص 263.

[45] بيان سماحته إلى الشعب العراقي بمناسبة شهر محرم، مصدر سابق.

[46] انظر التفاصيل في قبسات من سيرة شهيد المحراب، منذر الحكيم، مصدر سابق، ص 286 ـ ص 287.

]]>
http://al-hakim.com/?feed=rss2&p=2920 0
دور المرجعية الدينية والحوزة العلمية في بناء المجتمع الاسلامي http://al-hakim.com/?p=2914 http://al-hakim.com/?p=2914#respond Tue, 19 May 2015 09:47:06 +0000 http://al-hakim.com/?p=2914 tt

بحث شارك في المؤتمر الثاني لإحياء التراث الفكري والعملي للشهيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم 

الباحث: سماحة السيد عبد الكريم الجزائري

            استاذ في الحوزة العلمية ـ بصرة

المقدمة

الحمد لله رب العالمين وافضل الصلاة على سيد الخلائق اجمعين محمد واله الطيبين الطاهرين وبعد:

فأن دراسة تراث العلماء والنظر فيه إنما هو دليل وعي الباحثين والمهتمين والراعين لهكذا دراسات، لما فيها من فوائد جمة على المستويين الروحي والعلمي، فتراث اهل العلم والمعرفة يمثل عصارة افكارهم وجهودهم وخلاصة علومهم وتجاربهم، وبالتالي يكون لها الاثر البالغ في ترشيد حركة الامة ورسم مساراتها للحاضر والمستقبل.

ولاشك أن التطور الكبير الحاصل في العلوم الاسلامية لجماعة اهل البيت (عليهم السلام) إنما هو نتاج تلك الجهود والدراسات التي استفادت من تجارب العلماء السابقين ومباحثهم في مختلف المباحث الاسلامية، الامر الذي أدى إلى اغناء المكتبة الشيعية والفكر الشيعي بمستوً جعله الاول في الدنيا سعة وعمقاً وحجة ووضوحاً .

ومن المهم المفرح أن تؤسس مؤسسة تعنى بتراث اية الله العظمى السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) وتضع بين يدي ابناء الامة الاسلامية عموماً، وابناء مذهب اهل البيت (عليهم السلام) خصوصاً، وابناء الشعب العراقي بشكل اخص نتاج فكره النابغ، وحصيلة تجربته العلمية، والعملية الثورية، والثقافية، والسياسية. وكذلك من المفرح جداً أن تفتح الابواب امام الباحثين والكتاب وتعقد لهم المؤتمرات كي يقدموا دراساتهم واستفاداتهم من تراثه الثر.

أن الشهيد الحكيم (قدس سره) قد اثرى الحركة الاسلامية المتصاعدة بمزيج من النبوغ العلمي المتعدد الجوانب والتجارب المريرة الصعبة؛ اذ استطاع أن يصب هذا المزيج ليكون منهجاً ومدرسة تستفيد منها الامة في معركتها الحضارية المتسارعة احداثها يوماً بعد يوم مع خصومها المحليين والدوليين.

لقد رسم شهيد المحراب (قدس سره) واوضح معالم البناء والنهوض والثبات في الامة من خلال ماطرحه من فكر؛ مستفيداً من الدروس والعبر التي مرت به كعالم ومجتهد، وكذلك كقائد سياسي يواجه طاغوت عصره المدعوم اقليمياً ودولياً. ومن جملة ما طرحه السيد الحكيم (قدس سره) واوضحه بشكل منهجي ـ هو الاول من نوعه ـ معالم البناء الاجتماعي الإسلامي واركان ذلك البناء، معطياً هذه المباحث جهداً متميزاً لكي يخرج بهذا المنهاج الذي طبع بعنوان المنهاج الثقافي السياسي الاجتماعي.

ونحن بهذه المشاركة المتواضعة جداً نحاول المساهمة في هذا المؤتمر الكريم علّنا نحظى بثواب الله تعالى وشفاعة شهيد المحراب (قدس سره).

البناء الاجتماعي

لاشك أن الرسالات الالهية تهتم وتهدف إلى صنع مجتمع انساني متكامل يقوم على اسس صحيحة وسليمة تتجاوب وتتسق مع فطرته التي فطر الله تعالى الناس عليها، تضمن له حياة طيبة خيّرة في عالم التزاحم الدنيوي، وحياة خالدة منعمة في العالم الاخروي.

فالتعاليم الدينية إنما جاءت لتنظم حياة الانسان في جميع مفرداتها واختلاف اصعدتها، فهي تنظم من جهةٍ علاقته برّبة مربيةً فيه روح العبودية الحقة لله تعالى المحررة له من كل أشكال العبوديات الاخرى، وذلك من خلال العبادات المفروضة ومبدأ الطاعة والتسليم المطلق لاحكام الله وقضائه والانقياد التام لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلفائه المنصوص عليهم، لتنسجم حركة الفرد والمجتمع ـ من خلال حركات افرادﻫ في نظام يكمل بعضه بعضاً، فتتوحد وجهة الامة وتسير وفق الغاية الالهية.

ومن جهة اخرى تنظم علاقة الانسان بالانسان في مواضع التزاحم والاختلاف سواء كانوا اهل دين واحد او اهل اديان مختلفة «الناس صنفان إما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق» فتجعل مراتب للحقوق حسب درجات القرابة او الجيرة بالاضافة إلى الدين والانسانية، فتعطي للحياة البشرية نكهة خاصة تكتمل فيها انسانية الانسان ويمتلأ قلبه حباً للاخرين فيتحمل مسؤولياته تجاههم برحابة صدر ورضا نفس يستشعر خلالها انواع اللذائذ المعنوية، حتى يصل إلى درجة يتحول معها إلى باحث عن الواجبات والمسؤوليات الاجتماعية، والانسانية، والدينية، لا مبحوث عنه.

أما الاسس التي يقوم عليها البناء الاجتماعي الاسلامي الصحيح فيلخصها اية الله العظمى شهيد المحراب (رضوان الله تعالى عليه) بستة اركان، وذلك في معرض بيانه للتصور الاسلامي لبناء الجماعة الصالحة، وهي كما يلي:

أ ـ العقيدة الصحيحة والقضايا ذات العلاقة بها.

ب ـ الاخلاق.

ج ـ نظام الجماعة.

د ـ التاريخ.

ﻫ ـ طبيعة حركة الجماعة ونشاطاتها (الخطط والمواقف).

و ـ علاقات الجماعة.

وقد اعطى شهيد المحراب (قدس سره) بياناً موجزاً لهذه الاركان واهميتها قبل الشروع في تفصيلها، ومن اجل استكمال الفائدة للدخول في تفاصيل البحث ولحصول المراد نذكر هذا البيان الموجز:

العقيدة الصحيحة والقضايا ذات العلاقة

لقد عّرف سماحته (قدس سره) العقيدة بانها: (الالتزام القلبي والنفسي لمجموعة من الحقائق الكونية والتي ترتبط وتنعكس ـ في نظرية اهل البيت (عليهم السلام) على العمل والسلوك الانساني في القول والعمل والرؤية للمستقبل والاهداف) مبيناً بعد التعريف مفردات العقيدة؛ اي ما يجب أن يؤمن به الانسان المسلم مؤكداً على مفردة مهمة جداً ـ وكما ذكر هو أيضا ـ وهي الولاية.

الاخلاق

اكد سماحته (قدس سره) في معرض بيانه لهذا الركن على اهميه في النظرية الاسلامية، قائلاً: (في النظرية الاسلامية واحاديث اهل البيت (عليهم السلام) نجد للاخلاق دوراً مهماً جداً، وتمثل القاعدة الثانية من حيث الاهمية بعد العقيدة بالنسبة إلى البناء الاجتماعي والى الحركة الاجتماعية) مقسماً هذا الركن إلى اربعة اقسام:

الاول: الاخلاق ذات العلاقة بالسلوك الشخصي والسيرة الذاتية للافراد.

الثاني: الاخلاق الاجتماعية وهي: الاخلاق ذات الارتباط بالناس، وكيفية التعامل معهم ومداراتهم، وهو قسم موجود في بحوث وكتب الاخلاق.

الثالث: الاخلاق السياسية: وهي الاخلاق التي لها علاقة بالعمل السياسي والاجتماعي وادارة عملية التغيير، والمواجهة مع قوى الظلم والاستكبار والفساد.

الرابع: اخلاق الصفوة، التي لابد أن تتصف وتتميز بها عندما يتم اعدادها.

نظام الجماعة

وقد اكد (قدس سره) على حيوية هذا الركن في عملية البناء الاجتماعي، حيث جاء في حديثه: (أن اية جماعة لا يمكن أن تبنى بناءً صحيحاً مالم تكن ـ هذه الجماعة ـ مضبوطة بنظام يحدد المواقع والادوار في ركن حركة هذه الجماعة ووجودها، وهذا الموضوع من الاركان المهمة).

بعد ذلك يقسم (رضي الله عنه) النظام إلى اربعة عناصر أساسية:

العنصر الاول: المرجعية والولاية، مشيراً إلى وجود بعدين للمرجعية والولاية في هذا العصر:

احدهما: عقائدي، يمثل امتداداً للامامة والنبوة .

والاخر: يمثل النظام والاطار الذي تتحرك فيه الجماعة.

العنصر الثاني: الصفوة.

العنصر الثالث: المؤسسات التي تتحرك من خلالها الجماعة، مقسماً ايّاها إلى مؤسسات اصيلة شرعها الإسلام وتتصف بالثبات، ومؤسسات مبتكرة يخترعها الانسان ويقرّها الإسلام.

العنصر الرابع: الامة ودورها، ومسؤولياتها، وواجباتها، وحقوقها.

التأريخ

وقد جاء في معرض بيانه (قدس سره) لاهمية التاريخ في البناء الاجتماعي: (..لايمكن أن ينفصل هذا الحاضر في وجوده عن حركة الماضي، كما لايمكن أن ينفصل هذا الحاضر عن المستقبل؛ لان حركة الانسان هي حركة تكاملية… حتى يصل إلى الكمال المطلق في الحركة الاجتماعية، وذلك عندما يعم العدل والحق الارض كما اكد القران الكريم ذلك..)

ولاشك أن التاريخ يشكل اغناء تجريبياً لهذه الاجيال للاستفادة من مسيرة الاجيال التي سبقتها من حيث القدوة الحسنة والعبرة، لتستمر مسيرتها وفق الخطى السليمة التي سار عليها السابقون الصالحون، وكذلك تجنب الهفوات والاخطاء التي سقطت فيها الاجيال السابقة، كما يشكل التاريخ عاملاً معنوياً ايجابياً يعزز ثقة الاجيال بنفسها من خلال الانجازات الكبيرة التي حققها السلف الصالح. وقد اعتمد القران الكريم اسلوب التذكير من خلال التعرض إلى ذكر مسيرة الامم السابقة بخيرها وشرها؛ من اجل اعتبار الامة الحاضرة والاستفادة من التجارب الانسانية السابقة.

طبيعة حركة الجماعة ونشاطها

وقد جاء في بيانه لهذا الركن: (.. من حيث المناهج والخطط والمواقف والاعمال التي تقوم بها هذه الجماعة، وهي قضايا ذات علاقة بالحركة اليومية وانسجامها مع الأساس والقواعد والاطار الذي تتحرك فيه نحو المستقبل، وارتباط ذلك بتاريخها وهذا جزء مهم من بناء الجماعة).

علاقات الجماعة

وجاء في بيانه: (سواء علاقتها بالجماعات الاخرى ام بعضها ببعض، فأي جماعة لابد في بنائها من تشخيص القاعدة الاساسية لعلاقات بعضها ببعض، والخطوط الاساسية لعلاقاتها مع غيرها من الجماعات، فالمسلمون مثلاً كجماعة، ماهي علاقتهم بالمشركين؟ وماهي علاقاتهم بأهل الكتاب؟ وماهي علاقاتهم بالدول والامم الاخرى؟).

وبعد أن استعرضنا الاسس التي بيّنها شهيدا لمحراب (قدس سره) للبناء الاجتماعي، نركز في بحثنا حول الركن الثالث موضوع البحث، وهو نظام الجماعة، والذي قسمه إلى عناصرجعل المرجعية في أول قائمتها، وكذلك ذكر الحوزة العلمية ضمناً في العنصر الثالث الذي اسماه بالمؤسسات، وقد جاء بيانها ص251 من المنهاج الثقافي السياسي الاجتماعي حيث صنف الحوزة العلمية ضمن المؤسسات الثابتة الاصيلة التي شرعها الإسلام وهذا نصه: (وهي ـ مؤسسة الحوزة العلمية ـ تُعد من المؤسسات الثابتة التي نص عليها القرأن الكريم، واهتم بها اهل البيت (عليهم السلام)، وبقيت قائمة ومؤثرة ولها دور اساسي ورئيسي في حركة الامة طيلة قرون عديدة، والتي نعني بها مؤسسة التفقه في الدين، والوصول إلى مرحلة الاجتهاد ومعرفة الحكم الشرعي والموقف العملي لحركة الامة قال تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[1].

ومن الواضح أن الركن الثالث ـ وخاصة المرجعية والحوزة العلمية ـ له الدور الكبير والاساسي في عملية البناء الاجتماعي، فالمرجعية والحوزة العلمية تقومان بحفظ اوبيان او إدارة او تربية او رسم الاركان الاخرى، وهذا إنما يتضح أكثر من خلال معرفة موقع المرجعية ودورها ومسؤولياتها في الامة. وقد ذكر ذلك شهيد المحراب (رضي الله عنه) وهو ما موجود في الجزء الثاني من موسوعة الحوزة العلمية والمرجعية، وسوف نتعرض له في هذا البحث بشئ من الايجاز.

موقع المرجعية

وقد جاء في شرحه (قدس سره) لهذا الموقع ما نصه: (أن المرجعية ـ وفي احد ابعادها ـ تعتبر من حيث الموقع والاهمية المؤسسة الثانية في الرتبة ـ حسب تصور النظرية الاسلامية في تنظيم الجماعة والمجتمع الصالح ـ اي: تأتي بعد مؤسسة الدولة والكيان السياسي الاسلامي، والولاية بمعنى الحكومة الاسلامية، فالدولة تعتبر المؤسسة الاولى، والمرجعية هي المؤسسة الثانية، وعلى اساس هذا الفهم نجد في تراثنا الاسلامي ـ الذي ورثناه عن ائمتنا الاطهار (عليهم السلام) وعن علمائنا الكرام ـ هذه القداسة لهذا الموقع الاسلامي فهي تتولى بصورة اجمالية: موقع الدولة ومهماتها في حال غياب الدولة الاسلامية او الولاية العامة، وكذلك في حال عدم الاعتراف بشرعية الدولة في بعض المجالات، او في ظلها اذا كانت شرعية في الجملة ولكن لملئ الفراغات الخاصة بالجماعة).

وفي بداية بيانه لهذا الموقع ذكر شهيد المحراب (قدس سره) مايلي: (..وضع الائمة (عليهم السلام) نظام المرجعية الدينية او (ولاية الفقيه) فان هذا النظام يتلخص في تنصيب المجتهد من علماء مذهب أهل البيت (عليهم السلام) الجامع للشرائط ـ العلم بالشريعة، العدالة العالية، الصفات الشخصية المناسبة من الخبرة، والشجاعة، ومواساة المؤمنين، والقدوة في السلوك ـ مرجعاً لاتباعهم، وذلك للقيام بالوظائف الاساسية للامامة وهي: (الامامة) لشؤون المسلمين، و(الافتاء) لبيان مفاهيم الرسالة الالهية، وبيان معالم الدين وابلاغها والتبشير والانذار بها، و(القضاء) في موارد النزاع والتداعي والفصل والخصومات.

وفي الاخير يؤكد سماحته بعدها العقائدي بالاضافة إلى موقعها التنظيمي المتقدم في الامة، فيقول: (أن المرجعية تمثل نيابة وامتداد للامامة، التي هي امتداد للنبوة… ولذا جاءت هذه المقولة المعروفة (ولاية الفقيه امتداد لحركة الانبياء).

مسؤوليات المرجعية

ومن خلال بيان موقع المرجعية تتضح المسؤوليات المناطة بالمرجعية، حيث تبين انها امتداد للامامة التي هي امتداد للنبوة، وقد اشار القرأن الكريم إلى مسؤولية الأنبياء والرسل، وبذلك تكون مسؤولية المرجعية هي ذات المسؤولية التي تحملّها الأنبياء، وهي الافتاء، والقضاء، والولاية، وهي ما ذكرها السيد الحكيم (قدس سره) في ص 25 من الجزء الثاني لموسوعة الحوزة العلمية والمرجعية، مبيناً أن الافتاء بمعناه الواسع يشمل: بيان وابلاغ الشريعة الاسلامية بأحكامها ومفاهيمها وعقائدها ونظرتها إلى الكون والحياة والتاريخ والسنن والاخلاق، واستيعاب وابلاغ الرسالات الالهية، وتلاوة ايات الله والمحافظة عليها، وهداية الناس إلى الحق والهدى والصلاح والعقيدة السليمة، واخراج الناس من الظلمات إلى النور.

ولو راجعنا الاركان الستة المتقدمة لبناء الجماعة الصالحة لوجدناها موجودة بأجمعها في قائمة المسؤوليات التي تتحملها المرجعية، فمنها ماهو مذكور بلفظه كالعقيدة والاخلاق والتاريخ، ومنها ماينطوي تحت الهداية والاصلاح والابلاغ وبيان الاحكام والمفاهيم الاسلامية؛ الامر الذي يجعل المرجعية هي الركن الأساس في كل عملية البناء الاجتماعي، اذ بدونها لايمكن أن تأخذ الاركان الاخرى اثرها في الامة، بل ان هذه الاركان تعتمد اعتماداً رئيسياً على المرجعية، من حيث بيان حقيقة هذا الركن او ذاك او من حيث ايصاله إلى الامة سليماً صحيحاً، او من حيث المحافظة عليه.

موقع الحوزة العلمية

لو راجعنا تاريخ الحوزة العلمية لوجدناها قد تأسست منذ زمان أمير المؤمنين (عليه السلام)، ابان خلافته في الكوفة، ثم تطورت في زمان الصادقين (عليهما السلام) واستمرت إلى يومنا هذا، وقد كان لها الاثر البالغ في حركة الامة، ناهيك عن كونها المدرسة التي تخرج منها المراجع العظام في عصر الغيبة، اضافة إلى اعداد كبيرة من العلماء والباحثين والمصلحين والثوار والاساتذة والمبلغين والخطباء والكتاب والشعراء.

وقد تعرض شهيد المحراب (رضي الله عنه) إلى أهمية الحوزة العلمية في موسوعة الحوزة العلمية والمرجعية الجزء الاول ص 22 قائلاً: (انه مشروع الحوزة العلمية ـ المشروع الثاني ـ بعد مشروع الدولة الاسلامية ـ من حيث الاهمية في كل الوجود والتاريخ الاسلامي الذي تمكن أن يحفظ القرآن الكريم والسنة والعلوم الاسلامية، ويحفظ وعي المسلمين وحياتهم وحركتهم).

ثم يستشهد سماحته (قدس سره) على أهمية الحوزة العلمية ودورها في الامة الاسلامية باستمرار واتساع قاعدة اتباع مذهب اهل البيت (عليهم السلام)، رغم عدم وجود دولة خاصة بهم تحفظ لهم خصوصياتهم، وانما كانوا يعيشون ضمن الدولة الاسلامية العامة التي اصابها الكثير من الانحراف والضعف وواجهتها الكثير من الالام، بالاضافة إلى عمليات القمع والمطاردة والمحاصرة التي تعرض لها اتباع المذهب على مر العصور، حيث تمكنت الحوزة العلمية أن تحفظ لجماعة مذهب اهل البيت (عليهم السلام) وجودها، وان تطورها وتوسعها حتى اوصلتها إلى هذا المستوى، بحيث استطاعت هذه الجماعة أن تقيم حكماً اسلامياً في ايران، اضافة إلى الانجازات الكبيرة التي تحققت في بلدان تواجد هذه الجماعة.

ولو رجعنا إلى ماحفظته الحوزة خلال حركتها (القرآن، السنة، العلوم الاسلامية، وعي المسلمين، حياتهم، حركتهم) نجد أن كل اركان البناء الاجتماعي مطوية هذه في الأمور، وبالنتيجة تكون الحوزة اساساً مهماً وحيوياً في البناء الاجتماعي الاسلامي.

ومن الطبيعي أن الحفظ هنا يعني. اولاً: ابعاد كل ماهو غريب او دخيل، اضافة إلى حفظه من النقص، ثانياً: ايصاله إلى الامة وتعليمها وربطها بعقيدتها وخصوصياتها المذهبية ورفع مستوى وعيها، لتتمكن من البقاء والثبات، واّلا كيف توسعت وقويت هذه الجماعة التي كانت محاصرة؟!

وبعد ما تقدم نخلص إلى كون مسؤولية المرجعية والحوزة العلمية هي مسؤولية واحدة وان كانت هذه المهمة تقوم بها بصورة عملية الحوزة العلمية وتلك تقوم بها المرجعية فانما ذلك يعود إلى سلم الدرجات العلمية والقيادية الذي تستتبعه المسؤوليات سعة او ضيقاً ولاشك، خاصة اذا أخذنا بنظر الاعتبار ان الحوزة العلمية هي مؤسسة ترعاها المرجعية من النواحي: العلمية ـ من حيث التدريس، والمنهج، والمدارس ـ والمعيشية نسبياً والتربوية والادارية، فالمرجعية تمثل القيادة الشرعية للمسلمين عموماً بما فيهم الحوزة العلمية، والحوزة العلمية هي المؤسسة الاسلامية الاكثر قرباً والتصاقاً بالمرجعية.

لقد قطعت المرجعية ومعها مؤسستها الاولى (الحوزة العلمية) شوطاً بعيداً عبر أكثر من عشرة قرون اي من غيبة بعد الأمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) عام 329 ﻫ والى يومنا هذا، اثبتت من خلال هذه التجربة الطويلة والصعبة ـ في ظل حكام ظالمين ـ قدرتها على بناء مجتمع اتباع اهل البيت (عليهم السلام) والمحافظة على عقائدهم وولاءاتهم، محققةً انجازات كبيرة وحيوية عبر التاريخ، وقد اشار سماحة السيد الشهيد الحكيم (قدس سره) إلى هذه الانجازات وكما هو موجود في الجزء الثاني من موسوعة الحوزة العلمية ص 44 قائلاً: (وفي بعد آخر نجدها ـ المرجعية الدينية كمؤسسة ـ من الناحية الواقعية العملية افضل مؤسسة تمكنت أن تقدم خدمات كبرى إلى الإسلام والمسلمين بصورة عامة، والى جماعة اهل البيت (عليهم السلام) بصورة خاصة، فلقد تمكنت على مر الدهور من:

1 ـ أن تحافظ على الإسلام الاصيل النقي في عقائده وقيمه ومفاهيمه ومنابعه الاصيلة وذلك من خلال الاعتماد والاخذ من القرآن الكريم واهل البيت (عليهم السلام).

2 ـ وفي الوقت نفسه استمرت في ابقائها باب الاجتهاد المضبوط (هو الاجتهاد الصحيح الذي يكون طبق القواعد والضوابط الاصولية المستنبطة من الكتاب الكريم والسنة النبوية، في مقابل الاجتهاد بالرأي الذي يعتمد الظنون والاستحسان) مفتوحاً، لتواصل هذه الحركة العلمية العظيمة وهذا الانجاز الكبير في المعرفة على قدرتها في معالجة المستجدات في الحياة الانسانية في ضوء الحكم الشرعي والنصوص القرأنية والسنة النبوية.

3 ـ استطاعت المرجعية أن تحافظ على وجود الجماعة الصالحة وحيويتها التي كانت ولازالت تتحمل المسؤوليات العظمى في التاريخ الاسلامي، بل قامت المرجعية الدينية بتنمية وتطوير هذه الجماعة والوصول بها إلى هذا المستوى الراقي في الكم والكيف؛ حتى اصبحت الجماعة الاولى في العالم الاسلامي والمتميزة بين الجماعات التي تتحمل المسؤوليات العظام في هذا العصر.

4 ـ والى جانب ذلك كله تمكنت هذه المرجعية ومؤسساتها من المحافظة على معالم الثقافة الاسلامية الاصيلة ليس على المستوى النظري وفهم هذه الثقافة فحسب، هي بل على المستوى التطبيقي والعملي، وبقاء هذه الثقافة حيّة وفاعلة في اوساط الامة، ولاسيما جماعة اهل البيت (عليهم السلام)، هذه الثقافة المعروفة بثقافة اهل البيت (عليهم السلام) او الثقافة الشيعية، وكانت المحافظة على هذه الثقافة ـ نظرياً وعملياً ـ من أهم الانجازات العظيمة للمرجعية، حيث يتبين ذلك من ملاحظاتنا لعالم هذه الثقافة.

5 ـ مضافاً إلى ذلك كله، الانجاز الذي قامت به المرجعية الدينية الصالحة في المحافظة على مجموع ثقافة اهل البيت (عليهم السلام) بتفاصيلها العقائدية والاخلاقية والشرعية والتاريخية، والتي تمثل انجازاً عظيماً آخر يمكن أن تضيفه إلى الانجازات الكبرى للمرجعية…)

ومن خلال هذه الانجازات الكبيرة والعظيمة التي حققتها المرجعية ومؤسساتها رغم قساوة وصعوبة الظروف التاريخية التي مرت بها يتضح بشكل جلي دور المرجعية ومؤسساتها في بناء المجتمع الاسلامي.

والحمد لله رب العالمين

والصلاة والسلام على نبيه واله الطاهرين..

والسلام على مراجعنا وعلمائنا الافذاذ العظام..

ولاسيما سماحة شهيد المحراب السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره).

[1] التوبة: 122.

]]>
http://al-hakim.com/?feed=rss2&p=2914 0
علوم القرآن عند الشهيد الحكيم (قدس سره) دراسة مقارنة http://al-hakim.com/?p=2905 http://al-hakim.com/?p=2905#respond Tue, 19 May 2015 07:59:05 +0000 http://al-hakim.com/?p=2905 tt
بحث شارك في المؤتمر الثاني لإحياء التراث الفكري والعملي للشهيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم

الباحث: الاستاذ المساعد د. عامر عمران الخفاجي

رئيس قسم اللغة العربية ـ كلية التربية ـ جامعة بابل

المقدمة

الحمد رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين الى يوم الدين..

اما بعد … فإن القرآن الكريم آخر كتب الله المنزلة، أُنزل على نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخرج به الناس من الظلمات الى النور، ولقد تنزلت الايات والسور المكية، وهي تشتمل غالبا على اصول العقائد من الايمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والامامة، واليوم الاخر، ثم تنزلت الآيات والسور المدنية، وهي تشتمل على العبادات والفروع والاحكام الشرعية.

فيه نبأ من قبلنا، وخبر من بعدنا، وحكم ما بيننا، فيه نبأ من قبلنا من الامم السابقة والقرون الماضية، فيه من قصص الأنبياء والمرسلين والامم والجماعات والاشخاص، والحوادث والمسيرة التاريخية للجماعة البشرية لتكون عبرة لمن اعتبر، وذكرى لمن كان له قلب او ألقى السمع وهو شهيد، وان دنيا الناس على طول العصور والدهور لا تصلح بغير دين الله، وإن الانسانية إينما كانت لا تتحقق سعادتها المنشودة الاّ اذا استضاءت بهدى الله ورسالاتها، وفيه خبر ما بعدنا من أحوال اليوم الاخر، وحياة الدار الاخرة، يوم يقوم الناس لرب العالمين (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ)‏، وفيه حكم ما بيننا من المشاكل والمسائل التي نحتاج فيها إلى بيان وارشاد من المسائل الاعتقادية والفكرية، والمسائل الاخلاقية والسلوكية، والمعاملات المالية، وفروع العبادات والاحكام الشرعية (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)، نعم، لقد كان القرآن الكريم مشعل هداية على طريق الانسانية أضاء لها، فأخرجها من الظلمات إلى النور، وأخذ بأيديها إلى الحق والى صراط مستقيم، وقبل أن نمضي في دراستنا لعلوم القران لابد أن نقف وقفة قصيرة عند حياة الشهيد الحكيم (قدس سره).

التمهيد

شذرات من حياة الشهيد الحكيم (قدس سره).

اسمه ونسبه

هو (محمد باقر بن السيد محسن بن السيد مهدي بن السيد صالح بن السيد احمد بن السيد محمود الحكيم)، واسرته من الاسر العلوية التي يعود نسبها إلى الامام الحسن المجتبى بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن طريق ولده الحسن المثنى (عليه السلام).

ولاته ونشأته

ولد الشهيد الحكيم (قدس سره) في الخامس والعشرين من شهر جمادى الاولى عام 1358ﻫ الموافق 1939م في مدينة النجف الاشرف، ونشأ وتربى في ظل أبيه الامام محسن الحكيم (قدس سره)، والذي عرف بالعلم والتقوى والجهاد والعمل، فاكتسب منه مكارم الاخلاق، غزارة العلم، وروح الايمان، وشمائل أهل البيت (عليهم السلام). وقد كان في تسلسل العمر الخامس بين اخوته التسعة.

وفاته

استشهد اية الله السيد الحكيم (قدس سره) في يوم الجمعة في التاسع والعشرون من شهر آب سنة 2003، قرب بوابة صحن الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، وذلك بوضع متفجرات تزن 700 كلغم من مادة (تي أن تي) وقنابل يدوية في سيارة كانت تقف إلى جانب الصحن.

وقد تركت وفاته الماً كبيرا في نفوس الناس، فحزنوا عليه حزنا شديدا، وبكوا عليه بكاءً شديدا، وشارك في تشييع جنازته الملايين من العراقيين.

تعد شهادة الحكيم (قدس سره) كارثة كبرى على مسيرة الرسالة الاسلامية، وما دماء الشهيد برخيصة، ولكن يهون الامر حين يكون هدر الدم هذا حلقة في سلسلة الدماء التي تروي شجرة الاسلام وتعزز مساره.

فهنيئا للسيد الحكيم حسن العاقبة، خصوصا وانها جاءت مباشرة بعد اتمامه لصلاة الجمعة في مرقد الامام علي (عليه السلام) الذي استشهد في محرابه، انا لله وإنا اليه راجعون.

فصل الأول: جهوده في علوم القرآن

تعريف علوم القرآن:

قال الحكيم: «هي جميع المعلومات والبحوث التي تتعلق بالقرآن الكريم، وتختلف هذه العلوم في الناحية التي تتناولها من الكتاب الكريم»[1]، ويرى العلماء بأنه كل ما يتصل بالقرآن الكريم من دراسات، فيدخل في ذلك علم التفسير، وعلم القراءات، وعلم الرسم العثماني، وعلم اعجاز القرآن، وعلم اسباب النزول، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم اعراب القران، وعلم غريب القرآن، وعلوم الدين واللغة، إلى غير ذلك[2].

تأريخ علوم القرآن

يرى الشهيد الحكيم (قدس سره) بأن علوم القران تروى في عهد الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمشافهة والتلقين، ثم انتقل الرسول إلى الرفيق الاعلى، وقد بدرت بوادر تدعو إلى الخوف على علوم القرآن، وقد سبق الامام علي (عليه السلام) غيره في جمع القرآن، وهكذا كانت بدايات علوم القران[3]، ويذهب أكثر العلماء أن التأليف في علوم القران قد بدأ في وقت مبكر، فقد ذكر ابن النديم كتاب ابن عباس (ت 68 ﻫ) في التفسير، وكتاب عبد الله بن عامر اليحصبي (ت 118ﻫ) في مقطوع القرآن وموصولة، وهو في الهجاء، وهذا يدل على بدأ اشتغال العلماء بالتأليف منذ القرن الاول للهجرة[4].

القرآن وأسماؤه

لا خلاف بين القدامى والمحدثين في تعريف القرآن الكريم إذ هو «كلام الله المعجز المنزل على النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) المكتوب في المصاحف، المنقول عنه بالتواتر، والمتعبد بتلاوته، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه»[5] وعن أسماء القرآن يرى الطبري (ت 310 ﻫ) بأن الله تعالى سمّى تنزيله الذي أنزله على عبده محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) اسماء اربعة: القرآن، والفرقان، والكتاب، والذكر[6]، وقد وردت في القرآن الفاظ في سياق الوصف، مثل: نور، وشفاء، وهدى، وموعظة، ومجيد، وعزيز، وغير ذلك[7]، ويجب علينا أن نفرق بين الاسم والصفة.

نزول القرآن

يرى الكثير من العلماء أن القران الكريم نزل على النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) مرتين:

احدهما: نزل جملة ودفعة واحدة بدليل قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ووقوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ) وقوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ).

والمرة الاخرى: نزل فيها تدريجيا على سبيل التفصيل، بدليل قوله تعالى: (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً) وقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً)[8]، ولقد استغرق نزول القرآن الكريم ثلاثة وعشرين عاما، ويمكن أن نستخلص بعض الحكم والاسرار الكامنة وراء نزول القرآن منجّما، منها سهولة حفظه على الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وليقرأه على الناس على مكث ـ قراءة المتأني ـ حتى يستطيعوا حفظه واستيعابه، وكذلك لتثبيت قلب المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكم كان يلقى من عنت المشركين في مكة ابان سنوات الدعوة.

ثم إن القرآن كتاب هداية، نزل على الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، وكان يهدف إلى تعليم الناس ومجتمع الجاهلية بما شاع فيه من المفاسد والانحراف، ما كان ليستطيع أن يتلقى حكمة الكتاب الكريم دفعة واحدة، فنزول الآيات منجمة وتلاوتها على الناس كان من قبيل التعليم التدريجي لهذا المجتمع الجاهل المتخلف[9]، وان الهدف الاساس من نزول القرآن الكريم هو إيجاد التغيير الاجتماعي للانسانية من خلال رسم الطريق والمنهج لهذا التغيير وخلق القاعدة الثورية التي تميزت بهذا المنهج وإلتزمت وتغيرت على أساسه[10].

المكي والمدني

من الأبحاث المرتبطة بعلوم القرآن الكريم معرفة المكي والمدني، ولقد قسّم العلماء هذين المصطلحين على وجوه ثلاثة:

1 ـ المكي: مانزل قبل الهجرة، و المدني: مانزل بعد الهجرة، وان كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة، وهذا هو اصوب الاراء؛ ذلك لان هذا الرأي يأخذ في اعتباره تأريخ النزول.

2 ـ المكي: مانزل بمكة أو ضواحيها، والمدني: مانزل في المدينة او ضواحيها.

3 ـ المكي: ما وقع خطابا لاهل مكة، والمدني: ما وقع خطابا لاهل المدينة[11].

قال الطباطبائي:

«إن العلم بمكية السور ومدنيتها، ثم ترتيب نزولها له اثر هام في الابحاث المتعلقة بالدعوة النبوية وسيرها الروحي والسياسي والمدني في زمنه (صلى الله عليه وآله وسلم)»[12]

وقد ذكر الباحثون خصائص لكل من المكي والمدني نلخصها فيما يأتي[13]:

خصائص السور المكية:

1 ـ قصر الايات والسور وإيجازها وتجانسها الصوتي.

2 ـ الدعوة إلى أصول الايمان بالله واليوم الآخر وتصوير الجنة والنار.

3 ـ الحث على مكارم الاخلاق والاستقامة في السلوك، وذم العادات المنبوذة، كسفك الدماء، ووأد البنات.

4 ـ مجادلة المشركين وتسفيه أحلامهم.

5 ـ الحديث عن الأنبياء والأمم السابقة.

6 ـ مخاطبة كل الناس (يَا أَيُّهَا النَّاسُ).

خصائص السور المدنية:

1 ـ طول السورة والآية.

2 ـ تفصيل البراهين والادلة على المفاهيم الدينية وأسس العقيدة الإسلامية.

3 ـ مجادلة أهل الكتاب ودعوتهم إلى عدم الغلو في دينهم.

4 ـ التحدث عن المنافقين ومشاكلهم.

5 ـ تفصيل أحكام الرسالة الإسلامية في الحدود والفرائض والجهاد والحقوق والقوانين.

إعجاز القران الكريم

الاعجاز: هو أن ياتي المدعي لمنصب من المناصب الآلهية بما يخرق نواميس الطبيعة، ويعجز عنه غيره من البشر كشاهد ودليل على صدقه[14].

وعليه فعناصر المعجزة هي:

1 ـ عجز البشر عن الاتيان بمثلها.

2 ـ كونها خرقاً لقوانين الطبيعة المعروفة.

3 ـ عدم استحالتها عقلا.

4 ـ أن تكون في سياق اثبات صدق مدعي النبوة أو غيرها من المناصب الآلهية .

ومن المعروف أن القرآن الكريم كان معجزة الرسول الكبرى، وربما تروى له معجزات أخرى، لكن المعجزة التي أجمع المؤرخون والعلماء على نسبتها إليه هي القرآن الكريم.

ولقد اراد الله سبحانه وتعالى أن تكون معجزة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هي صميم رسالته، لم يجر الله على يد الرسول ما كان يجريه من قبل على يد انبيائه، فموسى كان يلقي العصا فتصير حيه، ويدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء، وعيسى (عليه السلام) كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمة والابرص، أما الرسول فكانت معجزته الكتاب الذي اُنزل عليه.

ولقد كانت الجزيرة العربية ابان البعثة النبوية عامرة بالشعراء والخطباء والفصحاء، فكانت المعجزة المحمدية تتفق وعصرها، وكذلك مع طبيعة البيئة العربية التي كانت، إذ ذاك تحفل بالفصاحة وتعتد بالبيان.

ولقد قيل في وجوه اعجازه الكثير من الاراء، حيث إن القرآن معجز من حيث بلاغة اسلوبه ومجال نظم الفاظه، ومعجز من حيث المعاني التي جاء بها، والموضوعات التي طرقها، ولم يشذ منهم في ذلك إلا ابراهيم ابن سيار النظام (ت 320 ﻫ) ومن ذهب مذهبه، فانه قال: ان الله صرف العرب عن معارضته وسلب عقولهم، وكان مقدورا لهم، لكن عاقهم امر خارجي فصار كسائر المعجزات[15].

ولقد لخّص أبو بكر الباقلاني وجوه الاعجاز في ثلاثة اوجه:

1 ـ ما تضمن من الأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلية.

2 ـ ما كان معلوما من حال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه أمي لا يكتب ولا يحسن القراءة.

3 ـ إنه بديع النظم، عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه، وهو قول أكثر العلماء[16].

ويرى السيد الحكيم ما يراه القدامى، ويضيف إلى ذلك، بأن مقارنة القصص التي جاءت في القرآن الكريم بالعهد القديم تؤكد التحدي، إذ تبرز القرآن بصورة اوضح، لان التوراة التي شهد القرآن بتحريفها كانت قصصها واحاديثها عن ماضي الامم واحداثها مشحونة بالخرافات والاساطير وما يسيء إلى كرامة الأنبياء، وكما كان القرآن محيطا بالماضي، كذلك كان محيطا بالمستقبل، فكم من خبر مستقبل كشف القرآن حجابه فتحقق وفقا لما اخبر به، وراه المشركون[17].

النسخ

مادة النسخ وردت في القرآن العظيم دالة على معنيين:

احدهما: النقل، كما في قوله تعالى: (نَستَنسِخُ مَا كُنتُم تَعمَلُونَ).

وثانيها: الازالة، كما في قوله تعالى: (فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلقِي الشَّيطَان).

والنسخ بمعنى النقل، هو من باب قولنا نسخت الكتاب أي نقلته. أما النسخ بمعنى الازالة، فهو من باب قولنا (نسخت الشمس الظل) أي: ازالته.

والنسخ الذي يهتم الاوصوليون بدراسته هو الذي ورد في القرآن العظيم بمعنى الازالة، قال تعالى: (مَا نَنسَخ مِن آيَةٍ أَو نُنسِهَا نَأتِ بِخَيرٍ مِّنهَا أَو مِثلِهَا) وقوله: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ).

أما في الاصطلاح، فهو ـ كما يراه السيد الخوئي (قدس سره) ـ رفع أمر ثابت في الشريعة المقدسة بارتفاع أمره وزمانه، سواء أكان ذلك الأمر المرتفع من الاحكام التكليفية كالوجوب والحرمة أم من الاحكام الوضعية كالصحة والبطلان، وسواء اكان من المناصب الآلهية أم من غيرها من الأمور التي ترجع إلى الله تعالى، بما أنه شارع[18]. ولقد استدل العلماء عقلا وشرعا على جواز وقوع النسخ في الشرائع، والذي يريد التفصيل فليذهب إلى الكتب التي تناولت هذا الموضوع[19].

وقد تناول السيد الحكيم (قدس سره) موضوع النسخ بالاعتماد على دراسة النسخ في القرآن لآية الله السيد الخوئي (قدس سره) في كتابه البيان في تفسير القرآن ص 294 وما بعدها. وكتاب النسخ في القران للدكتور مصطفى زيد.

وقد يختلف السيد الحكيم (قدس سره) مع استاذه السيد الخوئي (قدس سره) في بعض الجوانب التي جاءت في مناقشة موضوع النسخ[20].

المحكم والمتشابه

المحكم لغة: احكم فهو محكم، والمحكم الذي لاخلاف فيه ولا اضطراب.

والمتشابه من الشبه والشبهه والشبيه، والجمع أشباه وفي التنزيل. المتشابهات: المتماثلات[21].

والمحكم في الاصطلاح: هو مالا يحتمل إلا الوجه الواحد الذي أريد به.

والمتشابه: هو ما احتمل وجهين فصاعدا[22].

وقد اتفق العلماء على وقوع المحكم والمتشابه في القرآن الكريم لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ).

ولقد ذكر الطبرسي[23] خمسة اقوال في المحكم والمشابه، ونسبها إلى اصحابها دون اعطاء راي فيها، او ترجيح، واضاف السيوطي عليها اراء أخرى[24]، واورد الطباطبائي عدة روايات عن الائمة الاطهار (عليهم السلام) في هذا الموضوع، حيث سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن المحكم والمتشابه قال: المحكم ما يعمل به، والمتشابه ما اشتبه على جاهله[25]، ويرى السيد الحكيم (قدس سره) في تعريف المحكم: بانه مايدل على مفهوم معين لانجد صعوبة أو ترددا في تجسيد صورته أو تشخيصه في مصداق معين.

وإن المتشابه: هو مايدل على مفهوم معين تختلط علينا صورته الواقعية ومصداقه الخارجي[26]، وهذا المنهج الذي سار عليه السيد الحكيم (قدس سره) موجود في تفسير الميزان[27].

القراءات القرآنية

هي: «علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها معزوا لناقله»[28]، وإن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان «فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) للبيان والاعجاز، والقراءات اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كتابه الحروف أو كيفيتها من تخفيف وتثقيل وغيرها»[29].

وأما حجيتها فـ «إن القراءة على الاحرف السبعة لم تكن واجبة على الأمة، وإنما جائزا لهم ومرخصا لهم فيه»[30].

لقد حاول البعض ان يفسر ظاهرة تعدد القراءات القرآنية في البحوث التفسيرية العامة على أساس أن القرآن الكريم جاء به الوحي إلى الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الشكل المتعدد، وانه نزل على عدة حروف، وان القراءات المتعددة هي هذه الحروف المتعددة[31]، ويرى السيد الحكيم (قدس سره) أن هذه المعالجة لا يمكن تقبلها بشكل مطلق، وفي جميع الحالات، خصوصا في الحالات التي يكون لاختلاف القراءة تأثير على المعنى، ثم يأتي بنموذج اقتبسه من البيان في تفسير القرآن للسيد الخوئي (قدس سره) في تفسير قوله تعالى: (وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ) بالتشديد[32].

الفصل الثاني: جهوده في التفسير

التفسير لغة واصطلاحا

التفسير في اللغة: البيان، والكشف، والايضاح[33]، ومنه قوله تعالى: (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً).

أما التفسير في الاصطلاح فهو: علم يبحث فيه عن القرآن الكريم؛ من حيث دلالته على مراد الله تعالى[34].

شروط التفسير

يرى السيد الحكيم (قدس سره) أن شروط التفسير هي: الاسس والمتبنيات الفكرية والعقائدية التي لابد أن يقوم عليها التفسير، من أجل أن يكون تفسيرا صحيحا للقرآن الكريم[35].

ويشترط في التفسير مايأتي:

1 ـ الذهنية الإسلامية، ويقول: إنها مجموعة من التصورات الإسلامية يعتمد عليها الإسلام، وترتبط بالقرآن الكريم، وتشكل الاطار العام للتفسير الذي من خلاله يتمكن المفسر من الوصول إلى نتائج صحيحة في عمله التفسيري.

2 ـ امتلاك رؤية في وحدة النص القرآني وشهادة بعضه على بعض، وإن في القرآن الكريم ناسخا ومنسوخا، ومطلقا ومقيدا، ومحكما ومتشابها.

3 ـ العقيدة الصحيحة المستنبطة من القرآن الكريم.

أما شروط المفسر فيعنى بها: المواصفات الروحية، والنفسية، والاخلاقية، والعلمية التي يجب أن يتصف بها المفسر[36].

أما العلوم التي يشترط في المفسر امتلاك ناصيتها فثلاثة انواع. هي:

1 ـ علوم اللغة العربية، من نحو، وصرف، ومعان، وبديع، وبيان، ولغة.

2 ـ علوم القران الكريم، كأسباب النزول، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والمكي والمدني.

3 ـ علوم الشريعة، ومنها علم الاصول[37] .

والمتتبع لشروط التفسير والمفسر يجد أن السيد الحكيم (قدس سره) ينطلق من النظرية الإسلامية الشمولية التي محورها القرآن الكريم، وفكر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) واهل البيت (عليهم السلام)، فكلما كان المفسر اطهر وازكى قلبا كان اقرب إلى فهم النص القرآني.

اتجاهات التفسير

هنالك منهجان رئيسيان متبعان في تفسير القرآن الكريم هما: منهج التفسير الترتيبي (التجزيئي)، والتفسير الموضوعي.

1 ـ التفسير الترتيبي (التجزيئي):

وهو المنهج الذي اعتاده المفسرون منذ بدايات نشوء علم التفسير وحتى عصرنا الحاضر، حيث يفسر القرآن الكريم شيئاً فشيئاً، وكما هو مدون في المصحف الشريف، فيبتدأ المفسر بسورة الحمد وينتهي بسورة الناس، ويستعين المفسر في اطار هذا التفسير بظهور الكلام في المعنى المراد، وبالقرائن المأخوذة من القرآن الكريم نفسه[38].

2 ـ التفسير الموضوعي:

ويقوم على أساس دراسة موضوعات معينة تعّرض لها القرأن الكريم في مواضع متعددة أو في موضع واحد، وحدودها في الموضع المعين[39]. ولد هذا المنهج في احضان المنهج الترتيبي، وإن لم يكن انذاك منهجا شاملا لكل القرآن الكريم، وإنما كان المفسرون يقفون احيانا عند موضوع من الموضوعات القرانية كـ الالوهية، أو التقوى، او الشفاعة، أوالصبر ……الخ[40].

ويرى الشيهد محمد باقر الصدر (قدس سره) بأن التفسير الموضوعي هو (اختيار الموضوعات القرآنية وتقسيمها موضوعا في مجال البحث والتناول، ثم نأتي بكل الآيات القرآنية التي تناولت ذلك الموضوع من أجل استنباط النظرية القرآنية الخاصة به، فهي عملية استكشاف للصور بربط اجزائها بعضها ببعض، لاكتشاف التصور القرآني الكامل عن أبعاد الموضوع الذي يتناوله البحث، فليس التفسير الموضوعي هنا مجرد جمع الايات القرآنية وتفسيرها حول موضوع واحد، بل هو استكشاف النظرية القرآنية حول هذا الموضوع من خلال هذا الجمع والتفسير)[41] ويرجح الشهيد الحكيم (قدس سره) التفسير التجزيئي على التفسير الموضوعي؛ معللا ذلك بأن التفسير الموضوعي يمثل تفسير العلماء والمحققين الذين يبتغون استكشاف النظريات القرآنية، في حين ينسجم التفسير التجزيئي مع الحاجات الاجتماعية المعاصرة[42].

التفسير في عصر الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)

قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيهِم)، فقام النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا البيان بقوله وفعله وتقريره، وأذا استثنينا تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القران بالسنة من المصادر المأثورة، سنجد اتساع الخلاف بين المسلمين بشأن حجية ما جاء عن غير هذين المصدرين من التفسير، لذا كان لزاما على المفسر للقرآن الكريم أن ينطلق اولا من تفسير القرآن بالقرآن؛ لأنه ارقى انواع التفسير، قال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا).

وقد اختلف علماء المسلمين في المقدار الذي فسره الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) من القرآن الكريم، وقد اجاب السيد الحكيم (قدس سره) عن ذلك بقوله: «هناك من يعتقد أن النبي لم يفسر إلا ايات من القرآن، ويستند اصحاب هذا القول في ذلك إلى روايات تنفي أن يكون رسول الله قد فسّر القرآن كله تفسيرا شاملا وعلى رأس هولاء السيوطي»[43]، وفي مقابل ذلك توجد أدلة تشير إلى أن النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقوم بعملية تفسير شامل للقرآن كله[44]. والراجح في ذلك اننا لو تصفحنا ما دوّن في السنة النبوية الشريفة مستعرضين ما جاء من تفسير القرآن عن النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لوجدنا الكثير من ذلك، ولأيقنا أن الذي فسّره الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وبيّنه ليس بنادر، كما يظنه البعض، وفي نفس الوقت لا نستطيع أن نقول بانه قد فسر كل القرآن الكريم، بل إن الذي لم يرد له تفسير قد يكون هو الاكثر، أما أنه قد فسر جمله كبيرة من الآيات، فهذه كتب الصحاح والسنن والمسانيد تشهد بذلك، فهي مشحونة بأحاديث مرفوعة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). أما لماذا لم يفسر القرآن كله، وترك بعضه بدون بيان؛ لأنه أمر طبيعي أنذاك لفهم العرب للغة القرأن واسلوبه من جهة، وان سؤال الصحابة (رضي الله عنهم) كان يتعلق فيما قد خفي عليهم من الاسباب، وأما ما سوى ذلك فهو كتاب بلسان عربي مبين[45].

ولا شك أن ندرة ما صح عن الصحابة من الروايات عن النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في التفسير مردها إلى أن التفسير على المستوى العام لم يكن يتناول جميع الآيات، بل كان يقتصر على قدر الحاجة الفعلية، ومسؤولية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ضمان فهم الأمة للقران، وصيانتهُ من الانحراف.

التفسير عند اهل البيت (عليهم السلام)

يعد موضوع مرجعية اهل البيت (عليهم السلام) من أهم المواضيع التي أهتم بها السيد الحكيم (قدس سره)، حيث إن المعصوم من اهل البيت (عليهم السلام) يجرى قوله مجرى قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من كونه حجة على العباد، وقد قالوا: (إن الإمام كالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يجب أن يكون معصوما من جميع الرذائل والفواحش ماظهر منها وما بطن، كما يجب أن يكون معصوما من الخطأ والسهو والنسيان؛ لان الائمة حفظة الشرع والقوامون عليه حالهم في ذلك حال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)[46]، وهم أدرى بالقرآن من غيرهم، وإنهم عدل القرآن، لما اخرجه الترمذي، واورده ابن الاثير عن جابر بن عبد الله، فأنه قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع يوم عرفة، وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: إني تركت فيكم ما أن اخذتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي اهل بيتي[47].

وقد اورد السيد الحكيم (قدس سره) تسع نصوص استدل بها على مرجعية اهل البيت (عليهم السلام) لم اثبتها خشية الاطالة في البحث منها حديث الثقلين وحديث الامان وحديث السفينة وحديث الحق وحديث القرأن وحديث الحكمة وحديث المدينة وحديث الاختلاف وحديث السؤال[48].

التفسير في عصر الصحابة والتابعين

اعتنى السيد الحكيم بتفسيرات الصحابة والتابعين، من بعدهم عناية بالغة، فاما الصحابة فقد اختلفت في حجية تفسيرهم إلا أن تفسير الصحابي عندهم بمنزلة المرفوع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على رأي الحاكم في التفسير[49].

وقد نازعه فيه ابن الصلاح وغيره من المتأخرين، بأن ذلك مخصوص بما فيه سبب النزول أو نحوه، بل لقد صرح الحاكم نفسه بذلك، فقال: ومن الموقوفات تفسير الصحابة، وأما من يقول: ان تفسير الصحابة مسند، فإنما يقوله فيما فيه سبب النزول[50]، وفي الرجوع إلى قول التابعي روايتان عن أحمد، واختيار ابن عقيل المنع، لكن عمل المفسرين على خلافه، وقد حكوا في كتبهم وأقوالهم[51].

والذي تطمئن إليه النفس وترتاح إلى الاخذ به ان قول الصحابي والتابعي إن كان صحيحا يجب الأخذ به والرجوع إليه؛ لأنهم ادرى الناس بكتاب الله بعد الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) واهل بيته (عليهم السلام)، لما شاهدوه من القرائن والاصول التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح وغير ذلك[52].

ولقد بّين السيد الحكيم (قدس سره) المصادر التي يعتمدها الصحابي في ذلك العصر، ولخصّها بالقرآن الكريم نفسه، ثم المأثور عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذلك حديث بعض الصحابه الذين عاصروا نزول القرآن الكريم، ومن ثم مفردات اللغة العربية المتداولة في الكلام العربي، واخيرا اقوال أهل الكتاب من اليهود والنصارى[53].

الخاتمة والتوصيات

نخلص مما تقدم إلى الرؤيا الواضحة التي تبناها الشيهد الحكيم (قدس سره) من خلال نظرياته واطروحاته القرآنية التفسيرية، والتي تتمحور حول دور الإنسان في الاعتماد عليها، لينهل منها باعتبارها مصدر المعرفة، والتي تسهم في معالجة المشكلة الاجتماعية والسياسية والفكرية، وهذا ما يتطلب تحديد المنهج الشامل للقرآن والتدبّر في آياته للوصول إلى المقاصد التي نصبوا إليها. ولا شك أن الرجوع إلى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير القرآن الكريم من حقائق الدين والإسلامي، حيث اجمع اهل العلم على أن الإمام عليا (عليه السلام) وولده الاطهار أعلم الناس بالقرآن، وهذا ما اثبته علماء المعرفة الإسلامية.

واخيرا أوصي واقترح بأن يدرس موضوع المنهج القرآني عند الشهيد الحكيم (قدس سره) كموضوع لرسالة ماجستير أو اطروحة دكتوراه، وكذلك اقترح واوصي بتدريس مادة علوم القرآن للشهيد الحكيم في كليات التربية في اقسام اللغة العربية، كما عملنا على ذلك منذ سقوط النظام المقبور وليومنا هذا، حيث ان المادة مستوفية لشروطها، والتي فيها الوحدة الموضوعية المكتسبة من مرجعية اهل البيت (عليهم السلام).

ثبت المصادر والمراجع

ـ القرآن الكريم

ـ الاسدي، محمد هادي، سماحة اية الله محمد باقر أطلالة على السيرة الذاتية، مؤسسة شهيد المحراب، النجف، 1420.

ـ ابن الاثير، مبارك بن محمد بن الاثير الجزري (ت 606 ﻫ) جامع الاصول من احاديث الرسول. القاهرة، 1949.

ـ الباقلاني، ابو بكر محمد بن الطيب (ت 403 ﻫ) إعجاز القرآن، مطبعة الإسلام، مصر، 1315 ﻫ.

ـ ابن الجوزي، ابو الفرج عبد الرحمن بن علي (ت 597 ﻫ)، نواسخ القرآن، دار الكتب المعلمية، بيروت.

ـ الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة (ت 279 ﻫ) صحيح الترمذي، المطبعة المصرية بالازهر، 1931م.

ـ الحكيم، آية الله محمد باقر، علوم القرآن، ط3.

ـ الحكيم، آية الله محمد باقر، تفسير سورة الحمد.ط2 مطبعة ليلى.

ـ الحكيم، آية الله محمد باقر، المجتمع الانساني في القرآن الكريم، مؤسسة تراث الشيهد الحكيم (قدس سره)، النجف الأشرف، 2006م.

ـ الحكيم، السيد رياض، علوم القرآن دروس منهجية، المركز الإسلامي المعاصر، بيروت ط1 2004م.

ـ الخوئي، السيد ابو القاسم الموسوي، البيان في تفسير القرآن، النجف الأشرف، مطبعة الاداب.

ـ الزرقاني، محمد عبد العظيم، مناهل العرفان في علوم القران، دار احياء الكتب العربية، القاهرة.

ـ الزركشي، بدر الدين، محمد بن عبد الله (ت 794 ﻫ) البرهان في علوم القرآن تحقيق ابو الفضل ابراهيم، دار احياء الكتب العربية، القاهرة 1975م .

ـ السيوطي، جلال الدين، عبد الرحمن بن ابي بكر (ت 911 ﻫ) الاتقان في علوم القران، تحقيق. محمد ابو الفضل ابراهيم، مطبعة المشهد الحسيني، القاهرة 1967م.

ـ الصدر، الشهيد محمد باقر، المدرسة القرآنية، ط2، قم.

ـ الصغير، د. محمد حسين علي، المبادئ العامة لتفسير القرآن، مكتب الرواد، بغداد، 1990م.

ـ ابو شامة، شهاب الدين عبد الرحمن بن اسماعيل، المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز، دار صادر، بيروت، 1975م.

ـ الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، دار الزهراء، بيروت 1978م.

ـ الطبرسي، أبو علي، الفضل بن الحسن (ت 548 ﻫ) مجمع البيان في تفسير القرآن، مطبعة العرفان، صيدا 1333 ﻫ.

ـ السيوطي، أبو جعفر، محمد بن جرير (ت 310 ﻫ) جامع البيان عن تأويل القرآن، القاهرة 1954م.

ـ الطوسي، أبو جعفر بن الحسن (ت460 ﻫ)، عدة الاصول.

ـ الفيروز ابادي، مجد الدين، محمد بن يعقوب بن محمد (ت 817 ﻫ) القاموس المحيط، القاهرة 1935م.

ـ المظفر، محمد رضا، عقائد الامامية، دار الغدير، بيروت،

ـ ابن منظور، جمال الدين، محمد بن مكرة الانصاري (ت711 ﻫ) لسان العرب، مطبعة القاهرة.

ـ ابن النديم، محمد بن ابي يعقوب البغدادي، (ت 711 ﻫ) الفهرست ،1391ﻫ.

ـ الحلي، المحقق ابو قاسم جعفر بن الحسن (ت 676 ﻫ) معارج الاصول، مطبعة سيد الشهداء، قم، 1403ﻫ.

ـ الخفاجي، د. حكمت عبيد، الإمام الباقر واثره في التفسير، مؤسسة البلاغ ط1 2005م.

ـ الخفاجي، د. عامر عمران، منهج ابن الجوزي في التفسير، 1992م.

ـ الرماني، النكت في اعجاز القرآن.

ـ الرفيعي، مجيد، ثراءات أهل البيت القرآنية، دار الغدير، قم 1948م.

ـ مالك بن نبي، الظاهرة القرانية.

[1] علوم القران: 22.

[2] ظ: مناهل العرفان 1: 27 وقد نقل عن ابراهيم بن سعيد المعروف بـ (الحوفي ت 330 ﻫ) وينظر. المرشد الوجيز، ابو شامة: 7.

[3] ظ: علوم القران: 25.

[4] ظ: الفهرست: 35.

[5] ظ: علوم القران: 19

[6] ظ: جامع البيان: 1 /41.

[7] ظ: علوم القران: 21.

[8] ظ: جامع البيان30: 258، الاتقان 1: 23، وقارنه بـ علوم القران، الحكيم: 30.

[9] ظ: البرهان في علوم القران 1: 221، الاتقان في علوم القران 1: 121 الظاهرة القرانية، مالك بن بني 219. وقارنه بـ علوم القران، 32 وما بعدها.

[10] علوم القران، الحكيم: 55.

[11] ظ: البرهان1 /187، الاتقان 1: 9. هنا هل العرفان في علوم القران1: 196 وقارنه بـ علوم القران، الحكيم: 81.

[12] الميزان في تفسير القران 13/ 235.

[13] ظ: علوم القران، رياض الحكيم: 200 وقد نقلها بالنص من السيد محمد باقر الحكيم قارنه بـ علوم القران، الحكيم: 85.

[14] ظ: البيان في تفسير القران، الخوئي: 41، علوم القران، الحكيم: 89.

[15] ظ: النكث في اعجاز القران، الرماني: 110، اعجاز القران، الباقلاني: 41. البرهان، الزركشي 2: 92، وقارنه بـ علوم القران، الحكيم: 134.

[16] اعجاز القران: 48 وما بعدها.

[17] علوم القران، الحكيم: 95.

[18] البيان في تفسير القران: 294 وقارنه بـ علوم القران، الحكيم: 16.

[19] ظ: معارج الاصول، المحقق الحلي: 161، نواسخ القران، ابن الجوزي: 14، عدة الاصول، الطوسي: 167 وما بعدها.

[20] ظ: علوم القران: 174.

[21] لسان العرب، أبن منظور 12: 14.

[22] عدة الاصول، الطوسي 2: 159.

[23] مجمع البيان 2: 239.

[24] الاتقان في علوم القران 2: 302.

[25] الميزان 3: 67.

[26] علوم القران: 192.

[27] الميزان 3: 58 وما بعدها.

[28] قراءات اهل البيت القرانية، مجيب الرفيعي، 9.

[29] الرهان، الزركشي 1: 318.

[30] الاتقان، السيوطي 1: 139.

[31] ظ: علوم القران، الحكيم: 313.

[32] ظ المصدر نفسه، 313 وقارنه بـ البيان في تفسير القران، 117.

[33] ظ: لسان العرب، ابن منظور 6: 361. القاموس المحيط، الفيروز ابادي 2: 110.

[34] ظ: مناهل العرفات1: 471، المبادئ العامة لتفسير القران، 12 وقارنه بـ علوم القران، 246.

[35] تفسير سورة الحمد: 32.

[36] تفسير سورة الحمد: 56.

[37] المصدر نفسه: 60 وما بعدها، وقارنه بـ علوم القران: 269.

[38] ظ: المجتمع الانساني في القران الكريم، الحكيم: 11.

[39] علوم القران: 366.

[40] المجتمع الانساني في القران الكريم: 63.

[41] المدرسة القرانية، الدرس الثاني: 33.

[42] ظ: تفسير سورة الحمد: 110.

[43] علوم القران: 277.

[44] ظ: المصدر نفسه: 277.

[45] الإمام الباقر واثره في التفسير، د. حكمت عبيد: 197.

[46] عقائد الامامية، محمد رضا المظفر: 67.

[47] جامع الاصول، ابن الاثير 1 /187، صحيح الترمذي، 2 /308.

[48] ظ: علوم القرآن: 280 وما بعدها.

[49] ظ: البرهان في علوم القران 2: 157.

[50] ظ: الاتقان في علوم القران 2: 393 وما بعدها، المبادئ العامة لتفسير القران، استاذنا الدكتور محمد حسين علي الصغير: 19.

[51] ظ: البرهان 2: 158.

[52] ظ: منهج ابن الجوزي في التفسير، د. عامر عمران الخفاجي: 100.

[53] ظ: علوم القران: 301 وما بعدها.

]]>
http://al-hakim.com/?feed=rss2&p=2905 0